جاء في مقال "الحاكمية بين الغزالي وسيد قطب" للدكتور محمد عمارة:
يقول الشيخ الغزالي: "الحاكمية كلمة دخيلة، فإذا كان لا حكم إلا لله، فهي كلمة حق أريد بها باطل".
ويقول الدكتور عمارة: "إن كلمة الحاكمية لله، سبق وقالها - قبل سيد قطب - ناس أرادوا بها الاعتراض على قبول الإمام "علي" التحكيم بين الناس في بعض الأمور، مع أن الله قد أباح التحكيم بين الزوجين، فما المانع أن يكون هناك حكمان، يبدي هذا الرأي ويبدي هذا الرأي الآخر، والحاكمية لله".
ولقد أرجع الشيخ الغزالي خطأ الأستاذ سيد قطب، فيما كتبه عن الحاكمية، إلى سببين:
أولهما: الظلم الذي وقع عليه من قبل نظام ثورة يوليو، الأمر الذي جعله "ينفرد برأي أملته عليه ظروف المحنة التي وقع فيها.. فالأستاذ سيد له ابن أخت سجن ظلما وعدوانا، ثم إنه رأى في السجن بلاء كثيرا، والواقع أن محاكمته كانت مهزلة، فالرجل كتب كتابة فيها حدة وعنف ضد الحكام وتأول آيات القرآن على أنه لابد من اشتباك صريح مع هؤلاء، وهذا ليس من الممكن".
والسبب الثاني للخطأ في تفكير الأستاذ سيد: "أن الرجل من الناحية الفقهية كان ضحلاً، ليس متعمقاً أو جامعاً لما لابد منه من الأحكام الفقهية، ولذلك يقول كلاما يستحيل أن يقبله الفقهاء، مثل "اجعلوا بيوتكم قبلة لتكون مساجد وصلوا فيها"، وهذا كلام لا يمكن أن يكون مقبولاً، والسبب في ذلك أنه غلبت عليه عاطفة اعتزال المجتمع وضرب الحاكم". ا.هـ
في كلام الدكتور عمارة وما نقله عن الشيخ الغزالي - رحمه الله - مغالطات كثيرة، وظلم كبير للعلاّمة المجتهد سيد قطب - رحمه الله - وغمط لحقه، واستهانة بفكره، ولأن تحقيق مفهوم الحاكمية عند قطب يحتاج إلى بحث مطول، فإننا نكتفي ببعض الإشارات البسيطة بما يتناسب مع طبيعة المقال.
إنَّ الحاكمية ليست كلمة دخيلة، فهي مجرد اشتقاق من لفظ "الحكم" مثل اشتقاق كلمة "الربوبية" من الرب سبحانه وتعالى.. فإذا كانت الربوبية لله وحده، فإن مقتضى ذلك الخضوع لحكم الله وحده، فتكون "الحاكمية لله".
يقول الشيخ يوسف القرضاوي ـ رحمه الله ـ في رده على الذين يُنكرون الشريعة بحجج واهية: ’’ومن غرائب ما قاله بعض الناس في عصرنا ـ وكتبوه في كتب، ونشروه في صحف! قولهم: إن كلمة "شريعة" لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة في سورة الجاثية: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ [الجاثية: 18]
واستدل بهذا على أن القرآن لم يعر قضية الشريعة أهمية واعتباراً، ولو صح هذا الاتجاه في الاستدلال لقلنا: إن الإسلام لا يهتم بقضية الأخلاق؛ لأنه لم يذكر الأخلاق إلا في الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]
ولقلنا: إنه لم يهتم بالفضائل؛ لأن كلمة فضيلة لم تُذكر فيه.
بل لو صح هذا لكان لنا أن نقول: إن القرآن لا يهتم بالعقيدة؛ لأن كلمة "عقيدة" لم ترد فيه مُعرفة ولا مُنكرة. وكذلك لم ترد في السنة المشرفة.
ولو تعاملنا مع المفاهيم والقيم والتعاليم بهذا الفهم القاصر، والمنهج اللفظي الأعرج؛ لاختلطت علينا الأمور، والتبس الحق بالباطل، وتنكبنا سواء السبيل.
إنما الواجب أن نبحث عن مضمون الموضوع في القرآن والسنة، بغض النظر عن الألفاظ والمصطلحات التي استحدثها الناس بعد عصر نزول القرآن‘‘ [من فقه الدولة في الإسلام، يوسف القرضاوي، ص 150]
وأما قولهم: "فإذا كان لا حكم إلا لله، فهي كلمة حق أريد بها باطل" دون بيان لما هو الباطل، وتلميح صريح، بأن فهم قطب للآية هو فهم الخوارج الذين كفّروا علياً كرّم الله وجهه ورضي عنه.
ولذلك زاد الدكتور عمارة بالشرح، تأكيداً لمقصد الغزالي بأن فهم قطب للآية هو فهم "الخوارج"! وهذا ظلم بيّن لرجل عاش حياته يدافع عن قضية "الشريعة" ومواجهة العلمانية، وهو أبعد ما يكون عن فهم الخوارج.
إنَّ مفهوم الحاكمية عند سيد قطب، هو ما فهمه من دلالات الآيات القرآنية مثل:
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [الأنعام: 57]
﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]
﴿وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [البقرة: 113]
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 48]
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: 114]
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [الرعد: 41]
فمن مجموع دلالات هذه الآيات - وغيرها كثير - يتبين مفهوم الحاكمية، فهي تعني: الحاكمية العليا لله في تسيير هذا الكون كله، ووضع سننه وتدبير شؤونه، وإمضاء أمره، فالله يحكم لا معقب لحكمه.
وتعني: أن الله مالك يوم الدين هو الذي يفصل بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ويحكم بينهم، ولا يظلم ربك أحدا.
وتعني: أن الله هو الذي يُشرع لعباده، وهو الذي يُبين لهم ـ سبحانه ـ الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والإيمان من الكفر، فلا حكم إلا له سبحانه، وهذا المعنى هو الذي ركز عليه قطب - رحمه الله - في وقت انتفشت فيه العلمانية لتقلب كل موازين الإسلام، وترد الحكم للبشر لا لله، ليضعوا بأهوائهم تشريعات وتصورات مناقضة تماماً لمنهج الإسلام، فصورت الإنسان قرداً، وآلة للجنس، وعابداً للمادة، وصورت الحياة - كحال الجاهلية الأولى - لحظات للتمتع، وما يهلكهم إلا الدهر، ووضعت أحكاماً بأهوائها لم ينزل الله بها من سلطان، فقال سيد كلمته: "إن الحكم إلا لله" هو الإله الذي وحده يُشرع، وهو الرب الذي لشرعه نخضع، فالحكم لله هو إعلان تحرير للإنسان من الاستبداد القهري أو الاستبداد الاختياري، وتحرير له من كل صور الجاهلية التي تريد أن ترده إلى أسفل سافلين.
أما كيفية تنفيذ وإقامة هذا الشرع: فالمسألة كانت واضحة عند قطب بشكل مميز، فهو أولاً عرّف الشرع بأنه: "كل ما شرّعه الله لتنظيم الحياة البشرية"، ودور المسلمين هو في تنزيل هذه الأحكام على واقع الحياة.. من خلال "الفقه الإسلامي" وقال بوضوح ما فيه نص شرعي، فلا يسع المسلم أن يتركه، وما لم يأت فيه نص شرعي فهناك مبدأ عام يحكمه، فيجتهد المسلم داخل هذا الإطار العام.
وضرب مثلاً بـ "الشورى" في كتابه - نحو مجتمع إسلامي - فقال الشورى مبدأ عام، أما كيفية تنزيل هذا المبدأ على واقع الحياة، فهو متروك لاجتهاد المسلمين في عصرهم، وكيفية تحقيق مبدأ الشورى.
ولكن قطب من جانب آخر: يعتبر أن تحقيق الشورى هو طاعة لما أمر الله به.. ومن جانب آخر هذه الشورى محكومة بآية أخرى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36] فالشورى: تجعل السيادة لله ولشرعه، والسلطة والأمر للأمة.
بينما الديمقراطية - على سبيل المثال - تجعل السيادة للشعب - لا لله - ولا تقف عند ما أمر الله به، فهل عندما نرد هذه الديمقراطية ونقول: إن الحكم إلا لله، نكون كالخوارج - كلمة حق أريد بها باطل - أنى هذا؟!
وكذلك عندما نرد مبادئ الاقتصاد الربوي، ونقول إن الحكم إلا لله - الذي حرّم الربا - نكون من الخوارج ؟!
إنَّ قضية الخوارج - في عصر عليّ كرّم الله وجهه - لم تكن في مسألة رد التحكيم، بعد الاتفاق عليه.. وأرادوا نقض ما اتفق عليه علياً في التحكيم الأول، فأبى.. وقالوا: "إن الحكم إلا لله" والتبس عليهم هذا المعنى، وناظرهم علي وابن عباس رضي الله عنهما، ورجع كثير منهم ممن التبس عليه فهم الآية، فهم لم يتحولوا إلى "خوارج" لالتباس مغزى الآية ومعناها، إنما تحولوا إلى خوارج لأمرين.. الأول: تكفيرهم المسلمين. والثاني: استحلال دمائهم وأموالهم. ومرض قلبي خفي، وهو الكبر.
ولا يصح عندما نكون في هذا الواقع العلماني الذي يُرد فيه حكم الله، ويُنبذ فيه شرعه.. فيقوم داعي إلى كتاب الله، وإلى شرعه، فنجعل الداعي إلى ذلك من الخوارج! فهذا ظلم وبغي وصد عن سبيل الله.
***
يقول قطب - رحمه الله - : "إن الحاكمية في هذا النظام الرباني الفريد لله وحده، فلا حاكمية لأمير ولا رعية، فالله وحده هو المشرع ابتداء، وعمل البشر هو تطبيق التشريع الإلهي، وتنفيذه - وهم حتى فيما يجمعون عليه مما لم يرد فيه نص، يظلون مطبقين للمبادئ الإسلامية، لا مبدعين ولا مضيفين مبدأ جديد لا أصل له في الشريعة - وهم في الأحكام التطبيقية والتنفيذية محكومون بالمبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة، غير مخيرين في العدول عنها، أي اختيار بعضها دون بعض، أو في تعديلها وتحويرها: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: 9] {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44] {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36].
والإشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صدد الحكم والتشريع، لا تنفي أن الحاكمية لله وحده دون البشر، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق في هذا عن الهوى: {إن هو إلا وحي يُوحى} [النجم: 4] أما ما كان يستشير فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويمضيه حسب المشورة لا حسب رأيه، فقد كان في الأمور التي لا تتعلق بالتشريع في أية صورة من صوره، ومنه كل ما ينظم أحوال الجماعة، إنما كان يجئ في الأمور العملية المتعلقة بالخبرة كتأبير النخل واختيار مواضع القتال وخطط ما يتعلق بعلم تجريبي، لا بتشريع ولا بتنظيم اجتماعي يتعلق بالأصول، وفي هذه الدائرة قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" لا في المبادئ والأصول المتعلقة بالإنسان في عقيدته أو في نظامه الاجتماعي، فليكن هذا المعنى واضحاً تمام الوضوح لأن بعض الممارين يلبسه على الناس.
نعم يملك فقهاء الشريعة الإسلامية - وهم ليسوا طائفة معينة كرجال الإكليروس في الكنيسة المسيحية مثلاً - إنما هم مَن تفقه في الدين أياً كانت وظيفته وعمله - يملك الفقهاء أن يختلفوا في فهم النصوص، وفي استنباط الأحكام منها، كما يختلف شُراح القانون الوضعي - ولكن اختلاف فقهاء الإسلام يظل داخل حدود مرسومة، فهو لا يمكن أن يخرج على المبادئ الأساسية في الشريعة: {فإن تنازعتم في شيء فردُوده إلى الله والرسول}.. وبذلك تظل الحاكمية لله وحده، ويظل المجتمع الإسلامي محكوماً وفق شريعته، فإذا انحرف عن هذه القاعدة لم يعد مجتمعاً إسلامياً، يحمل هذا العنوان الخاص.
وهكذا نجد سمة الربانية تتحقق من توحيد الحاكمية لله. وهذه بدورها راجعة إلى عقيدة التوحيد الإسلامية.
بهذه الربانية انفرد النظام الإسلامي من بين سائر النظم التي عرفتها البشرية، بما فيها النظام "الثيوقراطي" الذي كان الحاكم يتلقى فيه سلطته إما من رجال الدين، وإما من الحق الإلهي، بوصفه ظل الله في الأرض ! فمعنى الربانية في الإسلام متعلق بالنظام ذاته، لا بالحاكم وسلطة الحكم، فالحاكم في النظام الإسلامي لا يتلقى سلطته من رجال الدين، ولا يدّعيه بحق إلهي له، إنما يستمد حقه في تولي الحكم من البيعة الحرة، كما يستمد طاعته من تنفيذ شريعة الله دون سواها: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله تعالى".
وفرق كبير بين هذه القاعدة وقاعدة النظام الثيوقراطي كما عرفته أوروبا.
إن الربانية في النظام الإسلامي ربانية شريعة ونظام، لا ربانية أمراء وحكام ! وحين يُشرع الله تعالى للبشر يُشرع بعلم كامل، وبعدل شامل، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير. [نحو مجتمع إسلامي - سيد قطب]
***
وأما سبب اهتمامه الشديد بقضية الحاكمية، فيجيب عنه بقوله ـ رحمه الله ـ : "قضية الألوهية والتشريع هي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة..
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة ـ كما هو شأنه وحقيقته ـ قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين. ولقد جعلت كلمة "الحلال" وكلمة "الحرام" يتقلص ظلهما في حس الناس، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح، أو طعاماً يؤكل، أو شراباً يشرب، أو لباسا يلبس، أو نكاحا يعقد.. فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا: حلال هي أم حرام! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله! فالنظام الاجتماعي بجملته، والنظام السياسي بجملته، والنظام الدولي بجملته؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام!" [في ظلال القرآن ـ سورة المائدة]
***
يقول الشيخ يوسف القرضاوي، رحمه الله: ’’إن فكرة الحاكمية أساء فهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها، وأود أن أنبه هنا على جملة ملاحظات حول هذه القضية:
هل هي فكرة الخوارج؟
1ـ الملاحظة الأولى: أن أكثر من كتبوا عن "الحاكمية" التي نادى بها المودودي وأخذها عنه سيد قطب، ردوا أصل هذه الفكرة إلى "الخوارج" الذين اعترضوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قبوله فكرة التحكيم من أساسها، وقالوا كلمتهم الشهيرة: "لا حكم إلا لله" ورد عليهم الإمام بكلمته التاريخية البليغة الحكيمة حين قال: كلمة حق يراد بها باطل! نعم، لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله! ولا بد للناس من أمير بر أو فاجر!
وهذا المعنى الساذج للحكم أو الحاكمية أصبح في ذمة التاريخ، ولم يعد أحد يقول به، حتى الخوارج أنفسهم وما تفرع عنهم من الفرق، فهم طلبوا الإمارة وقاتلوا في سبيلها، وأقاموها بالفعل، في بعض المناطق، فترات من الزمان.
أما الحاكمية بالمعنى التشريعي، ومفهومها: أن الله سبحانه هو المشرع لخلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم، فهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب، بل هو أمر مقرر عند المسلمين جميعاً. ولهذا لم يعترض علي رضي الله عنه على المبدأ، وإنما اعترض على الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة. وهذا معنى: "كلمة حق يراد بها باطل". فمعنى "أنها حق": أنها صحيحة في ذاتها، والباطل هو ما يراد بها.
الحاكمية عند علماء أصول الفقه:
وقد بحث في هذه القضية علماء "أصول الفقه" في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم به، والمحكوم عليه.
فها نحن نجد إماماً مثل أبي حامد الغزالي يقول في مقدمات كتابه الشهير "المستصفى من علم الأصول" عن "الحكم" الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلق بالحاكم وهو الشارع، وبالمحكوم عليه، وهو المكلف، وبالمحكوم فيه، وهو فعل المكلف...
ثم يقول: "وفي البحث عن الحاكم يتبين أن "لا حكم إلا لله" وأن لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره".
ثم يعود إلى الحديث عن "الحاكم" وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلفين، فيقول: "أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم، والسلطان السيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب من الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئاً، كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته"
الحاكمية التي دعا إليها المودودي وقطب:
2ـ الملاحظة الثانية: أن "الحاكمية" التي قال بها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده، لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم، وتراقبهم، بل وتعزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد، بحق.
فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله.
أما سيد قطب فقال في "معالمه":
كلام سيد قطب عن "الحاكمية":
"ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم ـ هم رجال الدين ـ كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم "الثيوقراطية" أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة"...
الحاكمية المقصودة هي الحاكمية العليا:
3ـ الملاحظة الثالثة: أن الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده، وليست لأحد من خلقه، هي الحاكمية "العليا" و"المطلقة" التي لا يحدها ولا يقيدها شيء، فهي من دلائل وحدانية الألوهية.
وهذه الحاكمية ـ بهذا المعنى ـ لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الديني المحض، كالتشريع في أمر العبادات بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم، أو بالزيادة فيما شرع لهم باتباع الهوى. أو بالنقص منه كماً أو كيفاً، أو بالتحريف والتبديل فيه زماناً أو مكاناً أو صورة. ومثل ذلك التشريع في أمر الحلال والحرام، كأن يُحلوا ما حرم الله، أو يُحرموا ما أحل الله، وهو ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم نوعاً من "الربوبية" وفسر به قوله تعالى في شأن أهل الكتاب: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]
وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة، كالقوانين التي تقر المنكرات، أو تشيع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أو تعطل الفرائض المحتمة، أو تلغي العقوبات اللازمة، أو تتعدى حدود الله المعلومة.
أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم. وذلك في دائرة ما لا نص فيه أصلاً وهو كثير، وهو المسكوت عنه الذي جاء في حديث "وما سكت عنه فهو عفو" وهو يشمل منطقة فسيحة من حياة الناس.
ومثل ذلك ما نص فيه على المبادئ والقواعد العامة دون الأحكام الجزئية والتفصيلية كما في قضية "الشورى".
ومن ثم يستطيع المسلمون أن يشرعوا لأنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، غير مقيدين إلا بمقاصد الشريعة الكلية، وقواعدها العامة. وكلها تراعي جلب المصالح، ودرء المفاسد، ورعاية حاجات الناس أفراداً وجماعات.
وكثيراً من القوانين التفصيلية المعاصرة لا تتنافى مع الشريعة في مقاصدها الكلية، ولا أحكامها الجزئية، لأنها قامت على جلب المنفعة، ودفع المضرة، ورعاية الأعراف السائدة.
وذلك مثل قوانين المرور أو الملاحة أو الطيران، أو العمل والعمال، أو الصحة أو الزراعة، أو غير ذلك مما يدخل في باب السياسة الشرعية، وهو باب واسع.
ومن ذلك تقييد بعض المباحات تقييداً جزئياً ومؤقتاً، كما منع سيدنا عمر الذبح في بعض الأيام، وكما كره لبعض الصحابة الزواج من غير المسلمات حتى لا يقتدي بهم الناس، ويكون في ذلك فتنة على المسلمات‘‘ [كتاب: من فقه الدولة في الإسلام، الشيخ يوسف القرضاوي، ص 74]
***
وأما الشبهة الشهيرة لإحباط فكر الأستاذ قطب - رحمه الله - هي دعوى أنه كتب ما كتب تحت ضغط السجن، وهذا غير صحيح، فقبل السجن، وقطب يُنظر لذلك كما جاء في كتاب "العدالة الاجتماعية" وقطب لم يأت بجديد في هذا الأمر فعلماء المسلمين قبله تكلموا في هذه القضية كل بأسلوبه وطريقته، حتى الشيخ البنا - رحمه الله - له كتابات في منتهى الوضوح حول قضية الشريعة والحاكمية، إلا أن قطب توسع في المسألة وتعمق فيها لا سيما وهو يتعرض لتفسير الكثير من الآيات التي توضح أمرها، ولم تكن قضية قطب النظام الحاكم في مصر وقتها، ولم يكتب بصورة محلية أو وقتية عن أزمته.. بل تكلم بصورة عامة، خالعاً عن نفسه ظروف الزمان والمكان، ولقد عُرضت على قطب الوزارة فأبى، فليست هي قضية شخصية، بل قضية دين.
وأما الشبهة الثانية: هي مسألة الفقه، فقطب لم يكن ضحلاً من الناحية الفقهية، ومن يقرأ الظلال يلحظ ذلك، ويجد للرجل تحقيق واجتهاد فقهي على مستوى عال، ولكن لم تكن قضيته الفقه الإسلامي بمعنى التمذهب والفتوى، بل في العودة أولاً إلى الشرع الذي يُأخذ منه هذا الفقه، وهو يُظهر احتراماً لفقهاء المسلمين وينقل عنهم فيما يعترضه من آيات أو أحكام، بل هو يدعو إلى تجديد الفقه الإسلامي، ويعيب عليه جموده في مرحلة معينة، ويُفرق بين الشرع والفقه، فلماذا هذا التحامل عليه؟ وإخراج دعوته وهدفه عن السياق الذي أراده وقصده؟
أما تفسيره لقوله تعالى: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} والتي فُهم منها اعتزال المجتمع ذاته، وإنما كان يقصد اعتزال "جاهلية" المجتمع، وفي حال مطاردة الجاهلية للمؤمنين، فليجعلوا بيوتهم قبلة، فيقول قطب في تفسير الآية: "أوحى اللّه إلى موسى وهارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار؛ وكلفهم تطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، والاستبشار بنصر اللّه، وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة، تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد اللّه لها.
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور." [تفسير سورة يونس/ في ظلال القرآن]
فهو إذاً يتحدث عن "احتمالية" مطاردة المجتمع الجاهلي - كمثل عهد فرعون - للمؤمنين، وتعم الفتنة، ويتجبر الطاغوت، ويفسد الناس، وتنتن البيئة.. ففهي هذه الحالة يجب اعتزال هذه الجاهلية بنتنها وفسادها، فالعزلة للنتن لا للخير ولا للناس، ولقد سمى الله سبحانه مسجد المنافقين بـ "مسجد الضرار" فقضية قطب هي قضية عودة الأمة، ونصرة الإسلام.
فهل يمكن أن نقول: إن قطب أفتى بالصلاة في البيوت، وعدم الصلاة في المساجد، واعتزال المجتمع؟! وهل نقدّم فكر قطب وكتاباته على أن هذه هي قضيته؟!
إنَّ قضية قطب هي عودة الأمة للاجتماع على كتاب الله، والتحاكم إليه، ونبذ العلمانية بصورها المختلفة، والدعوة إلى ذلك، والصبر على الفتن في هذا الطريق، وإعداد القوة المكافئة عند كل مواجهة، وتكوين القاعدة الصلبة التي تكون نواة المجتمع الذي يحمل هذه الدعوة، وينشرها بين الناس، ويواجه بها طغيان الغرب، والشرق، لتكون رسالة الإسلام العالمية هي العليا، وتكون الأمة المسلمة هي الأمة الشاهدة كما كانت من قبل.
***
تعقيب بتاريخ: 05 – 09 – 2021م.
سؤال وجواب في الحاكمية:
1- هل التشريع كفر في حد ذاته؟
التشريع بالطبع ليس كفراً في حد ذاته، إنما الكفر يأتي من نبذ شريعة الله، وعدم التحاكم إليها، فالمُشرع المسلم واجب عليه وضع القوانين التي تنبثق من الشريعة في مواضعها وهذا في حالة الاجتهاد فيما ليس فيه نص صريح، وفي حالة النص الصريح فالاجتهاد يكون في فهم الواقع، والتطبيق الصحيح.
2- هل مادة السيادة ملك للشعب وحده تعني أن الشعب هو وحده المشرع في كل شيء؟
السيادة ليست للشعب، إنما السيادة لشرع الله وكتابه، وإنما السلطة هي التي ملك للأمة، فشعار الإسلام: السيادة لكتاب الله (فلا شريعة غير شريعة الله)، والسلطة للأمة (فلا استبداد، ولا ظلم، ولا قهر، وإنما شورى وعدل وحرية).
3- الإسلام دين الدولة ماذا يعني؟
الإسلام دين ودولة، ونظام، ومنهج حياة، وهوية، وصبغة، وحضارة.. فالإسلام دين بمعنى إقامة الشعائر التعبدية كأفراد وجماعات لله وحده لا شريك له، ودولة بمعنى أن النظام والدولة والحاكم والمحكوم الجميع خاضعون لشريعة الله في تنظيم أمور الحياة: السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والفكرية، والعلاقات الدولية، والتحالفات، والجهاد في سبيل الله... إلخ، ولا يصح ـ بل هي العلمانية الصريحة ـ إن أخذنا الإسلام للعبادة فقط، وتركناه كشريعة تحكم الحياة، وتنظم شؤون الاجتماع والسياسة.
4- هل كفر النظام يعني كفر من يدخل فيه كرئيس أو برلماني أو غير ذلك؟
كفر النظام الحاكم لا يعني الحكم على كل من دخل فيه بالكفر، بل الصحيح هو غلق باب التكفير، والتكفير العيني تحديداً، والحديث العام عن أفعال الكفر البواح؛ التي تستلزم من الأمة القيام بواجبها السياسي والحضاري؛ للتخلص من الأنظمة المنافقة الباغية التي تسلطت عليها بمساعدة أعداء الأمة التاريخيين من اليهود والصليبيين. دعوة عامة لا تنشغل بتكفير فلان أو تكفير من لم يكفر فلان، فهذا منزلق خطير يُضيع الخطة الصحيحة للأمة للخلاص من حكم المنافقين، ونكتفي فقط بوصف "النفاق والبغي" فيهم.
5- هل التأويل محتمل في دخولهم؟
بما إننا لا نفتح باب التكفير، فمن ثم لا نفتح باب التأويل والإعذار لهم، والتبرير لأفعالهم. فالخطة هي: المواجهة دون تكفير أو رمي بالردة، حتى تتجرد الأمة لمعركتها مع الاحتلال الداخلي، وتعد العدة للاحتلال الخارجي.. والله تعالى أعلى وأعلم.
***
تعقيب بتاريخ: 31 - 08 -2023
بإذن الله سيُنشر كتاب قريباً بعنوان: "توحيد الربوبية".. وفيه نقل لأقوال العلماء من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر الهجري، حول توحيد الربوبية والحكم لله؛ لتجريد وتمحيص هذه المسألة وبيان إجماع المسلمين فيها عبر العصور، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.