قائمة المدونة محتويات المدونة

05‏/06‏/2015

مشكلات في تناول الفقه

هناك مشكلات عديدة في تناول الفقه الإسلامي، يقع بسببها: الحرج في الدين، والغلو والتنطع في المسائل، والتمذهب والتطرف في الأراء، بل وعندما تشتد يحدث التفلت من الدين كله بسبب هذه المشكلات، التي في أحيان كثيرة تسيء إلى الدين، وتؤذي رسالة الإسلام.

ومن هذه المشكلات:

 

إدعاء الإجماع:

يحدث أن يبحث أحد عن مسألة في كتب الفقه، وغالباً ما يكون لها فيها "حكم مسبق" فيبحث عن "قول" من أقوال الأئمة الكبار يعضد به موقفه، فيجد - مثلاً - سطر في كلام إمام يقول: "وهذا ما عليه الإجماع" فيطير بهذه الكلمة، يضرب بها كل بر وفاجر، ويوالي ويعادي عليها، ويُفسق هذا، ويُبدع ذاك، بل ويتهم أقرب الناس إليه !! ظناً منه أنه خرق الإجماع !

ولقد رأيت بنفسي، أئمة كبار يقولون هذه الجملة: "وهذا ما عليه الإجماع" ثم لما بحثت في أقوال كل مذهب على حدا وجدت أن العكس كان هو الصحيح، وأن الإجماع كان في عكس رأي الإمام! ونفهم من ذلك أنه ربما "توهم" الإجماع، أو لم يبلغه قول غيره من المذاهب، أو كان يقصد "إجماع" أهل مذهبه هو، أو إجماع أهل بلده من العلماء، مع خلط الباحث بين إجماع الصحابة، وإجماع المذاهب، وإجماع أئمة الاجتهاد، والخلط بين الإجماع القطعي والظني !.

بل إنني وجدت - في بعض المسائل - أن أهل المذهب أنفسهم غير مجمعون على رأي واحد في المسألة.

لذا، فعندما يقرأ أحد في كتب الفقه هذه الجملة: "وهذا ما عليه الإجماع" عليه أن يراجع أقوال كل مذهب على حدا، وأن يضع لنفسه جدولاً يُقّسم فيه الأقوال، وأن يشير إلى المشهور من المذهب، والنادر منه، وأما مسألة "الاجتهاد" و"الترجيح" و"الاختيار" فهو موضوع آخر، لكن ما يهمنا هنا، هو الأمانة في النقل والتحقيق للمسلمين، حتى لا يقع لهم الحرج والتعنت في الدين، وليعرفوا أصل كل قول في المسألة دون محاولة تجهيلهم، أو تعمية وحجب باقي الأقوال عنهم !

*   *   *

الهوى:

يحدث أن يبحث أحد في مسألة في كتب الفقه، فيجد حديثاً ظاهره يؤيد قوله، وفتواه.. ثم يفعل ما فعل أخيه بموضوع: "وهذا مع عليه الإجماع" يطير بالحديث يضرب به كل بر وفاجر، حتى يقع الناس في حرج من دينهم، ومن يعترض أو يتكلم.. فهو يرد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله !.

ولقد وجدت - على سبيل المثال - سبعة عشر حديثاً في مسألة واحدة، فلا يصح أن نأخذ منها حديثاً - غالباً ما يوافق هوانا - وندع البقية، بل لا بد من الأخذ بـ "مجموع الأدلة" كلها وتمحيصها بدقة، مع اعتبار السياق والسرد الذي يأتي فيه كل حديث، لأن تعدد أحوال السائلين كان يتعدد معها الأحاديث، ومن ثم الأقوال.

وللأسف قد وقع البعض في التنازع في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقوية هذا، وتضعيف ذاك، ليقوي بها رأيه ومذهبه! فلابد من الحياد عند دراسة الأحاديث من حيث القوة والضعف، والحجة والبيان.

وحدث أن تطاول صغار على أئمة كبار، يقولون عنهم: "إنهم يتكلمون بغير دليل!، إنهم لا يعرفون الصحيح".. وسبحان الله، لقد كانوا يجمعون ما يستطيعون من أدلة، ويمحصونها، ليصلوا إلى حكم في النهاية، ولكن بعض الأحاديث لا تصح - في مذهبهم - حتى ولو كانت أسانيدها صحيحة، أو يعتبر الحديث الخاص ( المقيد ) عنده عام ( المطلق ) أو العكس، ولكن الصغير عندما لا يعجبه قول إمام من أئمة الفقه، يضرب به عرض الحائط، ويروح يبحث لدليل الإمام على مخرج لتضعيف كلامه !.

وأنا لستُ مع التقليد الأعمى للأئمة، ولست مع تحقير الأئمة عندما تصطدم أقوالهم الصريحة مع رأي أو هوى! إنما مع الجمع بين المذاهب، ومع تمحيص الرؤية الواقعية بأدوات الرؤية والعلوم المستحدثة في فهم الواقع، ثم "الاجتهاد" للخروج بـ "قول" نحسبه هو الصواب، لا "الحق المطلق".

*   *   *

الحق المطلق:

هو الاعتقاد في "الرأي الفقهي" أو "المذهب الفقهي" الحق الخالص المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن كل ما سواه باطل، وهذا الاعتقاد هو الذي يُنشأ حالة الاحتراب داخل الملة الواحدة، ويُطلق أوصاف التبديع والتفسيق والتكفير - عندما يشتد الصراع، ورغم أن جميع الأئمة حذروا أتباعهم من هذه المسألة.. وأمروهم بعدم التطرف في التعصب للمذهب أو أقوال الرجال، والتواضع للعلم، والأدب مع المسلمين، حتى في آدب إنكار المنكر، ونهوهم أن ينكروا منكراً لا يعتبر منكر في مذاهب غيرهم، وشددوا على أن يكون إنكار المنكر فيما فيه اتفاق عام، كمثل كشف المرأة لوجهها، فإذا كان حراماً في مذهب، وفي غيره جائز.. فلا يجوز التعرض لإمرأة تكشف ووجهها - مع حفاظها على الحجاب الشرعي - تحت عنوان "إنكار المنكر" أو حتى فرض ذلك بسلطان الدولة، تعصباً لمذهب معين، وتضييقاً على المسلمين !.

وللأسف عملت "الأحداث السياسية" في إبراز مذاهب، وإخفاء أخرى، وتم الصراع على مناصب القضاء والفتوى، التي كانت تذهب لأتباع مذهب تارة، ثم تدور الدائرة فتأتي لـ "خصومهم" فيفعلون بهم الأفاعيل من حصار فكري، ووشاية عند الظالمين، وحرمانهم من التدريس والفتوى، فزاد الاحتقان، والأحقاد بين الأتباع.

وللأسف تم تربية الأتباع على طريقة "التعصب - الألتراس" وهي تبرير كل خطأ، والدفاع المستميت عن كل رأي وفعل، حتى بلغ بأحدهم أن يقول: إن أبا حنيفة - رحمه الله - كان أعلم بالقضاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا كفر، ولكن التعصب أعمى، يُورد صاحبه المهالك.

ولما كانت المحاكم الشرعية هي المحاكم الوحيدة، ودار القضاء لا بد لها من رجال المذاهب، والتعصب والحق المطلق هو العنوان؛ ثم حصار التربية الفقهية - بل والإسلامية عموماً - في منهج "الإدانة والحكم" دون منهج "التحليل والتشخيص والعلاج"؛ فصار "هاجس" تتبع "إدانة" الناس، والهوس بإجراء الأحكام عاملاً مهماً في حصار النهضة الفكرية، والعلوم الإنسانية، وفي قسوة النفوس.. وفي التقاتل بين أتباع كل مذهب!.

ولو أن الأتباع التزموا نصائح الأئمة في عدم اعتقاد الحق المطلق في مسائل "الاجتهاد"، والنظر برحمة وأدب وسعة صدر للمخالف، أحسب أن ذلك كان سيرفع حالة الغل، والتحاسد، والبغضاء بين المسلمين؛ وكان سيوجههم إلى ما هو أنفع من "الصراع الفقهي".

*   *   *

التناقض:

يحدث أن ينقل أحد قول في مسألة، أو حديث، ثم يخرج له الآخر بحديث مخالف تماماً في نفس المسألة.. فيقع التناقض، والشك في المسائل الفقهية.. كيف يكون للمسألة الواحدة أكثر من حكم والحكم متناقض؟!  ثم يقع التحزب، والعصبية الجاهلية، والتنازع، وضرب الأحاديث بعضها ببعض! وهذا يقول هذا حديث منسوخ، وهذا يقول حديث آحاد ينسخ القرآن الكريم!، وذاك يقول حديث  ضعيف... إلخ من صور التنازع التي يستحيل أن يحدث معها "اعتصام" بحبل الله، ووحدة للمسلمين.. بل كانت هذه إحدى صور "البغي" - بعدما جاءنا العلم - وهذا البغي منشأه التحاسد والتباغض، والغل والعصبية الجاهلية، واتباع سنن بني إسرائيل !!

فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمًا يَتَدَارَءُونَ [أي: تَدافَعوا في الخُصومة واخْتَلَفوا]، فَقَالَ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ " [مسند الإمام أحمد/ 6702]

وفي رواية أخرى: أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: " بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟! أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ؟! أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ ! إِنَّمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، فَاعْمَلُوا بِهِ، وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [مسند الإمام أحمد/ 6806]

وفي رواية: جَلَسْتُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَجْلِسًا، مَا جَلَسْتُ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَغْبَطُ عِنْدِي مِنْهُ: خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ، وَأُنَاسٌ عِنْدَ حُجْرَتِهِ يَتَجَادَلُونَ بِالْقُرْآنِ، فَخَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ كَأَنَّمَا رُضِحَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، أَوْ كَأَنَّمَا يَقْطُرُ مِنْ وَجْهِهِ الدَّمُ، فَقَالَ: " يَا قَوْمُ، أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ، أَنْ تُجَادِلُوا بِالْقُرْآنِ، بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ مُتَشَابِهًا فَآمِنُوا بِهِ ". [المعجم الأوسط للطبراني/ 515]

وللأسف لقد وقع هذا التباغض من قديم بين المدارس الفقهية في مرحلة "الملك العضوض"، حتى لقد أفتى البعض بعدم الزواج من المخالفة له في المذهب! ووقع السب والقدح في الزمم والضمائر، والرمي بالنفاق والجهل.. إلخ، لدرجة التقاتل بين أبناء الملة الواحدة على مسائل من فروع الفروع، ولا حول ولا قوة إلا بالله !.

وإنه لا تناقض في الحكم الواحد.. وإنما كل حديث يحمل دلالة خاصة على "حكم معين" أو "حالة معينة" منها ما يكون حكماً عاماً، ومنها ما يكون حكماً خاصاً.. ومنها ما يكون توجيهاً إيمانياً وتربوياً، ومنها ما يكون حكماً قضائياً، ومنها ما يحمل الوعيد والتحذير لا الحكم الشرعي الواقعي، ومنها ما يحمل العقوبة المطلوبة... إلخ، لذا فإن الفقه الإسلامي نشأ نتيجة حركة مجتمع يتحرك بهذا الدين، ويسأل عن "قضية واقعية"، لا "صراعاً نظرياً" !

ولهذا ففي مدارس الفقه الإسلامي - عندما يُنقل عن الأئمة - أن تجد في النقولات الشيء وعكسه، وهذا ما يبدو ظاهرياً، لكن الحقيقة أنها كانت حالات واقعية تستلزم اجتهاداً، وكان هناك قضاء تُعرض عليه آلاف الأحوال والظروف المختلفة، لذا كان كلامهم يأتي في سياق عملي؛ مرتبط بحالة واقعية.. الجهل بها؛ والجهل بطبيعة الفقه؛ يُحدث أزمات وصراعات، تُفقدنا الرؤية الصحيحة، واستنباط التشريع الصحيح.

*   *   *

فقدان التوصيف الواقعي:

 لقد نشأ الفقه الإسلامي ومدارسه، استجابة لحركة "المجتمع الإسلامي" وتصريفاً لشؤونه، ومن ثم بدأت المدارس الفقهية في النشأة والعمل استجابة لواقع حي منظور أمامها، وأصبح خريجو هذه المدارس يعملون في مناصب القضاء والفتوى القائمة في عصرهم، وبدأت نشأة المدارس الفقهية وتطورها مع بداية عصر "الملك العضوض"، العصر الذي انحصر فيه ظل الشريعة عن سياسة "الحكم والمال"، وتضخم فيه جانب فقه العبادات على فقه المعاملات، والسياسة، وتنظيم المال، وشؤون الأمة، وفي هذا العصر الممتد والتي توسعت فيه الفتوحات الإسلامية، تقلبت الأحوال بين الاستبداد الشديد، والظلم، واستباحة دماء المسلمين، وكذلك أحوال من العدل، والصدق، والدفاع عن الإسلام وأهله.. لكن الخط العام لها أن الحكام لم يُظهروا "الكفر البواح" الذي يُسقط شرعية دولهم، ثم انتقلنا إلى مرحلة أشد وأخطر على الأمة وهي "الملك الجبري والطواغيت" وسقوط وحدة المسلمين السياسية، وانسلاخ هويتهم، وضياع ميزان "الشرعية" الحقيقي الذي يمنحه الإسلام للحاكم أو الدولة؛ وهو: "الاجتماع على الإسلام والانتساب للشرع والتحاكم إليه، وعدم ظهور الكفر البواح"..

وتوقف نمو الفقه الإسلامي، وأصبح تناول الفقه الآن، يفتقد التوصيف الواقعي لأحوالنا.. فهناك من يحاول فهم الفقه من خلال أننا في العصر المكي - عصر الاستضعاف،  وهناك من يحاول أن يطبق الفقه من خلال أننا في الفترة المدنية - عصر التمكين،  وهناك من يحاول إنزال حكم الفرد المستضعف على حكم الجماعة الممكنة، وهناك من لا يتفق بعد على ماهية التمكين وشروطه، وهناك من يُنزل حكم الجماعة الممكنة على حكم الفرد المستضعف، والأعم الأغلب يبحث عن صورة تاريخية يريد أن يتلبس بها، ويعيش فيها ويترك واقعه وعصره يمضي بعيداً عنه، وتنشأ من هنا فجوة نفسية وحضارية وتاريخية.. بين أناس تريد أن تعيش في التاريخ وتستدعي التاريخ بكل هيئته، وظروفه، وأحواله، وفتاويه.. وبين أناس تريد أن تعيش الحياة المعاصرة العلمانية دون مقاومتها أو الرغبة في تغييرها؛ فيتولد العجز عن "التوصيف الواقعي" الصحيح والدقيق لأحوالنا، لأنه يفقد أدوات الرؤية الواقعية.. التي تتطلب الآن إدراكاً للعلوم التاريخية والسياسية والاجتماعية والنفسية والإعلامية، والاستشراقية... إلخ، بل وأصبحت هذه العلوم ليست مجهولة فقط للفقيه.. بل بعيدة عن "التأصيل الإسلامي" لها؛ نتيجة المفهوم الخاطئ المنتشر نحو "العلم الشرعي" وقصره فقط على تناول كتب الفقه ومدارسه؛ فحدثت فجوة هائلة في "القدرة على توصيف الواقع" التوصيف الصحيح الذي يُبنى عليه حكم فقهي سليم ومتكامل، وحدثت فجوة في إلمام الفقه بمستجدات الواقع المعاصر، ولا أقصد جانب العبادات والحدود والمحرمات فهو جانب ثابت لا يتغير، إنما جانب المعاملات: من سياسة، وجهاد، ومال، وعودة للصورة الصحيحة التي يتطلبها الإسلام، والتخلص من القهر، والاستبداد، والظلم، والفساد، والعلمانية، والطغيان الذي تغرق فيه الأمة، ولا تجد من سبيل!.

وهنا نجد محاولة استدعاء الفقه منزوعاً عن سياقه التاريخي والواقعي الذي نشأ فيه، ونجد محاولات الانحراف والتمييع والغلو.. التي تنشأ حتماً من خلال التناول الخاطئ للفقه؛ عندما يُنزع عن "ظروفه الواقعية" و"شروطه الحضارية" و"مجتمعه القائم"، حيث نجد من يبحث عن "دليل" ليوافق هوى في نفسه، أو حكم مسبق لديه.. يجد وفرة كثيرة لن تُعجزه أن يجد مخرجاً لما يريد !.

ومن هنا تنشأ حالة من "الفوضى" في تناول الفقه الإسلامي، أو إن صح التعبير "الفقه السياسي الإسلامي"، الأمر الذي يجعل الأهواء تتداخل، وتفترق الأمة، وتتشكك في صحة مسلكها - إذا اختارت طريقاً - مما يجعلها لا تصمد أمام التحديات الكبرى.

ولهذا كان النظر في الأحكام الفقهية، واستدعائها من كتب الفقه - التي نفخر ونعتز بها - لابد وأن يراعي الظروف الواقعية والتاريخية التي كانت فيها، ونحاول بكل "موضوعية وتجرد" تحليل البيئة الواقعية لهذه الأحكام، ثم ننظر في "الأدلة" التي استند إليها الفقيه لإصدار هذا الحكم.. ثم العودة مرة ثانية إلى واقعنا، والنظر فيه - بعد إدراك العلوم المطلوبة لفهم هذا الواقع المعقد والمتشابك والمتغير - لمقارنة الظروف الواقعية والتاريخية، ومحاولة وجود أقرب صورة للمقاربة.. وفي حال عدم وجود وجه للتشابه.. يعمد الفقهاء المعاصرون إلى تجشم عناء "البحث والاجتهاد" للوصول إلى الصورة التي تُخرج هذه الأمة من نفقها المظلم، وتعود بها إلى "خير أمة أخرجت للناس" تحمل رسالة الله إلى العالمين.. وتجاهد في سبيله لا تخاف لومة لائم.

أما محاولة "التترس" بأقوال فقيه هنا أو هناك، لـ "تبرير" اختيار واقعي مسبق، دونما اعتبار لظروفه التاريخية، ودون التدقيق فيها، وتمحيص أدلتها، ودونما اعتبار للظروف الواقعية، ودون إدراك لكافة أبعادها، فهذا لا شك مما يُحدث أزمات وكوراث فكرية وحركية ودعوية.. تؤخرنا عن قيام هذا الدين من جديد.

*   *   *

التمذهب:

وقد قال فيه ابن حزم رحمه الله: "وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة -نعني التقليد -  إنما حدثت في الناس وابتدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة وثلاثين عاما من وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدا على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجلًا يقلد عالما بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا ، فيأخذ بها ولا يخالف شيئا منها ." ا.هـ [الإحكام في أصول الأحكام" (6|126)]

وفي الحقيقة المشكلة ليست في أن يتخذ المسلم مذهباً فقهياً، ويطمئن له، ويسير عليه.. المشكلة في "الحرب" الدائرة بين أتباع المذاهب، وهذه وإن قلّت حدتها عن ما سبق، لغياب الشرع بالكلية عن واقع حياتنا العلمانية، فإننا نجد أن هذا الصراع والحرب تطل برأسها عند الدعوة إلى الاحتكام للشرع! ولنا أن نعرف مدى خطورة هذا الصراع في بيئة بالأصل علمانية، ومدى خطورة ذلك على تشكيك المسلمين في أمر دينهم! فـلئن كانت الصراعات القديمة بين المذاهب تتم في بيئة تؤمن جميعها بحاكمية الشرع، والاجتماع عليه، والانتساب له، فالأمر الآن مختلف تماماً، ولا يفرح أحد مثلما يفرح أتباع العلمانية عندما يجدون أتباع المذاهب يكفر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، بل أخشى أن يكون لهم يد في التحريش بين المسلمين، وضرب الفقه ببعضه البعض !.

وإن من أدب اتباع مذهب، وتقليده.. هو "احترام" باقي المذاهب، وبقاء روح الأخوة الإيمانية، وبقاء الود، والرأفة والرحمة، وخفض الجناح بين كل المسلمين، والدعوة إلى "الاعتصام والوحدة" دون التقليل من "تدين" مسلم لاتباعه مذهبًا فقهيًا مخالفًا، فضلًا عن اتهامه بالبدعة والفسوق... إلخ. وهذا الأدب والاحترام وحسن الخلق لا شك أنه عنوان المسلم وليس عنوانه "التعصب" الفقهي.

*   *   *

التطرف:

وهو من أخطر المشكلات التي تواجه الفقه الإسلامي، وهو حالة نفسية حادة، تريد أن تركن لرأي واحد فقط لا غير، ونسف لكل غيره، وتأخذ أشكالاً من التنطع والغلو المذموم في الدين.

والمتطرف أينما حل يُحدث أزمات، ويزيد من الاحتقان، والاختلاف، وتباغض القلوب، ويُحول خلاف الفروع إلى أصل الأصول، ويحول حالة الخلاف إلى حالة معاداة وحرب.

وهذا التطرف يقع في جانب "الرغبة في التميع" في الدين، وفي جانب "الرغبة في التشدد" في الدين.. أي "التطرف" هو وصف لطريقة تناول الفقه.. فَعَنِ الْقَاسِمِ بن محمد، عَنْ عَائِشَةَ، قَالا: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ، فَإِذَا أَصْوَاتٌ كَدَوِيِّ النَّحْلِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: " إِنَّ الإِسْلامَ يَشِيعُ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غُلُوٍّ وَبِدْعَةٍ فَأُولَئِكَ أَهْلُ النَّارِ " [المعجم الكبير للطبراني/10776]

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ " [السنن الكبرى للبيهقي/ 10 : 208] (موضع إرسال، ورُوي بإسناد صحيح في مسند زيد/ 1 : 342] )

ولازم هذا التطرف هو تحميل الأقوال ما لا تحتمل، وجعل الفعل المحتمل يقيناً، وجعل اليقين محتملاً.. ثم إطلاق العنان لإتهام المخالف بالإرجاء والتكفير والخارجية والبدعية... إلخ.

وفيه يحصل أن يجد المتطرف حديثاً أو شاهداً له، فيجعل منه "أصلاً" لا يمكن خرقه، ومن يخرقه فقد خرج من الدين..

ولنضرب لذلك مثالاً: استشهد أحد بقصة حدثت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن فِعل هذا الرجل لا يعني أنه تشريعاً إسلامياً، فاستنتج هو من عند نفسه: (أ) أن الحادثة وقعت أمام النبي صلى الله عليه وسلم. (ب) ثم استنتج أن النبي صلى الله عليه وسلم وافق صاحبها على فعله. (ث) ثم اتهمني بأنني - بقولي هذا - أتهم النبي - صلى الله عليه وسلم – بأنه وافق على باطل، وفعل ما لم يكن له أن يوافق عليه. وهذه الأخيرة تعتبر كفراً أكبر!

فانظر في هذه الحالة من التطرف وتحميل الأقوال ما لا تحتمل.. فمن مجرد اعتبار فعل رجل ليس بدليل – وللعلم هذه الحادثة لم تقع أمام النبي صلى الله عليه وسلم - قد يصل بالبعض إلى الاتهام بالكفر والعياذ بالله.

وغالباً ما تكون "حالة التطرف" هذه غائبة العقل، وغير قادرة على الرؤية.. ذلك أن التطرف يحجب رؤية الإنسان، ولعل من يعالج مثل هذه الحالات يجد أنه يضع عشرات الأدلة، ويحصر الخلاف، ويجيب على كل الأسئلة، ثم في النهاية المتطرف لا يبرح مكانه، ويعيد الكَرة كأنك لم تقل شيئاً، وكأنك لم تجب على تساؤلاته..

كما يغلب على هذه الحالة، تسفيه الجميع، وتصيد الأخطاء، والخروج عن "موضوع" السؤال، وإرباك المتابع، وتدني الأخلاق، وفي النهاية فساد القلوب! والتفرق في الدين، والحسد والبغضاء، وتمني الفشل والهزيمة، والوشاية عند الظالمين، ويصبح المنازع للمتطرف - وإن كان يرجو له الخير - هو عدو الدين، والعقبة في طريق المؤمنين، ويترك عدوه الأصلي.. ليحارب أخاه في الدين.

*   *   *

النبوءات:

وهي الأحاديث الخاصة بالغيب، وآخر الزمان، وأحداث النهاية، والفتن... إلخ، ومثل هذه الأحاديث لا ينبني عليها "تصور سياسي حركي" لأننا نتحرك في "عالم الشهادة"، ملتزمون بـ "اتباع السنن الإلهية" حتى لحظة قيام الساعة، وعليه فإن صدق النبوءة عند صحة الحديث لن يغير في تصورنا وعملنا شيء..

ولا يمكننا الاعتقاد والاعتماد على هذه النبوءات في الفكر، والفقه، والحركة.. فعملنا في النهاية واحد: "إتباع الهدي الرباني، والعمل، والأخذ بالأسباب، وتحمل التبعة الفردية، والمسؤولية الاجتماعية".

فحتى لحظة قيام الساعة على المسلم أن يمضي في طريق السنن والفعل الإيجابي كما جاء في الحديث الشريف: "إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ" [مسند أحمد/ 12569]

والذي يحصل أن يأخذ البعض جملة من الأحاديث الضعيفة، أو ما يتطرق إليه شك، أو يُتوقف فيها، فيبني عليها تصوره وحركته - مثلما نسب قوم لأنفسهم المهداوية!- ووقعت بعدها فتن اُستبيحت فيها دماء المسلمين، فينسب لنفسه أنه هو المقصود بالحديث، وأنه في "حالة قدرية" كونية، تسمح له بالأخطاء، والمجازر، والتولي عن سنن الله - جل جلاله - وهذا كله باطل لا يمت لـ "التصور الإسلامي" بصلة.

ويجب أن يظل مفهوم "الخلافة الراشدة" سواء خلافة الإنسان، أو خلافة المجتمع، أو خلافة الدولة.. خلافة راشدة تتبع سنن الله، وهديه، وحقه وعدله الذي أمر به، وأن نظل نعمل في كل الظروف والأحوال، اعتماداً على السير على منهج السنن في عالم الشهادة، لا على التواكل على الله، وانتظار قدره الغيبي، أو معجزة تنزل من السماء، فمثل هذا الفكر لا شك يؤثر سلبياً في رؤية المسلمين، وفي أحكامهم، وتصوراتهم، ويجعلهم في حالة من التخبط والتيه والاصطدام بالسنن الإلهية.

*   *   *

وبهذا نجد أن هذه المشكلات تُحدث أزمات خطيرة، وأخطرها هي قضية الإساءة إلى "شرع الله" ذاته الذي جاء رحمة، ورأفة، وحق، وعدل لكل الناس، فإذا تناولناه بهذه المشكلات.. يصبح لا أعداء لهذا الدين إلا نحن، ولا محارب لهذا الدين إلا نحن !!.

وإننا بحاجة عند تناول الفقه الإسلامي عدم الدخول عليه بأي أحكام مسبقة، وعدم تناوله بتمذهب وعصبية جاهلية، وعدم الاستسلام للصورة النمطية التي تربينا عليها، أو الدخول على الفقه بمسلّمات ليست هي بمسلّمات، إنما ترك الدليل يرشدك، وقبل كل هذا وذاك طهارة القلب خالصاً لله من كل بغي وظلم وغل وحسد وبغضاء، وطهارة العقل من لوثة الجاهلية والعلمانية.. واستهداف الرحمة بالمسلمين، والتخفيف عليهم ما أمكننا ذلك، وتقديم العفو على العقوبة، والرحمة على الشدة، وحسن الظن على الاتهام، وتوحيد المسلمين تحت كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - واختيار الأيسر لهم، والأقرب إلى أذهانهم ما لم يصطدم بنص قاطع الثبوت والدلالة.

وإننا جميعاً تحت نظر الله، والله يعطينا "الفرصة" لينظر كيف نعمل؟ فإن أحسنا العمل، واتبعنا السُنن الإلهية.. رضي الله عنا، ومكن لنا، وإن أسأنا العمل، واتبعنا الهوى.. غضب علينا، وجرت علينا السُنن، لا تتخلف ولا تتبدل، فكونوا عباد الله إخوانا، لا تنازعوا الكتاب، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وأقيموا الحق والعدل، وأحسنوا حمل كتاب الله إلى العالمين.

*   *   *

موضوعات ذات صلة:
- حكم سب الله -جل جلاله -، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ( مثال لكيفية جمع أقوال الأئمة من كل مذهب ).
*   *   *