كل رسول من عند الله ـ سبحانه ـ جاء بتوحيد الله وحده بلا شريك.. جاء ليواجه شرك قومه، سواء أكان هذا الشرك في الاعتقاد والتصور عن الله سبحانه، أو كان الشرك في العبادة والشعائر والنُسك، أو كان الشرك في الحكم والتشريع ومنهج الحياة. ومواجهة الفساد الذي وقع في الحياة جراء هذا الشِرك.. سواء أكان فساد أخلاقي أو اقتصادي أو سياسي...إلخ، ويُبين لقومه المنهج الصحيح والطريق القويم. رسالة سعادة وصلاح وخير وعدل ورحمة في الدنيا، ورسالة نجاة في الآخرة.
بدأ كل رسول دعوته بــ:
(1) {اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50]
قاعدة انطلاق لأي مواجهة مع الشرك والباطل والفساد. فالدينونة لله وحده قاعدة العقيدة الأولى. وقاعدة الحياة الأولى. وقاعدة الشريعة الأولى. وقاعدة المعاملات الأولى.. القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة. وكل من يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله، ووفق أمر غيره.. فهذا هو الشرك في حقيقته وأصله.
(2) بعد بيان قاعدة العبودية لله وحده، يواجه الرسول شرك القوم وفسادهم وباطلهم.
(3) يستنكر القوم تلك الدعوة، ويتساءلون في استنكار، ما علاقة العبادة أو الصلاة بالحديث عن الأموال والتجارة؟ ما علاقة العقيدة بالحرية الشخصية والأخلاق؟ ما علاقة العقيدة بنظام حياتنا الدنيا؟... إلخ من المُبررات التي يثيرها القوم ضد دعوة الرسول.
(4) يرد الرسول عليهم شُبهاتهم، ويؤكد على ارتباط العبودية لله.. بمنهج الحياة، وبالعبادات وبالمعاملات وبالأخلاق وبالسلوك.
(5) يأخذهم الرسول بالشدة تارة، وبالحلم تارة، ويدخل على قومه من كل طريق.. ولا يمل من دعوتهم، ويُبين لهم أن دعوته دعوة صلاح ضد الفساد، ودعوة خير ضد الشر، ودعوة بركة ونماء لا لعنة أو خراب.
(6) بعدها يُفاصل الرسول قومه على أساس العقيدة، لا على أي أساس آخر. ويرفع دعوته إلى الله أن قد بلّغ؛ وآمن من آمن، وكفر من كفر. ثم تأتي سنة الله ـ سبحانه ـ في هلاك المكذبين ونجاة الرسول ومن آمن معه.
ثم حلّت "سنة الجهاد" مكان "سنة الإهلاك" منذ دعوة موسى عليه وعلى نبينا السلام، وهي ماضية إلى يوم الدين.
وبقي اليهود والصليبيون والمسلمون.. ونحن المسلمون في حالة صراع وتدافع، وتحدٍ حضاري، ورسالي، وأخلاقي، وتدافع إلى يوم الدين مع اليهود والصليبيين والمشركين.. وهم ـ منذ أن سطع نور الإسلام على البشرية ـ في حرب مع الإسلام والمسلمين ـ إلا قليلاً منهم ـ حرب لم تتوقف لحظة، قال تعالى فيها: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة : 217]
حرب قتالية، وحرب فتنة، وحرب فكرية، وحرب روحية، وحرب تخريبية، وحرب استعمارية!
بدأ عصرنا الحديث بسقوط الخلافة على يد الصليبيين ومكر اليهود، ودخلنا مرحلة "الملك الجبري، والطواغيت".. وكانت ملامح هذا العصر القائمة حتى الآن، والتي تشتد يوماً بعد يوم هي:
1- انهيار النظام السياسي "الخلافة" للمسلمين، وانهيار الوحدة السياسية الجامعة لهم.
2- الانسلاخ من رابطة الولاء على الإسلام، وأصبحت روابط قومية عرقية.
3- نبذ التحاكم إلى شرع الله، واستبداله بالقوانين الغربية الوضعية العلمانية.
4- تفتيت بلدان المسلمين بعد أن كانت دولتهم تحكم من مشارق الأرض ومغاربها ـ عدا أوربا الغربية ـ فإذا هي أصبحت دويلات رخوة هشة، لا تملك سلاحها، ولا غذاءها، ولا قوتها، وعارية من القوة الحقيقية أمام العدو العقدي الأول.
5- سرقة ثروات المسلمين، وجعلهم في حالة دائمة من الفقر والفاقة، والاحتياج الدائم للنظام الدولي المهمين على كل بلادنا.
6- ولاء الحكام والحكومات والأنظمة إلى اليهود والصليبيين، وإعاناتهم على المسلمين، وتمكينهم من بلاد المسلمين.. تمكنيهم من كل شيء حتى مناهج تعليم أطفال الروضة مروراً بسياسيات الحكومات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والفكرية والإعلامية.
7- وأد أي حركة أو تيار إسلامي يدعو بدعوة الرسل، وقتل أولياء الله.. والفتك بهم ومحاربتهم بكل وسيلة، في وحشية لم يسبق لها مثيل.
8- كشف عورات المسلمين، وإشاعة الفاحشة، والانحلال، والإباحية، والفساد.. والتجسس على المسلمين لصالح العدو الصهيوصليبي العلماني.
9- تفريغ بلاد المسلمين من كل الطاقات الفكرية والعلمية والتخصصية.. وتفريغ طاقات الشباب الهائلة في عبث من كل نوع، حتى لا تقوم لهم قائمة.
10- تكوين ولاءات وتكتلات عالمية للحرب على الإسلام والمسلمين، بطريقة ممنهجة دقيقة صارمة متتابعة استباقية، حتى نظل تحت التبعية والهيمنة والخضوع للنظام الدولي بقيادة اليهود والصليبيين.
***
وأمام هذه الحالة الغثائية.. لم نستطع أن نتوحد على راية أو مشروع راشد للتغيير، وللتدافع مع الباطل المحيط بنا من كل جانب، ولم ننتبه إلى ذنوب الغفلة عن منهج الله، وذنوب التفرق في دين الله، وذنوب الجهل بسنن الله في النفوس والمجتمعات، وذنوب التهاون في إعداد القوة لملاقاة عدو الله.
وإنَّ من أخطر الفئات على الأمة هي تلك "النخب السياسية" من أساتذة الجامعات، والرافضة للأوضاع السياسية، والتي تخرج علينا تحدثنا عن "صراع سياسي" وفق المفاهيم الغربية! هذه الفئة ـ وإن كانت صادقة ـ فهي ملتبسة بالعلمانية حتى النخاع! ولا تفهم طبيعة الإسلام ورسالته.. هكذا تعلمت، وهكذا درست!!
وللأسف النخبة السياسية المسلمة، التي تنطلق من سياسة واقعية.. بعقيدة شاملة لكل الوجود ترد الأمر كله لله، وبتصور إسلامي نقي، يفهم المعركة، والصراع، والحل، والطريق.. بنور الوحي، لا بجاهلية الغرب، لم تستطع أن تقود مشهد التدافع مع الباطل بعد!
***
إنَّ الوضع منذ سقوط الخلافة حتى هذه اللحظة هو: تحقيق سنة التدافع مع الباطل، والثورة على الظلم، والفساد، والعدوان، وهيمنة العدو الخارجي، وإفساد العدو الداخلي..
يقول الله تعالى:
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًاۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج (40)]
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 256]
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 257]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء : 60]
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[النحل: 36]
عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قَالَ: "دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ: "فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ". [رواه البخاري]
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" [أخرجه مسلم]
ولابد لمواجهة الباطل، وتحقيق سنة التدافع، ومنع الإفساد في الأرض.. خروج "الأمة المجاهدة" لا "التنظيم المسلح".. وتمضي في الطريق الذي سلكه محمد صلى الله عليه وسلم.
أمة مجاهدة: لكل مسلم فيها دور، فهذه تدعو في جوف الليل، وهذه تتبرع بمالها، وهذا يقاتل في سبيل الله، وهذا يبذل أبناءه، وهذا يقدم روحه، وهذا يخدم في مجال تخصصه، وهذا يقدم معلومة، وهذا يخطط ويرسم، وهذا يتحرك دولياً، وهذا يتحرك اجتماعياً... إلخ.
وإنَّ المسلم الحق يعمل على إقامة دين الله، ولا يتفرق فيه بغياً وظلماً.. ويمضي في الطريق الذي قضاه الله ـ تعالى ـ لهذا الدين؛ يأمر بالمعروف، ويقاوم المنكر باليد واللسان والقلب، وينتصر للدين، والأمة، ولا يُسلمها لأعدائها، ولا يُفشل رايتها، ولا يُفرق صفوفها، ولا يطمع في جزاء.
وكل ما لم نفهمه بنور الوحي، سندركه بمداد الدم!
***