فمع كل حراك أو ثورة لا بد من أن يخرج الكذبة والدجاجلة؛ ليحاولوا الاستفادة الشخصية من هذا الحراك، أو الالتفاف عليه.. واستغلال عاطفة الشعوب والتلاعب بها في حالة الغضب..
إنَّ كل ثورة تفشل عندما تكتفي فقط بـ "التعبير" عن الغضب، دون "امتلاك ناصية الأمر" ودون تحديد "معالم مشروع التغيير" ودون "القضاء على النظام القديم" من قواعده لا فقط من رأسه.. وهذا هو دور المصلحين، في رفع وعي الشعوب، وعدم تركها فقط أسيرة عاطفة الغضب المكبوت..
وفي هذا المقال نناقش – بشكل عام – معالم الثورات:
التعريف العملي للثورة، وبعيداً عن طبيعة الراية التي تحملها، أو الأهداف التي تنشدها، أو العقيدة التي تفكر بها، فإن الثورة هي: "الانقلاب على النظام الحاكم، والإمساك بزمام مواطن القوة الباطشة فيه، ثم السيطرة على مكامن القوة الناعمة التي تحميه".
هي: الضرب في سويداء قلب القوة الباطشة للنظام، بلا تردد، ولا خجل، ولا خوف، ولا ارتعاش.
التعريف العملي للثورة: لا يهدف إلى إبادة جماعية للنظام الحاكم، إنما يهدف إلى "الإحلال" الكامل محله، وحتى يتم هذا الإحلال لا بد من القضاء على "قيادات الصف الأول" جميعها وليس رأسها فقط.. ولا بد من "تطهير" عوامل قوة النظام الباطشة مثل: قيادات الجيش، قيادات المخابرات، قيادات قوى الأمن الداخلية.. هذه الثلاثة تقريباً هي محاور الارتكاز للقوة الباطشة للنظام، والتي بها يقهر الشعب، وبها يحمي النظام.. إذن، فالتعريف العملي للثورة هو: الإطاحة بهذه القيادات، وتفريغ النظام من عوامل قوته، وإحلال قيادات ثورية جديدة محله.
ثم يأتي دور القوة الناعمة؛ وتتمثل في: (الإعلام، القضاء، الأحزاب الموالية للنظام، الفئة المنتفعة من النظام) وفي الفترة الأولى من الثورة لا بد من "ترسيخ" أهداف الثورة وغايتها، و"تشبيع" العقل الجمعي بمبادئها، ومشروعيتها، ومشروعها، و"القضاء" المعنوي الناعم - وليس الوحشي القتالي - على أعداء الثورة الذين يمثلون القوة الناعمة للنظام، ومن ثم التوجه نحو تفكيك منظومة الإعلام سواء أكان رسمياً أو خاصاً، وتفكيك منظومة القضاء، والمحاكم الدستورية خاصة، لأنه من الممكن أن تلتف على الثورة، وتصدر قرارات مضادة للثورة، وتفكيك الأحزاب الموالية للنظام، وتحويل قاعدتها الشعبية نحو فكر وأهداف الثورة من خلال خطاب إعلامي جامع يراعي المستوى الثقافي للشعب، والإحاطة بالفئة المنتفعة من النظام، والتحفظ على أموالها، ومنعها من السفر؛ حتى لا تُهرّب ثروات البلاد للخارج.
وهذا يأخذنا إلى "تطعيم - تحصين" الثورة ضد عوامل "الثورة المضادة".. ومصطلح "الثورة المضادة" مصطلح غير دقيق، إنما الصحيح هو "عودة النظام" إلى الحياة، وفي هذه الحالة تكون الثورة قد وجهت له "طعنات غير مميتة" أو "طعنات صغيرة" وبالتالي سيكون "عودة النظام" كارثة كبرى، إذ سيعود أشرس وأشد وأسوأ مما كان.
أولى التحصينات ضد عوامل الثورة المضادة هو: "الحرس الثوري" فلا يوجد ثورة بلا حرس ثوري، إذ لا يمكن أن يكون رجال الثورة وقادتها.. تحت رحمة رجال أمن النظام القديم، فهؤلاء سيظل ولاؤهم للنظام القديم كامناً في نفوسهم، وستكون كل حساباتهم.. ماذا سيكسبون، وماذا سيخسرون مادياً؟
وأهم شيء لتكوين الحرس الثوري هو السرعة لإعطائه "الشرعية الثورية والدستورية والقانونية" حتى لا يتحول إلى "مليشيات مسلحة" يتم تفكيكها فيما بعد. أهمية الحرس الثوري ليست هي بث الأمن والأمان في ربوع الوطن فحسب - فهذه ليست مهمته الأساسية - مهمته الأولى: هي "حماية" النظام الجديد ورجاله من أي محاولة اغتيال أو انقلاب مضاد أو حصار من الداخل، وتطهير النظام الجديد من عوامل التجسس، وتسريب المعلومات للداخل والخارج.
إذن الثورة هي: عملية "هدم" لقوى النظام القديم، و"بناء" لقوى النظام الجديد.. وهذه العملية تتطلب "السرعة" القصوى لإنجازها، فأي تردد أو خوف أو شك يعني انهيار الثورة، فالأمر أشبه بـ"حيوان متوحش" تريد ذبحه، فإما أن تقضي عليه.. أو يستفيق هو فيفترسك بلا رحمة.
والثورة: هي "لحظة فارقة" أي خطأ في حساباتها، وأي تهاون في تفويت فرصتها.. يعني أنها انتهت ولن تعود خلال جيلها على أقل تقدير، فالثورات يتكون مخاضها في عشرات السنين، وربما تأخذ جيلاً على الأقل، وليس صحيحاً أنه يمكن أن تحدث ثورتان في توقيت متقارب أبداً، لأن الشعوب لا تنتفض بسهولة. كما أن الثورة تأخذ سنتين على الأقل حتى تُنهي عملية التطهير ويبدأ البناء.. ولا يمكن أن تستمر ثورة لساعات يمكن أن يسقط فيها نظام.
الشعوب لا تقود الثورات
ليس صحيحاً أن الشعب يقود ثورة.. الشعب هو "رداء الثورة" ولا بد للثورة من "قيادة" و"رجال" توجه الثورة، وتكون "رأس" الثورة.. الشعب هو: الرداء الذي يحمي قيادة الثورة وأهدافها، ويصبر (لمدة محدودة لا تطول) على تكاليف الثورة، فإن فشلت.. استسلم وحن للنظام القديم!! الشعب يقوم بدور مساعد في تحطيم الصف الأول من قيادات النظام الباطشة، فهو بثورته ونزوله الشوارع "يُخلخل" المنظومة الأمنية للنظام التي ستعجز عن مواجهة ملايين من الناس.
بالنسبة لقيادات الثورة، فإن أغلب الثورات الناجحة عبر التاريخ، تشير إلى أهمية - بل وجوب - أن تكون قيادات الثورة ذات "أيديولوجية - عقيدة" واحدة، وليس مجرد أهداف واحدة.. لأن تفسير الأهداف وكيفية تحقيقها سيختلف من أيديولوجية إلى أخرى، ومن ثم فإن "التوافق الأيديولوجي" هو التوافق المطلوب، وليس مجرد التوافق على أهداف.
فضيلة السلمية
تنخدع الثورات عندما يتم الإشادة بها على أنها "سلمية" وهذا غير صحيح، لا يوجد شيء اسمه ثورة سلمية، أو مسلحة، فلو افترضنا أن الثوار استخدموا السلاح النووي في ثورتهم، ثم كانت النتيجة أن بقي النظام الذي قامت عليه الثورة كما هو.. فهذا يعني أن الثورة فشلت بكل المقاييس ! الثورة هي: الإمساك بعوامل القوة الباطشة والناعمة للنظام، وإقامة نظام جديد وفق مبادئ الثورة.. هذا هو الهدف إن تحقق بالسلمية فبها ونعم، وإن لم يتحقق بالسلمية فباستخدام القوة المناسبة التي تُسقط النظام، ولا تهدم مقومات ومكونات الدولة !
وأي خوف أو خجل أو تردد في استخدام القوة.. فهذا يعني أن النظام القائم سيذبح كافة الثوار بلا رحمة، فإذا أعلنتَ الثورة فاتمها للنهاية بأي تكلفة، أما أنصاف الثورات فهي مقبرة للشعوب، تأتي مثالية الثورات في استخدام "الجرعة المناسبة" من القوة.. واستهداف مواطن قوة النظام بعناية، في عملية جراحية دقيقة للغاية حتى يسقط النظام القديم، ويحل محله النظام الجديد بفكره ورجاله.
دعوات المصالحة
في لحظات موت النظام، يتجه إلى "خدعة" المصالحة، والتوبة، والرغبة في المشاركة والبناء.. وهذه الدعوة قد تخدع الأطفال فقط، أما رجال الثورات فيدركون أن عليهم توجيه "طعنة" مميتة في سويداء قلب النظام، طعنة لا تجعله يتحرك بعدها أبدا، حتى تستطيع الثورة أن تكمل طريقها، فإن النظام - مهما طال الزمان - سيظل في قلبه ثأراً تجاه الثورة، وما أن يملك القوة سيتوجه - بلا تفكير - لذبحها.. فإما أن تذبحه الثورة، أو يذبح النظام الثورة.
الخطر من قيادات الثورة، لا من الثوار
يُخبرنا التاريخ أن خطأ واحداً في حساب القيادات قد يُفشل الثورة كلها، وإن "فتور" الثورة في لحظة ما قد يُفشلها كذلك.. لذا فهي معادلة خطيرة حساباتها جد دقيقة لا هزل، ولا رعونة، ولا سفه فيها، وإلا فقد دمرت نفسها، ومن قام من أجلها. ولا بد للقيادات أن تكون مفعمة بالروح الثورية، ومؤهلة للقيادة الثورية - وليس التوافقية - ومؤمنة إيماناً خالصاً وكلياً بما يجب أن تقوم به، وقادرة على حشد الشعب، والمضي به نحو الثورة الكاملة.
لا تقبلوا التوبة
الثورة لا تعرف قبول "التوبة" من النظام الذي ثارت عليه، فالثورة في بدايتها يتم شيطنتها، ثم إذا اشتد عودها بدأ الحياد تجاهها، ثم إذا انتصرت سعت مكونات النظام إلى تأييدها، والمشاركة فيها.. فلا توبة ولا مشاركة، حتى تظل الثورة طهارة من لوثة النظام القديم، وقادرة على بناء نظامها الجديد.
التحصين ضد العوامل الخارجية
في الدول التي تكون خاضعة لهيمنة النظام الدولي، وليس لديها استقلال حقيقي تام - مثل بلادنا - فإن النظام الدولي يحضر من أول يوم في الثورة - إن لم يكن قبلها - وفي هذه الحالة سيعمل النظام الدولي على إفشال الثورة في البداية، ثم الحياد أيضاً إذا اشتد عودها، ثم التدخل لتحويل نجاح الثورة لتحقيق مصالحه الخاصة حسب كل دولة، وجعلها لا تخرج على خطوط النظام الدولي وأوامره..
والثورة على النظام الدولي مرحلة متقدمة، لا يمكن أن تنجح، حتى يتم النجاح التام في ثورة الداخل؛ وما يجب التأكيد عليه في هذه الجزئية.. إنه لا أصدقاء للثورة على الإطلاق في الخارج.. الجميع أعداء الثورة حتى وإن تغنوا بها، وصفقوا من أجلها، ولا يغترن أحد ببعض الطيبين في الخارج الذي ينفعلون بثورات الشعوب، فالعبرة برجال النظام الدولي، وهؤلاء لا هَمَّ لهم إلا قهر واستعباد الشعوب الضعيفة.
الإعلام
يعمل إعلام الدولة الرسمي والخاص - الذي يكون تابعاً بصورة أو بأخرى للنظام ومؤيداً له - على إرباك مفاهيم الثورة، وتشويه صورتها، وبث عوامل الفرقة بين الثوار، وتفريغ الثورة من محتواها، وهذا الإعلام يعتبر من أشد وألد أعداء الثورة، ويجب القضاء عليه، وإخراسه تماماً دون الخوف من الاتهام بتقويض حرية الإعلام، وكرامة الإنسان... إلخ من هذه الشعارات، فالثورات لا تعرف مثل هذا العبث، إنها لحظة حرجة.. لحظة ميلاد من وسط مخاض عشرات السنين من الفساد والظلم والقهر والاستبداد والاسترقاق، والظرف لا يحتمل مثل هذه الشعارات التي تُفسد عملية الولادة، وتُربك "طلقات الولادة" وإلا مات جنين الثورة في رحم الشعوب، وتسممت بموته !. وكما أنها لحظة ميلاد، فهي كذلك لحظة ذبح النظام.. ولا بد من أن تتم كاملة تامة.
الوقت
الشعوب لا يمكن أن تظل ثائرة، ولا تستطيع وليس في مقدرتها.. الشعوب هي "رداء مؤقت" لقيادات الثورة، والثوار.. ويجب خلال "شهور" الثورة الأولى القضاء على قيادات الصف الأول جميعها من رجال القوة الخشنة الباطشة للنظام، وفي الشهور التي تليها تكون السيطرة على القوة الناعمة للنظام، وكلما كان الإسراع بتطهيرها منذ الأيام الأولى من الثورة كلما كان أفضل، كما لا يُفضل المبالغة في الوعود أمام الشعوب، لأن تحقيقها يتطلب وقتاً طويلاً.
التحصين ضد الحرب الأهلية
في الثورة ضد الأنظمة المستبدة خاصة، فإن احتمال استخدام القوة ضد هذه الأنظمة هو الاحتمال الأقوى بكل تأكيد، وقد يسعى إلى استغلال عوامل الاختلاف داخل الشعب، لتحويل المسألة إلى "حرب أهلية" يتقاتل فيها الشعب ضد بعضه البعض، ومن ثم سيكون بقاء النظام هو أفضل بديل، ولا بد من التحصين الداخلي للثورة ضد عوامل الاقتتال - وهذه من أهم وأخطر مراحل الثورة - وتحويل القتال فقط ضد قيادات الصف الأول ومحاولة الوصول إليها والقضاء عليها، ومحاولة تحييد الجند وصغار القادة، لتجنب أن تكون تكلفة الدماء باهظة.
الأيديولوجيا - العقيدة
حالة التجانس في الأيديولوجيا بين الثوار، من أهم عوامل نجاح الثورات.. فإذا كانت أيديولوجيا الشعب والثوار "علمانية" مثلاً.. فيجب أن تظل هكذا متجانسة لا يدخل عليها أي مدخلات أخرى تفسد تجانسها واتساقها، والأيديولوجيا تُكوّن "العقيدة" التي يُضحي من أجلها الشعب ويحافظ عليها، والعقائد لا تقبل التضاد ولا تقبل المشاركة، وأي انقسام في الأيديولوجيا يعني انقسام في الثورة، الأمر الذي يُنشى "التحارب" الداخلي بين الثوار، ويؤدي إلى القضاء الذاتي على الثورة.
وفي حالة الشعوب الإسلامية: فإن العاطفة العامة للشعوب "إسلامية"، ولكن هويتها مضطربة بفعل عوامل الاختراق والاحتلال الثقافي والسياسي، ولكن تظل العاطفة تجاه الإسلام كامنة في القلوب، وهي المحرك الأكبر للتضحية لخصوصية الإيمان باليوم الآخر، وانتظار الجزاء الأخروي في حالة كون الثورة إسلامية، ولن تنجح ثورة للشعوب المسلمة إلا أن تكون "ثورة إسلامية" فلا بد لهذه الثورة أن تكون إسلامية خالصة.. أي محاولة لإدخال العلمانية عليها ستُفشل كليهما، فالإسلام بطبيعته لا بد وأن يعلو، والعلمانية تريد أن تكون بديلة عن الدين عموماً لا سيما في الحياة العامة.. والحياة العامة والسياسية هي بالأساس "موضوع الثورة".
10 / 1 / 2016
* * *