نَشرت وكالة رويترز الإخبارية ـ في الفترة الماضية ـ مجموعة من الأخبار حول الوضع السياسي السوري، وكانت تدور في أغلبها حول الشروط الأمريكية لرفع العقوبات، وتطبيع العلاقات مع دولة يهود.. ومما جاء في هذه الأخبار نقلاً عن وكالة رويترز ما يلي:
قَدّمت الولايات المتحدة قائمة بالشروط المطلوبة لرفع العقوبات، ومنها: عدم تعيين مقاتلين أجانب في المناصب العليا في الهيكل الحكومي السوري.. الأمر الذي يثير قلق الحكومات الأجنبية، والتعاون في مكافحة الإرهاب، ودعم الأقليات وإدانة التطرف الإسلامي وأن تضمن الحكومة الأمن والحريات لجميع السوريين، وتدمير أي مخزونات متبقية من الأسلحة الكيميائية، وحظر الجماعات الفلسطينية المسلحة من العمل في البلاد، بما في ذلك جمع الأموال هناك وطرد أعضائها من البلاد، ومحاربة فلول تنظيم الدولة، والسلام مع إسرائيل وعدم وجود تهديد لها من الأراضي السورية.[رويترز | 25. 03. 2025، رويترز | 25. 04. 2025]
وتأكيداً لذلك.. قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين لافيت في تدوينة على صفحتها بمنصة إكس (بتاريخ: 14. 05 .2025م)، إنَّ ترامب قد حثّ الشرع على 5 أمور خلال لقائهما في الرياض، وهي:
1. التوقيع على اتفاقيات إبراهام مع إسرائيل.
2. مطالبة جميع الإرهابيين الأجانب بمغادرة سوريا.
3. ترحيل الإرهابيين الفلسطينيين.
4. مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة داعش.
5. تحمل مسؤولية مراكز احتجاز داعش في شمال شرق سوريا.
وشكر الرئيس الشرع الرئيس ترامب وولي العهد والرئيس أردوغان على جهودهم في تنظيم الاجتماع، وأقر بالفرصة المهمة التي أتاحها انسحاب الإيرانيين من سوريا، بالإضافة إلى المصالح الأمريكية السورية المشتركة في مكافحة الإرهاب والقضاء على الأسلحة الكيميائية. وأكد الرئيس الشرع التزامه بفك الاشتباك مع إسرائيل عام 1974م . واختتم الرئيس الشرع كلمته معربًا عن أمله في أن تكون سوريا حلقة وصل أساسية في تسهيل التجارة بين الشرق والغرب، ودعا الشركات الأمريكية إلى الاستثمار في النفط والغاز السوريين. [تدوينة X]
وعلى خلفية هذه الشروط:
ـ اعتقلت السلطات السورية اثنين من الأعضاء البارزين في الفصيل الفلسطيني المسلح حركة الجهاد الإسلامي، الذي شارك في هجمات أكتوبر 2023 على إسرائيل من غزة، حسبما أفاد جناحها المسلح ومسؤول سوري يوم الثلاثاء. وفي بيان، قالت كتائب القدس إن خالد خالد، الذي يرأس عمليات الجهاد الإسلامي في سوريا، وياسر الزعفوري، الذي يرأس لجنتها التنظيمية، قد تم احتجازهما في سوريا لمدة خمسة أيام. وقالت المجموعة إن الرجال تم اعتقالهم "دون أي تفسير للأسباب" و"بطريقة لم نكن نأمل أن نراها من الإخوة"، ودعت إلى إطلاق سراحهم. [رويترز | 22. 04. 2025]
ـ قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن البلاد أجرت محادثات غير مباشرة مع إسرائيل لخفض التوترات بينما استمرت الضربات الإسرائيلية في استهداف سوريا. حيث تسعى الحكومة الجديدة في سوريا للحصول على مساعدة إقليمية لإدارة علاقة متزايدة العدائية مع جارتها الجنوبية حيث استمرت إسرائيل في تنفيذ ضرباتها في سوريا في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك واحدة على بعد 500 متر فقط من القصر الرئاسي في دمشق.
وأفادت رويترز أن الإمارات العربية المتحدة قد أنشأت قناة خلفية للمحادثات بين إسرائيل وسوريا، وتركز الاتصالات غير المباشرة، التي لم يتم الإبلاغ عنها سابقًا، على مسائل الأمن والاستخبارات وبناء الثقة بين دولتين لا توجد بينهما علاقات رسمية.
قال أحد المصادر: "بدأت الجهود بعد أيام من زيارة الرئيس السوري للإمارات في 13 أبريل، وتركز حاليًا على 'مسائل تقنية'، ولا يوجد حد لما قد يتم مناقشته في النهاية." كما أن الحكومة الإماراتية لديها مخاوف بشأن التوجه الإسلامي لقادة سوريا الجدد، لكن اجتماع الشرع مع الرئيس الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الشهر الماضي كان جيدًا جدًا، وفقًا للمصادر، مما ساعد في تهدئة بعض مخاوف أبوظبي" [رويترز ، رويترز | 07. 05. 2025]
***
ومِن الواضح ـ فيما يبدو لنا ـ أن مآلات الثورة السورية تتجه من جانب إلى:
(1) "التتريك": حيث تكون فلسفتها وآلياتها وأدواتها وفكرها وسياستها تمضي في حدود "الرؤية التركية" في كل شيء.. ولا يخفى الدعم التركي الواسع والدور الهام في إنجاح الثورة السورية، ولا يخفى أن التوجيه التركي في بعض المجالات محمود الجانب، لكن تسليم الأمر كله لعملية التتريك ينضوي على خطورة بالغة، تتمثل في التوجه العلماني المعتدل لحزب العدالة من جانب، ومن جانب آخر خطورة غياب الحزب لاحقاً عن سدة الحكم في تركيا، ويجعل ثمرة الثورة رهينة للمزاج التركي المتقلب. [انظر: أوجه الفشل في التجربة التركية]
(2) ومن جانب آخر إلى "السعودة": فالثورة السورية يبدو أنها تتبنى السردية الخليجية في اعتبار إيران هي العدو حصراً، وإسرائيل هي الصديق!! واستخدام الصراع السني الشيعي في ترسيخ ذلك، وتوجيه العداء نحو إيران وحدها، وخذلان فلسطين وشعبها ومقاومتها.. فتُستخدم "الحَمية السُنية" لصالح إسرائيل حصراً!! وليس ذلك فحسب، بل المضي في التطبيع مع إسرائيل حتى مع احتلالها للأراضي السورية والمناطق الحساسة القريبة من دمشق، والخضوع لكل الإملاءات الغربية والخليجية دون أدنى مقاومة ولو صوتية! وذلك في مقابل تخفيف أو رفع العقوبات الدولية بما يسمح بانضمام سوريا للحظيرة العربية المُطبعة مع إسرائيل والمهادنة لمحيطها، والرافضة والمحارِبة لأي سياسة غير ذلك!
ولا شك إن كافة الذين جاهدوا لإسقاط نظام المجرم الهارب وفئته وداعميه.. كان هدفهم إعلاء كلمة الله، وتحكيم شريعته، ولا يُرضيهم هذا التحلل والانسلاخ من تلك الأهداف شيئاً فشيء..
وأياً ما كانت المسوغات السياسية أو الشرعية من وراء هذا النهج فإن السلطة الحالية قد تفقد بذلك حاضنتها الشعبية التي هي جوهر قوتها.. وبعد أن تفقدها، ويجد الشعب أن القيادة الحالية لا تختلف شيئاً عن الأنظمة العربية سترفع يدها ودعمها عنها.. فدعم الشعوب العربية الإسلامية مُفترض أنه من أجل الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أجل الدار الآخرة، وعندما تتساوى الرؤوس فإن الشعوب قد تنفض عنهم.. وستجد السلطة نفسها وحيدة وضعيفة، ثم تأتي الإملاءات الغربية مرة ثانية وثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية؛ حتى ينتهي هذا المشهد إلى سلطة علمانية قلباً وقالباً، وتحييد جميع مراكز القوى الإسلامية لصالح القوى العلمانية المستسلمة روحاً وفكراً وسلوكاً للغرب، وهذا شرط رضاهم.
وقد رأينا ماكينة التبرير السياسية والفقهية تعمل بجد لتسويغ وتمرير أي باطل ولن يعدم المحترفون إيجاد عذر أو تأويل!
وقد يظن البعض أن المهارة والمسارعة في تقديم التنازلات للقوى الغربية والنظام الدولي يُمثل حنكة سياسية يجب على الإسلاميين تعلمها والاستفادة منها، والتخلص من عقدة اضطهاد الغرب لهم، ومن فرضية عداء الغرب للإسلام، والبحث عن المصالح المشتركة؛ هكذا تُنّظر "مراكز أبحاث" تزعم الإسلامية والانتساب للحركة الإسلامية!!
وما يغيب عن هذه "الأبحاث" أن الغرب ينظر إلى رصيدك من الثوابت والمثل العليا والقيم الإسلامية؛ فيُساوم عليها حتى ينفد رصيدك، ويخفف عنهم ويعطيهم الشرعية والمساعدات إلى حين، وعندما ينفد رصيدهم سيتخلص منهم، ويستبدلهم بأهل العلمانية الخالصة أو يتحولوا هم للعلمانية الخالصة.
ونسأل الله أن يُخيب ظننا هذا، وأن تنجو الثورة السورية من فخاخ الغرب ومكره وحربه، وأن يُلهم ـ سبحانه وتعالى ـ القيادة والشعب الرشد والصواب والخير والفلاح، وأن يوفقهم إلى إعلاء كلمة الله، وتحكيم شريعته. [انظر: درس "الذئبان الجائعان" من كتاب العقيدة السياسية]
***
وحسب الشروط الأمريكية في ضمان حرية الأقليات ـ وفق المحددات الأمريكية ـ والتخلي عن جميع المقاتلين الأجانب، فيجب أن ينتبه بعض إخواننا السلفيين الذين حاول بعضهم بسوريا ممارسة (الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) على طريقة الدولة السعودية في بدايتها، وبعضهم ـ فيما سمعنا ـ تعرض للاعتقال! وأحببت أن أنبه إخواني السلفيين هناك أن الأمر ليس على النحو الذي يتصورونه أو كانوا يتوقعونه! فيبدو لن يحصل تغييرات جوهرية في قضية الشريعة أو في شكل الدولة الحالي! وقد استمعت إلى مرجعية دينية مرضية لديهم، وهي تتحدث عن الشريعة بحالة من البرود والاستسلام والوهن والاستضعاف وتأطيرها داخل إطار قومي علماني! وليس أوضح من الإعلان الدستوري الأخير.
كما إنهم ينأون الآن عن "السلفية الجهادية" باعتبارها دخيلة على "السلفية السورية"! كما إنهم ـ فيما يبدو ـ لن يكون لهم أي دور مساند في قضية فلسطين باعتبار أنها لم تكن ضمن أهداف الثورة السورية! وإن ضرورات الدولة القومية (بصيغتها الفرنسية وحدود سايكس بيكو) تحبط أي اتجاه نحو مفهوم "الخطاب الأممي" لصالح "الخطاب القُطري" على حد تعبير المرجعية، والذي يُركز على التنمية المستدامة والازدهار.
وكذلك من يُسمونهم "الأجانب" ـ المقاتلين غير السوريين الذي جاءوا لنصرة الثورة السورية ـ أظن أن عليهم أن يبحثوا عن بديل في حال تم التخلي عنهم أو التبرؤ منهم أو التضييق عليهم!
فعلى إخواني الذين لديهم أراء أو ممارسات مخالفة لتصور الدولة الحالية أن يحذروا بشدة، فيبدو ـ وأرجو أن يكذب ظني ـ أن هناك عقوبات ـ سواء على مستوى الأراء والفكر أو على مستوى السلوكيات والممارسات ـ لمن يخالف رؤية الدولة في مسائل الحكم والشريعة والمنكرات... إلخ. ولا يُقارنوا أنفسهم بالأقليات؛ حيث تستقوي بالخارج، وحيث الدولة تخشى إغضابهم خشية مشروع التقسيم أو تشويه صورة الدولة الحالية.
وعليهم أن يتجنبوا الممارسات الفردية.. وأن ينتظروا لاتضاح الرؤية أكثر فأكثر، والرجوع إلى ذوي الأحلام والنهى والمكانة فيهم حتى لا يكون موقفهم شاذاً عن اختيار الدولة أو يتعرضوا للأذى من إخوانهم.. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحُسام المهندِ! وليعلموا أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأن من يتعامل مع الله يكسب كل شيء بإذنه سبحانه وتعالى.
***
وأما بخصوص "الإعلان الدستوري" السوري المعلن عنه في مارس 2025 فجاء فيه ما يلي:
في دستور بشار الأسد 2012
’’المادة الثالثة: 1- دين رئيس الجمهورية الإسلام. 2- الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع. 3- تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام. 4- الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.
المادة الثلاثة والثلاثون: 3- المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. 4- تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين.‘‘ [المصدر: بوابة الحكومة الإلكترونية السورية]
الإعلان الدستوري سوريا 2025
’’المادة الثالثة: 1- دين رئيس الجهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع. 2- حرية الاعتقاد مصونة، وتحترم الدولة جميع الأديان السماوية، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يخل ذلك بالنظام العام. 3- الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية وفقاً للقانون‘‘
المادة 10: ’’المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب".
المادة 12: ’’تُعد جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجهورية العربية السورية [أيام بشار] جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري‘‘ [المصدر: حساب رئاسة الجهورية العربية السورية على منصة X]
والحقيقة لا يبدو هناك فرقاً حقيقياً بين كل منهما، بل جاءت المادة الثالثة بنصها وحروفها ورقمها من دستور 2012! والعبرة دوماً بالأفعال لا الأقوال، والشريعة الإسلامية يجب أن تكون هي الحاكمة ولها السيادة والمرجعية العليا وهي المصدر الوحيد للتشريع، وليست مجرد مصدراً من مصادر التشريع، فهي في مصر ـ على سبيل المثال ـ المصدر الرئيسي للتشريع، ولا يتم التحاكم إليها، بل يتم التحاكم إلى القانون الوضعي عدا بعض أحكام الأسرة والمواريث. فهذه المادة تجعل الفقه الإسلامي مجرد مصدراً مادياً من المصادر التي إن شاء المشرع الوضعي أن يرجع إليها جنباً إلى جنب مع باقي المصادر المادية القانونية للمدونات الفقهية الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرها. كما لا يخفى ما في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ما يصادم الشريعة الإسلامية.
أتوقع أن نظام الحكم في سوريا الجديدة سيسير على خطى الرؤية والسياسة التركية والخليجية وضمن فضاءها ومحدداتها في كافة المجالات! وإنْ كان هذا الوضع أفضل بكثير جداً جداً مما سبق ـ بل لا مقارنة بينهما ـ لكنه ما يزال دون طموحنا الإسلامي الذي يهتدي بالسنة النبوية السياسية في الحكم، والذي يمضي في تحقيق الخلافة الراشدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنَّ هذه الحالة تضعنا أمام معضلة وتحديات تستوجب على الغيورين توضيح مفهوم الشريعة، وشكل تموضعه في نظام الدولة الإسلامي وتقنين هذه الشريعة في صورتها الدستورية والقانونية بشكل دقيق وتفصيلي، والخروج بالفقه الإسلامي من حالة الجمود إلى حالة الإحياء والتجديد والاجتهاد، بحيث يكون لدينا المسطرة الشرعية والمحددات الربانية لطبيعة وشكل الدولة التي نريد بصورة تلائم أدوات ومفاهيم العصر، والدعوة المستمرة لها والبيان التام لمنزلتها، وحشد القوى اللازمة لها؛ لتكون جاهزة للعمل والتطبيق، بعد الجهاد في سبيل الله.
***
وبذلك ـ فيما يبدو ـ انتهت الثورة السورية إلى صيغة اقتصادية تتمثل في: رفع العقوبات، وإعادة الإعمار، واقتصاد السوق الحر، وخصخصة القطاع العام، وجلب الشركات الأجنبية، والسلام إسرائيل، وتحقيق ما يسمى بالازدهار والتنمية. وتطمح ـ على حد تعبير القيادات السياسية ـ أن تكون مثل السعودية!
وبخصوص السعودية ورؤيتها:
فتحمل رؤية المملكة 2030 "رؤية تغريبية" تهدف إلى تطبيع التعري وعلمنة المجتمع، وفصله تدريجياً عن حالة التدين المحافظة إلى حالة مادية علمانية تحل محل الدين، وتشغله بما يسمى "الترفيه" متمثلاً في: الحفلات الماجنة، والاختلاط المحرم، والتعري القبيح، والمسابقات التافهة، والتسوق الفارغ... إلخ.
وأما الرؤية الاقتصادية، القائمة على تنويع اقتصاد المملكة بعيداً عن النفط، فالمملكة أكبر منتج للنفط في العالم، ولديها موارد هائلة من شعيرة العمرة والحج، ومن فرض منظومة من الضرائب واسعة، وعدد سكانها لا يتجاوز 20 مليون نسمة غير المقيمين، ومساحة هائلة.. فتملك من الموارد ما يكفي لحالة "السفه الشديد" في الإنفاق، وتبديد الأموال، وإضاعة الأموال على المشروعات الفاشلة، ولاعبي الكرة، وعاهرات الفن والترفيه، والجزية الأمريكية..
ولا يجرؤ أحد أن يسأل أو يستفسر ـ فضلاً عن أن يعترض ـ عن أي بنود في الإيرادات أو الإنفاق، فهم لا يُسألوا عما يفعلوا! وتذهب نسبة كبيرة من الميزانية إلى القطاع العسكري الذي تذهب عقوده كرشوة للشركات الأمريكية، ولا تملك المملكة رغم هذا الإنفاق أن تصمد في الدفاع عن نفسها لوحدها لمدة أسبوع واحد، فهي تحت الحماية الأمريكية، وتذهب أكثر من نصف أموال الشعب لأمريكا.
هذا ويقوم الاقتصاد على قاعدة رأسمالية ربوية بحتة، وتتربح البنوك من وراء الفوائد الربوية مئات المليارات دون أن تنتج شيئاً أو تفعل شيئاً سوى الإقراض! وتغرق الشركات وعموم الناس في دوامة الديون.
وإليكم بعض الأرقام:
ـ إجمالي الدين العام حتى الربع الرابع 2024م، 1 تريليون 215 مليار ريال، بما يمثل 29.7% من الناتج المحلي. [المركز الوطني لإدارة الدين السعودي].
ـ بلغت الإيرادات النفطية 760 مليار ريال في عام 2024، وبلغت الإيرادات غير النفطية 472 مليار ريال (منها 366 مليار ريال ضرائب) [وزارة المالية السعودية].
ـ بلغت قروض البنوك للقطاع الخاص 2842 مليار ريال بنهاية نوفمبر 2024 [أرقام السعودية، ساما].
ـ بلغ إجمالي القروض العقارية الممنوحة للأفراد بنهاية الربع الثالث 2024، 656.9 مليار ريال. [أرقام السعودية، ساما] هذا غير القروض الاستهلاكية وقروض بطاقات الائتمان. فأغلب الشعب مكبل بالديون، رغم الموارد الهائلة والخيرات المتنوعة!!
فهذه الرؤية ـ من الناحية الاقتصادية ـ غير صالحة للتطبيق في دولة أخرى، لانعدام مثل مواردها من جانب، ولفشلها من جانب آخر، ولأنها مخالفة للشريعة الإسلامية من جانب ثالث. ولا ننكر أن المملكة حققت بعض النجاحات مثل التحول الرقمي، لكن الاستفادة من تجربة شيء، وتبني رؤية شاملة شيء آخر.
فإن كنت جاهلاً بهذه الحقائق، فلا تَقفُ ما ليس لك به علم.. وإن كانت مرائياً متزلفاً، فمن أرضى الناس في سخط الله.. سخط الله عليه، وأسخط الناس عليه.
***
وعلى قدر ضخ الأموال، ومحاربة الفساد، وإنعاش الاقتصاد، ورضى إسرائيل ـ التي قد تنقلب في أي لحظة ولن ترضى إلا بالجنوب السوري منزوع السلاح وضمن سيطرتها ونفوذها.. ثم دمشق بعد ذلك! سواء بالهيمنة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية ـ والدخول في اتفاقية أبراهام كما طلبت أمريكا من القيادة السورية الحالية ـ وقد صرّح الرئيس الأمريكي اليوم بأن "الرئيس السوري سيعترف بإسرائيل عندما يستتب الأمن في بلاده "[عربي21] ـ ستتحقق فعلاً التنمية لفئات معينة، وتتحسن الأحوال المعيشية ويعود اللاجئين، وسيكون هذا هو شغل الناس الشاغل، ولا شيء غيره، ولا مشروع غيره، وستُطفئ أي مشروعات أو أهداف أخرى. وسيحاول العدو إحباط أي محاولات لتراكم القوى بأنواعها.. ليقوض السيادة، وليفرض الهيمنة.. ومن ثم تقليص الحالة الإسلامية تدريجياً ليمنع أن يَعلو الإسلام ويعز المسلمين.
وهذه الأمور إنْ صحت، ومضوا فيها.. فهي إذن "سياسة براجماتية ميكافيلية" وليست "سياسة إسلامية"! ـ انظر درسي: "البراجماتية والمرونة، والمصلحة العليا" من كتاب العقيدة السياسية ـ وإني أرى السياسة الإسلامية تتمثل وتتلخص في قوله تعالى:
ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]
ـ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56]
ـ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173: 175]
ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51-52]
ـ {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 8-10]
ـ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]
ـ {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]
ـ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]
ـ {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139-140]
ـ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 8-9]
ـ {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9]
ـ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]
ـ {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18-19]
ـ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]
ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 24-29]
ـ {وَلَا
تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139-140]
ـ {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146-148]
ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7-8]
ـ {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]
***
وبذلك تكون (أعظم) إنجازات ومميزات الثورة السورية: القضاء على النظام الطائفي المجرم اللعين؛ الذي أذاق السوريين صنوف وألوان العذاب، وتحرير الأسرى والأسيرات من المسالخ البشرية التي صنعتها العصابة المجرمة التي حوّلت الدولة إلى "عصابة مافيا"؛ فردّت الثورة ـ برحمة الله ـ كثيراً من كرامة السورين المهدرة؛ فكان فضل الله عليهم عظيماً.
وتكون (أكبر) إشكاليات الثورة السورية: هي قضية (الشريعة والهوية)؛ حيث لا نجد نموذجاً سياسياً ينبثق من الاحتكام إلى الشريعة والاجتماع عليها، بل نجد صورة مطابقة ـ في كثير من الأحيان ـ لبقية الدول العربية من حيث: شكل الحكم، والقضاء، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، وإنْ تباينت درجات الفساد ومستويات الشر هنا أو هناك، فإن جوهر الفلسفة السياسية واحد! لا سيما والقيادة السورية الحالية تُصرّح بطموحها إلى محاكاة التجربتين السعودية والإماراتية.
وهذه الإشكالية ستُضفي "شرعية إسلامية" على بقية الأنظمة العربية! فلو قلنا مثلاً: إنَّ النظام المصري نظام ساقط الشرعية وباطل الولاية من وجهة النظر الإسلامية.
فيمكن أن يقول قائل: وهل النظام السوري الحالي ساقط الشرعية ـ هو الآخر ـ من وجهة النظر الإسلامية؟!
إن قلنا: لا، فقد ناقضنا أنفسنا، وسيعود علينا السؤال بالتبع: وما هو جوهر الاختلاف بين كلا النظامين (بغض النظر عن شخوص الحكام)؟
وإن قلنا: نعم.. إن للنظام المصري شرعية وولاية إسلامية، فقد وقعنا في إشكالية؛ فبأي شرعية تكون مقاومة هذا النظام المصري المجرم!!
فجوهر النظام السياسي الحالي في الأنظمة العربية: هو الاستبداد والفساد السياسي بدرجات، والهوية القومية العلمانية المختلطة بالمكون الثقافي والشعائري الإسلامي، والنظام الاقتصادي الليبرالي القائم على الربا والاقتراض وسيطرة رؤوس الأموال الغربية، والنظام القضائي القائم على مدونات قانونية مختلطة بين القانون الوضعي، والفقه الإسلامي في أحكام (الأسرة والمواريث)، والنظام الدولي القائم على القبول بهيمنة القوى الغربية، وتسلط القوى الصهيونية على فلسطين.. وإقامة التحالفات والولاءات مع القوى الغربية على أساس قومي براجماتي لا إسلامي راشدي.
وإذا كانت "السلفية الجهادية" ـ وهي النموذج الإسلامي الأكثر تشدداً ـ انتهى بها الحال إلى هذا النموذج، فما هي الرؤية المستقبلية لإقامة نظام إسلامي يتمتع بالقوة والسيادة والاستقلالية وإعلاء كلمة الله والتحرر من الهيمنة الغربية؟!
ومن ثم يتقلص الطموح الإسلامي إلى مجرد القضاء على رؤوس المفسدين والمجرمين، دون وجود الرؤية والنموذج الواقعي الذي يتمثل فيه الحكم الإسلامي الرشيد، والخلافة على منهاج النبوة؛ وسنفقد رؤيتنا السياسية حول: من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف نحققه؟ طالما في النهاية جوهر الأنظمة السياسية ـ في النهاية ـ واحد! وقد تسري حالة من العجز والوهن والاستضعاف حول التمكين لدين الله في الأرض، وتصبح مجرد رؤى حالمة لا يمكن تحقيقها! أو غير قابلة للتحقيق متذرعين بأعذار شتى يتذرع بها مَن يشاء متى شاء.
وبخصوص الحالة الفكرية الإسلامية السورية: أظن أنها ستنتهي إلى مثل الحالة السعودية؛ الغالبية: تؤيد الوضع الحالي تأييدا مطلقاً؛ ولديها المهارة في تبرير وشرعنة أي وضع. وشريحة: سيزعجها الغلو في طاعة الحكام، وتحاول أن تكون أكثر اعتدالاً أو حياداً في بعض المواقف. وقلة من السلفية الجهادية: ستُكفر النظام الحالي باعتبار أنه لا يختلف شيئاً عن الأنظمة العربية الأخرى في شيء!
نقول ذلك لاستدراك ما يمكن استدراكه، والتمكين لدين الله قدر الوسع والطاقة، وعسى الله أن يُخيب ظني، ونجد ما يعز الإسلام والمسلمين برحمة الله وكرمه وتوفيقه وفضله.
***
والخلاصة:
ـ إنَّ الحديث عن "الشروط الأمريكية" والإملاءات الغربية، صحيح بنسبة 100%، وصادر عن جهات رسمية، ومؤسسات إخبارية عالمية. وإنَّ غرض أي مساعدات أو عقوبات هو فرض الهيمنة والسيادة، والتحكم في القرار السياسي، والتمكن الاجتماعي والثقافي، وفرض العلمانية الليبرالية. ويدور رفع العقوبات أو وضعها، وبذل المساعدات أو منعها حسب الرؤية السياسية للغرب، ومصالحه الخاصة، وتقلب وتبدل هذا المصالح.
ـ موقف الإدارة السورية ـ حتى الآن ـ هو موقف ضبابي، ولعله يتضح في قابل الأيام، ونسأل الله لهم الرشد والصواب والفلاح.
ـ إنَّ أي مسلم من حقه إنكار أي منكر، ولا يمكن أن يتصور العاقل إن الأمر: إما أن تكون تابعاً مؤيداً محباً تسير أعمى حتى النهاية، وإما أن تكون حاقداً خبيثاً كارهاً للخير متمنياً الشر.. فهذا ليس خلق المسلم الذي يحب الخير لإخوانه، ويرجو لهم ـ ولكل إنسان ـ الهداية والتوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة، وفي نفس الوقت لا يجد حرجاً في أن يُنكر المنكر، أو يحذر من خطر أو شر أو انحراف.
وأنصح بأن يكون هناك مجلساً للعلماء والحكماء
وأهل الدين والمروءة والأمانة والعلم ـ مزود بمركز أبحاث عال المستوى ـ
لينظر هذا المجلس في عظائم الأمور من وجهة النظر الشرعية والسياسية (بكل
حرية) ولا يكون عمله مجرد تبرير لتصرفات الحاكم والبحث له عن مسوغات لما
تقرر فعله! بحيث يضبط هذا المجلس البوصلة ويحافظ على مكتسبات المجاهدين،
ومكتسبات الثورة، ويمنع الانقلاب على مبادئ الحق ومعالم الرشد وقوة
الإسلام، ويحبط الانحرافات في مهدها، ويقوم بأمانة النصح، وفريضة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ويوجه القيادة نحو صراط الله المستقيم، وسنة
الراشدين العادلين.
***
[ملاحظة: كُتب هذه المقال على مراحل متعددة، تعليقاً على كل حدث حينها، وقد فضلت أن يُجمع في مقال واحد]
للمزيد.. انظر:
ـ تطبيق الشريعة.. وحالة العجز.
ـ أوجه الفشل في التجربة التركية.
ـ كتاب: العقيدة السياسية في التصور الإسلامي.