هناك قضايا مصيرية مركزية تواجه الأمة المسلمة منذ الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بانهيار "الدولة العثمانية"، والتي كانت تُمثل "الوحدة السياسية" للأمة المسلمة ـ بغض النظر عن عوامل انهيارها الداخلي، وأمراضها الذاتية ـ وأدى ذلك إلى قيام ما يُسمى "دولة إسرائيل" التي تمثل خط الدفاع الأول عن العالم الغربي الذي قام وانتصر في الحربين العالميتين.. والتي تمثل أيضاً خط الهجوم الأول على وحدة وقوة المسلمين عامة، والعرب خاصة الذين هم مركز الثقل في قيام "الدولة الإسلامية" والرسالة من جديد.
لتنزيل المقال نسخة PDF.. فضلاً (اضغط هنا)
وهذه هي القضايا الخمس المصيرية:
(1) القومية الإسلامية:
وهي: الاجتماع على الإسلام، والانتساب إليه.. وهذه القومية تُمثل مركز الثقل للاجتماع الإسلامي، وتُوحد وجودهم، وطاقاتهم، وتجعلهم كالجسد الواحد والبنيان المرصوص الذي يُشد بعضه بعضاً، ولا يمكن لأحد أن يهزمه أو يخترقه، وقد مَثلّت هذه القومية الإسلامية مركز الهوية، ومحور الاجتماع، واستطاعت ـ بفضل الله ـ رغم الدخول المبكر للأمة مرحلة "الملك العضوض" أن تحمي الوجود الإسلامي، والهوية الإسلامية، والاعتزاز بها، والاستعلاء بهذا الدين على كل الأمم، ولم تشعر الأمة ـ مهما مرّ بها من مراحل ضعف وانهزام ـ أن يتملّكها شعور "الهزيمة النفسية" أو الانسحاق أمام أعدائها التاريخيين من الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين.
كانت بداية الانهيار مع ظهور الفكر القومي العلماني، وتغيير الولاء والانتساب والهوية الإسلامية لصالح هويات مصطنعة، وبدأ هذا الفكر في الظهور في تركيا إبان التحضير لتفكيك العالم الإسلامي الممتد، وجعل كل قوم ينتسبون إلى تاريخهم السحيق ـ السابق على الوجود الإسلامي ـ والانتساب إلى أعراقهم ولغاتهم وثقافتهم الجاهلية ـ برعاية يهودية إلحادية ـ واختراع اعتزاز وهمي ليكون بديلاً عن "القومية الإسلامية" التي تعني أن الإسلام هو: الجنسية والوطن والتاريخ والهوية والحضارة والشريعة والنظام والدين الشامل لكل مناحي الحياة، ثم يأتي الحب الفطري للأوطان والأرض والأهل والقوم والعشيرة كداعم وخادم للقومية الأساسية والأصلية وهي "القومية الإسلامية".
وقد أدى تفتيت القومية الإسلامية لصالح القوميات الجاهلية العلمانية إلى: تفتيت وتقزيم وغثائية العالم الإسلامي كله، ووضع "دولة يهود" كصمام أمان للحضارة الغربية؛ لمنع توحيد العالم الإسلامي، ومنع اجتماع الأمة على الإسلام، والانتساب إليه.
وحتى تعود هذه القومية كما كانت: يجب القضاء على دولة يهود قضاء مبرماً ونهائياً، والذي يستلزم ـ وبشكل قاطع ـ القضاء على حكم الخونة والمنافقين وخُدام يهود من الفجرة المنتسبين للإسلام، والذين يُمثلون خط الدفاع الأول عن "دولة يهود" ودفاعهم هذا هو سر بقائهم وأوراق اعتمادهم لدى الغرب! وبعد القضاء عليها ـ أو أثناءه أو قبله ـ يجب توحيد العالم العربي والجزيرة العربية تحت حكم إسلامي واحد (أو توجه إسلامي واحد).. وهذا لا يتم إلا بعد مواجهة مع القوى الغربية التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي ترى في توحيد العرب والعالم الإسلامي ـ على أساس الإسلام ـ هو مقدمة لفناء الغرب، واندثار الحضارة الغربية لصالح الحضارة الإسلامية، والتي كان لها مجداً في التاريخ أبهر العالم أجمع.
وقد أصبحنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما (كنظام وسلطة) تَلحس غبار أرجل صهيون ـ كما ينص التلمود! ـ فتنال الرضى والأمن والسلطة على شعبك.. والذلة والعبودية لهم؛ فتخسر الآخرة وتحجز مكانك في الدرك الأسفل من النار. وإما أن تجاهدهم ـ وأعوانهم ـ وتقطع دابرهم باسم الله؛ فتنال العزة والسيادة والريادة والإمامة وفوز الدنيا والآخرة. هكذا يَفرض صهيون والغرب طبيعة الوضع الدولي. وهكذا أخبرنا القرآن الكريم، وتأمرنا شريعته، وليس ثمة حلول وسط، ولا منطقة رمادية، ولا قانون دولي، ولا مداهنة، ولا سلام، ولا صلح.. فالسلام الحقيقي والسياسة الصحيحة في القضاء المبرم والنهائي عليهم.
وجدير بالذكر: أنه تم اصطناع هيئات ومؤسسات وهمية زائفة لتقضي على هذه الفكرة قضاء مبرماً، وهي: "منظمة التعاون الإسلامي" و"الجامعة العربية" و"رابطة العالم الإسلامي"... إلخ، لا تفعل شيئاً ولا تحرك ساكناً.. ولكن هدف وجودها لذر الرماد في العيون، ولقطع الطريق على الدعوة الحقة في وجود هذا الاجتماع.
ورغم أن العالم الإسلامي دينه واحد، وكتابه واحد، ورسوله واحد، وتاريخه واحد، ومصيره واحد، والأمة العربية لغة واحدة، وأرض واحدة، وعشائر وقبائل واحدة، وعدو واحد، ومصير واحد.. وكل عوامل الوحدة موجودة ومؤهلة لها إلا أن البأس والتآمر بينها على أشده! بينما نجد صور من الوحدة بين العدو مثل: الاتحاد الأوربي، والتحالف الاستخباراتي للعيون الخمس (أمريكا، وكندا، وبريطانيا، وأستراليا، ونيوزيلندا)، وحلف الناتو... إلخ، فوقعت الفتنة والفساد الكبير كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73] (للمزيد: انظر درس "العداء السياسي" من كتاب: "العقيدة السياسية في التصور الإسلامي")
***
(2) الولاء والبراء:
والولاء والبراء مُقوم من مقومات الإيمان، والإخلال به ينافي أصل الإيمان ـ كما جاء في كتاب الله ـ والولاء يعني: (التولي والنصرة والتعاون والتعاضد لله ورسوله والمؤمنين)، والبراء: (الامتناع والمعاداة والمحاربة والتبرؤ) من الكافرين المحاربين، وهو مبدأ يحدد العلاقات الدولية والداخلية لـ "القومية الإسلامية" أو "الاجتماع الإسلامي".
فقَدر الوجود الإسلامي ـ منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون له أعداء محاربين إلى يوم الدين؛ ولذا فمن بديهيات الإيمان أن يكون ولاء المسلم لله ورسوله والمؤمنين، وأن يكون العداء والمحاربة لأعداء الدين.. فالولاء لأعداء الدين يُعتبر جريمة "خيانة عظمى" بمصطلح اليوم!
ولما تفتت الوجود الإسلامي لصالح القوميات العلمانية انهار معه هذا المقوم من مقومات الإيمان وهو "الولاء والبراء"، وأصبح الولاء والبراء ليس لله ورسوله والمؤمنين، وإنما الولاء والبراء أصبح مفهوماً قومياً علمانياً، محدداته مادية خالصة، فأصبح البديل عنه: "المصالح النفعية البراغماتية الوطنية والذاتية" التي لا تقيم وزناً للأمر الإلهي، أو المبدأ الإسلامي.
ولما كان الوجود السياسي الإسلامي بعد انهيار الوحدة السياسية للمسلمين في حالة من الضعف والذلة والتبعية.. أصبح الدخول تحت راية العدو ـ في نظرهم ـ مسألة حتمية لا مفر منها؛ فقد أدى ذلك إلى التحالف مع أعداء الأمة التاريخيين، والولاء لهم، والعمل تحت إمرتهم، وراياتهم، وإشرافهم، والعمل لصالحهم، وقبول الاحتلال والهيمنة والتبعية.. بل واعتبار ذلك "حنكة سياسية" ومرونة ودهاء، بل تم تبريره شرعياً من بعض الدجاجلة!
فأصبحت "مصالح الوطن" حتى ولو كانت ضد الدين، وضد الشريعة، هي المعيار الأول لمفهوم "الوطنية"! وللأسف حتى مصالح الوطن هذه لا تتحقق، بل نجدها في النهاية مصالح حفنة من العسكريين فيما يسمى "الجمهوريات المستقلة" زعموا! أو مصالح شرذمة من الرعاع فيما يسمى "بالملكيات والأمارات".
كما لا يسمح العدو التاريخي للمسلمين أن يترك بلادنا لتنمو وتقوى بشكل مستقل عنه، وعن رقابته؛ فيحاول إضعافها من كل طريق؛ لتظل تستجدي قوى الغرب في كل مقوم من مقومات الحياة، فتظل في حالة تبعية مادية وفكرية وثقافية له، فتظل في هذا الأَسر.
وجدير بالذكر: أن (المجتمع الدولي، النظام الدولي، الأمم المتحدة، مجلس الأمن، الأسرة الدولية، المؤسسات الدولية... إلخ) كل هذه المؤسسات تنتهي ـ في النهاية ـ إلى يد أمريكا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، ومن ورائهم نفوذ يهـود حسب كل دولة.. ويأتي بدرجة تالية (روسيا والصين). ويظل العالم الإسلامي كله ـ والبشرية جمعاء ـ في أيد الخمسة الكبار (أعضاء مجلس الأمن: أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا والصين).
هذا المجتمع الدولي يَحكمه أكفر وأجرم وأطغى وأفسد وأظلم وأفسق مَن مرّ على التاريخ البشري ـ فيما نرى ـ فلا يليق أبداً بمسلم ـ أو مجرد عاقل ـ أن يتولهم أو أن ينادي عليهم بالمطالبة بالحقوق والحريات أو إحقاق العدل وإنصاف المظلوم أو تحمل المسؤولية أو تجنب ازدواجية المعايير؛ فهذا سفه شديد وحمق غريب!
فأيدي المجتمع الدولي تقطر دماً ـ كل لحظة ـ من دماء المسلمين، ويعيشون فوق أشلائهم، ويقتاتون من دمائهم ومقدراتهم، ويسعدون بآلامهم ومصابهم، ويحاربونهم ـ في كل مكان ـ حرباً لا هوادة فيها! فليس بأملٍ فيه فحسب؛ بل هو العدو المبين، والشر المستطير، والشيطان الرجيم، والخبث الذي لا يخرج إلا نكدا!
ولطالما أخبرنا القرآن الكريم بذلك، لكننا كثيراً ما نجهل مقاصده وأهدافه، أو نهرب من تكاليفه.. ومتى استقمنا على صراطه، واهتدينا بنوره.. بلغنا الغاية، وكنا نحن الأمة الشاهدة التي يلجأ إليها الجميع لإحقاق الحق، وإنصاف المظلوم، وبسط الأمن والسلام.
كما أن بلادنا العربية والإسلامية تحت الهيمنة العسكرية الأمريكية، وتخضع لقياداتها العسكرية، وتتحالف مع دولة يهود في العلن والسر ضد مصالح بلادنا الإسلامية والقومية والوجودية كلها. بينما تحاول ـ في الظاهر ـ أن تشجب وتندد وتستنكر في بعض المحافل؛ لذر الرماد في العيون، ولتظهر أنها وطنية مخلصة! (انظر ـ مثلاً ـ مقال: "6 دولة عربية تتعاون مع الجيش الإسرائيلي"، ومقال: "الجاسوس").
***
(3) الشريعة وحكم الكتاب:
التحاكم إلى شرع الله مُقوم من مقومات الإيمان، نبذ هذا الكتاب والتحاكم إلى غيره من الكتب والشرائع يُنافي أصل الإيمان ـ كما جاء في كتاب الله ـ ولما انهارت القومية الإسلامية، وأصبح الولاء لأعداء الأمة التاريخيين، كانت قضية التحاكم إلى الشريعة الإلهية من أكثر وأشد ما يحاربه العدو؛ وذلك لعدة أسباب، منها:
ـ إنَّ التحاكم إلى هذه الشريعة سيدعو بداهة إلى: القومية الإسلامية، والاجتماع على الإسلام، وسيدعو إلى تحقيق مبدأ الولاء والبراء.
ـ إنَّ التحاكم إلى هذه الشريعة سيدعو إلى قيام المسلم بواجبه ورسالته التي تُهمين على كل دين قبله، وسيرفض ويحارب هيمنة العدو عليه.. ذلك العدو الذي يريد أن تكون "أستاذية العالم" كلها له، ولا يخرج أحد عنها طرفة عين، حتى إنه لا يرفض دراسة هذه الشريعة في جامعاته ومؤسساته، بل يشجع على دراستها بشرط أساسي واحد: أن تكون تحت "الهيمنة الغربية" وبمحدداتها، وتحت إشرافها، وضمن قالبها الفكري والحضاري؛ فيدرسها كدراسة "إنسانية"، لا كـ "شريعة ربانية" تَعلو ولا يُعلى عليها. فمثلاً: يسمح بدارسة الاقتصاد الإسلامي، بل وإصدار "منتج" اقتصادي إسلامي ـ أو علامة تجارية ـ ضمن الاقتصاد الربوي الرأسمالي العالمي وليس بديلاً عنه.
ـ إنَّ التحاكم إلى هذه الشريعة سيرفض ـ وبشكل قاطع ـ ويحارب هذا الثالوث الشيطاني: (الربا، الإباحية، البغي والفساد والعدوان) وهذه مقومات ووجود العالم الغربي وحضاراته وتفسيره للحياة والوجود، فالنظام الاقتصادي: قائم على فحش الربا، والغبن، والسرقة، والسحت، والنهب، والسلب، والغصب، والاحتيال، والمقامرة. والنظام الاجتماعي والأخلاقي: قائم على الإباحية والتعري والفواحش ما ظهر منها وما بطن. والنظام السياسي: قائم على البغي والعدوان والإفساد في الأرض واستضعاف البشر ونهب ثرواتهم ومقدراتهم وصدهم عن سبيل الله.
فيكون البديل عن الشريعة هو: "القوانين الوضعية العلمانية" التي تؤدي إلى نشر الفقر والفحشاء والربا والسحت، والانهيار الأخلاقي والتفكك الاجتماعي، وحصر الإسلام في العبادة الفردية دون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... إلخ. أي: الإسلام المدني المتوافق مع العلمانية والليبرالية. أي: الإسلام الروحي الفردي بما تسمح به العلمانية، وتحت هيمنتها وإشرافها وإذنها.
وجدير بالذكر: أن أئمة النفاق يحاولون دوماً التهوين من قضية التحاكم إلى الكتاب والعمل بمقتضى الشريعة الإلهية.. والزعم بأن أصحاب هذه الدعوات مجرد "خوارج تكفيريين" أو من أصحاب "الإسلام السياسي" المغضوب عليه محلياً وعالمياً، وهم أصحاب أغراض خاصة كالطمع في منصب سياسي.. والزعم ـ في بعض البلدان ـ بأن الشريعة مُطبقة في المحاكم (في بعض أحكام الزواج والمواريث)، وأن كل الأمور بخير! وأن الخروج عنها في بعض أو كل تعاليمها وأوامرها هو مجرد ذنب مغفور لا خطر منه! بل هناك ممن ينتسب للإسلام ـ وأحياناً يزعم العمل للإسلام! ـ ويدعو إلى هذه "العلمانية الجزئية" كما قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85]، ويرفض "العلمانية الشاملة" التي هي صريح الإلحاد، التي تنكر الخالق ابتداء، ولها تفسيرها الإلحادي للحياة والوجود والإنسان.
كما أن هناك فرق (غير ملحوظ) بين العلمانية كأيديولوجيا تبشيرية، وبين العلمانية كسلوك وتطبيق؛ فـ "العلمانية التبشيرية" تصطدم بالأيديولوجيات حولها خاصة "الدينية"، وتحارب الإسلام خصوصاً؛ لتُرسخ وجودها كدين اجتماعي سياسي وفلسفي فكري!
بينما "العلمانية السلوكية التطبيقية" تمارس عملها بصورة تلقائية باعتبارها قاعدة فكر "باردة" مُسَلّم بها تعمل في الخلفية الفكرية للإنسان غير مصطدمة بالدين، بل ومرحبة به (في حدود بعض الشعائر)، وهذه خطورتها تكمن في نعومتها، ومسارها التطبيعي مع محيطها، بل وربما في غفلة من أصحابها عن مدى مصادمة هذه العلمانية السلوكية لأساسيات الدين، وقواعد الشريعة. [انظر، مقال: "اليسار الناعم"]
كما يتم تأميم المؤسسات الدينية الرسمية لتعمل لصالح الطغاة وتحت إشرافهم؛ فتُحل ما حرّم الله، وتُحرّم ما حلل الله، ولا تملك حرية إنكار المنكر السياسي والاجتماعي؛ فتُسبح بحمد الطغاة والعياذ بالله، إلا من رحم ربي.
كما يحاولون استغلال "الحركة الإسلامية" و"العاطفة الإسلامية" من قِبل الأنظمة المنافقة وأجهزة الاستخبارات العالمية لجعلها تؤدي دوراً وظيفياً مثل: مواجهة المد الشيوعي، أو تعزيز الانقسام الطائفي؛ وذلك لتنفيذ أغراضهم هم! فيكون الجهد الإسلامي الصادق إنما هو تحت سيطرة العدو، وبالقدر الذي يسمح به، وتحت رقابته وتحكمه؛ وليحقق أهدافه هو لا أهداف الإسلام، ومن ثم يجب الانتباه لأفخاخهم. (للمزيد: انظر مقال: "معالم حول تطبيق الشريعة"، وكتاب: "توحيد الربوبية")
***
(4) الجهاد في سبيل الله:
يُعتبر الجهاد في سبيل الله المُقوم الأساسي للوجود الإسلامي السياسي.. ولا بديل عنه، ولا مفر منه، والجهاد مصطلح إسلامي خالص؛ يعني بذل الجهد والوسع في التمكين للإسلام ودفع العدو المحارب والمنافق الخائن.. وذلك "باسم الله" على سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو جهاد لتكون كلمة الله هي العليا.. لا مطمع في إعلاء قومي، ولا رغبة في بغي وعدوان، ولا توحش في سرقة الشعوب واستعبادها، ولا هو عمل بلا عقيدة ولا إيمان، كما هو التدافع العلماني أو الكافر!
ويُمثل الجهاد في سبيل الله العقيدة القتالية الوحيدة للأمة المسلمة.. إذ المسلم يبذل أقصى جهده ووسعه من نفسه وماله ابتغاء مرضاة الله، وابتغاء العوض والجزاء العريض من جنة عرضها السموات والأرض، فيرتكز على الإيمان العملي الحاضر العميق الراسخ باليوم الآخر، وهذه أقوى عقيدة قتالية على وجه الأرض، ولا يمكن أن تصمد أمامها أي عقيدة أخرى!
والسبيل إلى التحرر من أسر العدو الخارجي، وبغي العدو الداخلي لا يمكن أن يأتي إلا من طريق "الجهاد في سبيل الله"، وليس ثمة سبل أخرى..
وبطبيعة الحال، وبعد تفتيت الوحدة والجغرافيا الإسلامية، والولاء لأعداء الدين، ونبذ الكتاب.. أن يصبح "الجهاد في سبيل الله" هو "الإرهاب الراديكالي" الذي يواجهه العالم المتحضر! والذي يجب سحقه بكل وسيلة ممكنة، وإعلان الحرب العالمية عليه؛ لأنه انتقال من "التصور" إلى "الحركة"، ومن "الإيمان" إلى "العمل".
وفي حالات الاحتلال والدعوة إلى "الاستقلال الوطني"، لا بد أن يكون القتال باسم "القومية" أو "الوطنية" أو "الإنسانية" أو "الحرية"... إلخ، ولا يجب أن يكون بأي حال من الأحوال "باسم الله"؛ لأن ذلك في نظرهم هو عين "الإرهاب"، إنهم يريدون بعد الاستقلال المزعوم أن تظل التبعية الغربية كما هي، والهيمنة والأستاذية للغرب وقوته وحضارته، فكل عمل يمكن أن يُسمح به بمقدار.. بشرط أن لا يكون "باسم الله"! فيكون البديل عن الجهاد هو: "التدافع المادي العلماني"؛ وذلك يؤدي إلى علمنة الصراع، وتفريغ المسلمين من قوتهم الإيمانية، والانسحاق أمام القوة الطاغوتية. وتضييع وإفساد فرص النصر والتحرر والتمكين.
وجدير بالذكر: أنه يتم تشويه دعوات الجهاد في سبيل الله، وإفسادها فكرياً بنشر وتعزيز "الفكر التكفيري" الذي يستبيح الدماء والأعراض والأموال ويرمي عموم الأمة بالشرك والردة، حتى تنفر منه جماهير الأمة؛ فيكون بلا حاضنة شعبية، وبلا مستقبل سياسي، بل وغير قادر على الاستمرار والبقاء، فضلاً عن بناء الدولة على منهاج النبوة.
ومن جانب آخر: إفساد الجهاد بدعاوى إمكانية "الإصلاح الديمقراطي السلمي" ليظل المسلمون يجرون وراء أوهام، ويغرقون في التيه، ويعيشون في الأماني الكاذبة. [انظر: بحث "الفئة الباغية"، ومقال: "السلمية والعنف"، ومقال: "عقديتنا الجهادية"]
***
(5) إعداد القوة، والشهادة على الناس:
إعداد القوة، واستفراغ كل الجهد والوسع في سبيل إعداد أقصى قوة ممكنة على كل صعيد وبما يناسب اللحظة الحضارية هو أمر إلهي، وشرط أساسي للتمكين.. فالجهاد وإعداد القوى اللازمة له يُلخص الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية والفكرية والتعليمية للمجتمع المسلم، وأهم قوى يجب إعدادها بعد الإيمان والعقيدة القتالية "الجهاد في سبيل الله" هو: (القوة الحربية).. وما يلزمها من: تعليم متقدم، واقتصاد قوي، ومن استقرار سياسي، وعدالة وأمانة في الحكم، ومن تماسك في المجتمع، ومن رقابة وشفافية.. بحيث تتطور الصناعات الحربية لأقصى درجة ممكنة، وأقصى استطاعة وصل إليها العقل المسلم؛ لإرهاب عدو الله، وعدو المؤمنين، وأعداء محتملين لا نعلمهم.
وبطبيعة الحال، بعد تفتيت الوحدة الإسلامية، وجعل الولاء للعدو المحارب، ونبذ الكتاب، ومحاربة المقاومة باسم الله.. أن يصبح إعداد القوة، والاستقلال فيها من أشد ما يحاربه الغرب، الذي يرغب أن يكون متفوقاً بشكل ساحق في كل المجالات الحربية؛ حتى يضمن هيمنته ونفوذه، ويضمن استعباد الأمة المسلمة والقدرة على تكبيلها وسحقها متى شاء.
وإعداد القوة ليس فقط من أجل دفع عدوان الأعداء المحاربين، إنما هو شرط أساسي للتمكين للإسلام، وتحقيق للأمانة التي حملتها الأمة: ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾[الحج: 78] فالأمة المسلمة أمة عالمية، تحمل رسالة الله الأخيرة للعالمين، وهي قائمة بالعدل، وتشهد بالقسط، وتقوم لله، وتنتصر للمظلومين والمقهورين.. وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا يمكن أن تؤدي هذه الرسالة على أكمل وجه بينما هي ضعيفة ذليلة مستهانة مستحقرة يتتابع عليها العدو بالعدوان في كل حين!
إنَّ العدو الغربي ـ من أهل الكتاب والمشركين ـ لا يُحارب التمكن من إعداد القوة الحربية فحسب، بل يحارب كل مظاهر القوى من: قوة الدين، وقوة الأخلاق، وقوة المجتمع، وقوة الاقتصاد، وقوة العلم، وقوة العلماء، ويحارب القدرة على الاستقلال في الغذاء والدواء والتقنية.. بل يحاول أن ينخر كالسوس ـ من خلال عملائه من حُكامنا ـ في كل شيء حتى يترك المجتمع عارياً من كل مظاهر القوى؛ ليكون محتاجاً لعدوه ـ وعدو الله ورسوله ـ في كل شيء؛ ويشعر أمامه بالدونية والانسحاق والاحتياج الدائم، بحيث لا يرفع رأساً أو يقول: "هذه رسالة الله إلى العالمين، وهي أثقل وأعظم من ملء الأرض ذهباً"!
والبديل عن إعداد القوة والشهادة على الناس هو: "ترسيخ الضعف والتبعية" ويؤدي ذلك إلى: الهزيمة النفسية والواقعية والوهن والاستكانة والاستسلام للعدو، والمسارعة في الدخول في أحلافهم، والتبعية الفكرية والثقافية للغرب، باعتبارها حتمية تاريخية لا مفر منها، وقَدر كَوني لا يمكن دفعه أو مقاومته! وفلسفة هذا الضعف فقهياً وشرعياً ومنطقياً وسياسياً بحيث يكون الاستسلام للعدو لا حرج فيه، ويتم بكل أريحية وسلاسة، ودون أدنى مقاومة ولا فكرية! ثم يأتي من وراء هذا الضعف التحلل من الأخلاق والقيم الربانية؛ لنصل إلى حالة الغثائية الكاملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وجدير بالذكر: أن الغرب يبيع لبلادنا مخلفاته الحربية بأغلى الأثمان من ثروات الأمة، في صور من الرشوة السياسية التي يدفعها أئمة النفاق من أجل ضمان بقائهم في الحكم، ومن أجل كسب ثقة الغربيين.. كما أن ما يبيعه من سلاح لا يصلح للمواجهة الحقيقية، إما لضعفه، وإما للعبث بتقنيته، وإما لاستحالة تشغيله وصيانته وتسليحه دون إذن الغرب! ثم يشعلون بعدها الغيرة الوطنية، والأغاني الحماسية، والاستعراضات العسكرية التي تُبين مدى قوة جيش الوطن العظيم حامي حمى البلاد! فيا له من دجل لا يقوى عليه إلا المنافقون!
وإنما يبيع لهم من السلاح ما يقمعون به الشعوب المسلمة ويستذلها ويقهرها، أو ما يقاتل به المسلمون بعضهم بعضا. وتصبح هذه الجيوش مجرد جماعات وظيفية مرتزقة لها مصالحها الخاصة، وامتيازاتها الخاصة المعزولة عن المجتمع، والخاضعة لهيمنة الدول الكبرى الغربية. [انظر مثلاً: كيف يمكن إخضاع الأمة المسلمة والسيطرة عليها]
***
هذه هي القضايا الخمس الكبرى المصيرية والمركزية للأمة المسلمة، والنجاح فيها هو شرط تحقيق الوجود والشهود الإسلامي.. وهي التي يجب العمل عليها ليل نهار من أجل تحقيقها على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. العمل عليها بشكل متوازن وشامل ومتكامل، وكل مشكلات الأمة بكل أنواعها لا تخرج عن هذه القضايا الخمس أو تكون أحد انعكاساتها أو توابعها أو أعراضها.
ومن يتجاهل هذه القضايا إلى أمور فرعية وهامشية وجدلية إنما يساهم ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ في ترسيخ حالة الضعف والانهزام والانسحاق والضياع لهذه الأمة.
وأكثر مَن يدرك خطورة وأهمية هذه القضايا الخمس هو الغرب؛ فيُحاربها بكل وحشية، لأن فيها قوة الإسلام وعز المسلمين.
إنَّ هذه القضايا تُمثل "خط الفاعلية" الذي يزعج "أئمة النفاق" في الداخل، و"أئمة الكفر" في الخارج.. ولا مفر من الدخول في مجال الفاعلية هذا، واقتحامه دون خوف أو كلل.. والدعوة إليه، وحشد طاقات الأمة لأجله. (راجع، مقال: "الإسلاميون.. إشكالية المصطلح")
ولا يَستهولن أحد الأمر فيَذل ويَخزى ويَضعف، فما علينا إلا حسن التوكل على الله، واستفراغ الوسع ـ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ـ واتباع الكتاب، والتمسك بالحق قولاً وعملاً، وليفعل الله بنا وبدينه ما يشاء.. سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
ولا بد من التنبيه على: إن من أخطر أمراض "مرحلة الاستضعاف" هو الرضى والمتابعة على "الباطل"، والركون إلى الظالمين، واستعجال التمكين بما لا يُرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أخطر أمراض "مرحلة التمكين" هو كفران النعمة، والغرور بالدنيا وترفها، والتنافس عليها، والوهن في حمل الرسالة، والاستكبار في الأرض بغير الحق، والبغضاء والحسد والشحناء التي تكون حالقة الدين.
***
وأخيراً: إنَّ هناك بعض العلماء المخلصين، وطلبة العلم الجادين.. يعكفون ـ مثلاً ـ على كتب الفقه والحديث والعقيدة ونحوها، معتبرين ذلك هو العلم الشرعي وحسب؛ وبتحصيله ونشره سيعود للأمة عزها ومجدها!
وتُستغل شهرة العلماء في جذب الشباب إلى حلق العلم هذه، وهذا الأمر يسبب عدة كوارث:
إنَّ دراسة التخصص الدقيق في الفقه والحديث ليس مجاله هو الفضاء العام الدعوي التوجيهي، بل مجاله كليات الفقه والشريعة.. حيث الدراسة الأكاديمية، ولا يخرج عن نطاقها، ولا يخرج أي خلاف فيها إلى جماهير الأمة المسلمة؛ فذلك صدٌ عن سبيل الله.
إنَّ استهلاك مساحة "الفضاء الإعلامي" ونعمة "الشهرة" وكثرة الأتباع.. في مسائل فقهية دقيقة شائكة مختلف فيها من شأنه أن يصرف الشباب عن قضايا أمته المصيرية؛ فينشغل عنها بقضايا جدلية تحرق طاقاته، وربما أخلاقه!
وإنَّ مجال الدعوة إلى الله هو مجال: ائتلاف القلوب، والتمسك بمحكمات الدين، وتقوى الله، ومكارم الأخلاق، والدفاع عن الأمة.. مما لا خلاف عليه بين أحد من المسلمين أبداً.
إنَّ من واجب العلماء الصدع بكلمة الحق في وجه السلطان ـ وإن كان جائراً ـ وقد كان هذا الفعل وما يترتب عليه من أذى هو عند الله من أعظم أنواع الجهاد، وإن العالِم لا يأخذ بالرخصة بل بالعزيمة.. كما أنه عند العجز ـ ولا يجوز أن يكون العجز دائماً أبدياً ـ لا يصرف الشباب إلى فروع لا تنقذ الأمة مما هي فيه..
فهناك تقصير شديد ـ من جانب العلماء المشهورين ـ في بيان الفقه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الجانب المهمل من قديم والذي يُزعج الطغاة في كل جيل وقبيل. وهذا التقصير ينعكس سلباً على عملية إحياء الأمة المسلمة، وعلى زيادة غربة الإسلام.
وإنَّ شهرة العالِم في جوانب التخصص الدقيق بينما يكون عارياً من الفقه الشرعي السياسي، وفقيراً من معرفة الطريق لخلاص الأمة.. يجعله يتسبب في كوارث فقهية سياسية وشرعية عندما يُرجع إليه، بل ويجعل بعضهم ـ والعياذ بالله ـ ترساً في آلة الطغاة التي تطحن عقول وضمائر ودين الأمة.
فيجب أن يكون البلاغ تاماً، على نور من الله، كما جاء في الكتاب المبين: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]
***
الخلاصة:
للمزيد:
ـ كتاب: "العقيدة السياسية في التصور الإسلامي".
ـ بحث: "آلية قراءة قضايا الأمة المصيرية".

