قائمة المدونة محتويات المدونة

28‏/02‏/2018

حرية الإنسان، وحرية الحق


خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان "حر الإرادة" "حر الفعل" وإن كان تحت المشيئة الكلية الإلهية وبذلك صار الإنسان وحده )دون باقي المخلوقات، ولعل الجن لهم إرادة أيضاً( هو المخلوق المتفرّد بهذه الحرية، وهذه هي "الأمانة" التي حملها الإنسان أي: أمانة الحرية والاختيار.. وعلى أساسها يتم "الحساب والجزاء" و"الثواب والعقاب".

وطبقاً لهذه الحرية، كان هناك إرادة الخير، وإرادة الشر.. وكان هناك نجدين ( سبيلين ) سبيل للحق، وسبيل للباطل، وكان هناك اعتقادين: الإيمان، والكفر.. وللإنسان كامل الحرية، والقدرة، والمشيئة أن يأتي الخير أو الشر، أو يسلك طريق الحق، أو أن يمضي في طريق الباطل، أو إن شاء آمن، أو إن شاء كفر..
الحرية الإنسانية في كل فعل.. لأنه سيُسأل عنها يوم القيامة؟ ولا يمكن أن يُسأل عنها إلا عند "حريته" وقدرته على الاختيار، وإلا لو كان مجبراً على فعل الخير لما كان لثوابه معنى، ولو كان مجبراً على فعل الشر لما كان لعقابه معنى؛ ولذا فهل يملك حرية الإرادة، وحرية الفعل..
بل جاء الإسلام، وشُرع الجهاد ليحرر الإرادة الإنسانية ذاتها، مما يمارسه الطغاة ومدعي الربوبية من البشر على الخلق، فيحرره من هذه الأغلال المادية، وكذلك يُحرره من الأثقال المعنوية التي يستجيب فيها الإنسان لغيره من البشر ويخضع لهم، فيُصدق دجلهم، ويتبع ضلالاتهم.
هذه هي حرية الإنسان.. ولكن عندما يستجيب الإنسان، ويختار دواعي الشر، وطريق الباطل، لا ينتهي عند ذلك فحسب.. بل إنه يريد ثلاثة أمور:
الأول: نشر الفكر الإلحادي العلماني للحرية.. الذي محوره الإنسان وليس الله، والمتعة وليس التقوى، والهوى وليس العبادة. وهذا الفكر لا يقصد "الحرية الذاتية" إنما يقصد "الاجتماع السياسي العولمي" لنشر الإلحاد والإباحية والإفساد الأخلاقي.
والثاني: إنشاء مجتمع الباطل والشر، وجعله هو النموذج والمثال، وأساس القيم والتصورات.
 والثالث: محاربة مجتمع الحق والإيمان.. وإعلانه البدء بهذه الحرب، والتوحش في العدوان.. فلا يطيق الباطل أن يرى الحق موجوداً فضلاً عن أن يكون منتصراً.
وهنا.. يعمل الحق على ثلاثة محاور: (1) دعوة الإنسان. (2) استقامة المجتمع. (3) حرية إقامة الحق والعدل.
فمحور (دعوة الإنسان):
هو محور ذاتي.. والإنسان فيه حر الاختيار والإرادة، فالحق يدعو الإنسان للاستقامة، ويُزين ويحبب له طريق الخير، كما يفعل الباطل وهو يُزين القبيح! والإنسان حر في أن يختار الحق، أو يتركه، فحسابه على الله في الآخرة، وسيُحاسب وحده على ما قدّمت يداه. والدنيا في النهاية ليست (دار عدل) بل (دار امتحان وعمل).
وأما (استقامة المجتمع):
فهو محور عام.. ومقدس كذلك، لا يترك الحق فيه مجالاً للإنسان أن يشيع فيه الباطل والفواحش، فمحاولة نشر الباطل والفواحش هو "عدوان" على حرية الإنسان في التماس طريق الخير.
ولا يخلط بين الحرية الذاتية الفردية الخاصة للإنسان، وبين حرية المجتمع وضرورة استقامته؛ لأنه محضن الإنسان والأسرة عموماً، ويجب أن يبقى مطهراً نقياً على أحسن مظهر، وأجمل صورة..
ولكن أهل الباطل يريدون لهذا المجتمع أن يكون على الباطل، بحجة (الحرية) فتراهم يرون في العري، والشذوذ، والإلحاد، والكفر، والذندقة.. (حرية)! وهي بالفعل حرية، ولكنها حرية ذاتية فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. فليس هناك لأحد من البشر سلطان على القلوب والضمائر، ولكنهم لا يريدون ذلك فحسب إنهم يريدون أن ينقلوا هذا الباطل إلى "الفضاء العام الاجتماعي"؛ ليكون له "السيادة والقيادة والسياسة" وهنا تكون الكارثة، والخلط، والتدليس.. ولأهل العلمانية صولات وجولات وطنطنة كثيرة حول هذه "الحرية"، وقد يعطون "جرعات صغيرة" منها لمن يزعجهم الحديث الواضح المباشر، وقد يغالون ويعطون "الجرعة كاملة" فينصدم البعض، ويستجيب الآخر! بل وترى بعض من يزعم الدعوة إلى الإسلام يُصدق دعوات "المساواة والحرية وحقوق الإنسان" ويتأثر بالجرعات الصغيرة المتتالية من العلمانية، حتى نجده في نهاية المطاف "داعية إسلامي إلى العلمانية لا إلى الإسلام!" ودعوات المساواة والحرية إنما هي الغطاء الجميل الناعم الذي يغطي وجه "أيديولوجيا الباطل" القبيح.
وأما (حرية إقامة الحق والعدل):
فالحق له أصالة في ذاته، أصالة فطرية فطر الله الناس عليها، وأصالة عقلية تنهض بها العقول الراشدة، وقبل هذا وذاك رسالة الوحي إلى رسل الله.. فهذا الحق الأصيل شرعاً ربانياً، وفطرة سوية، وعقلاً راشداً.. له كامل (الحرية) في دعوة الإنسان، واستقامة المجتمع، ومقاومة الباطل..
وليس هو القول الشائع: (إن حريتك تنتهي عند حرية الآخرين) فماذا لو كانت حرية الآخرين هي (الشر والباطل)؟ والقول الصحيح فيما أرى هو: (إن حريتك الذاتية تنتهي عند حرية إقامة الحق الرباني، وعند حرية المجتمع الطاهر النظيف)..
فمثلاً: كان ـ قبل سنوات لا تُمثل في عمر البشرية شيئاً ـ العري فعلاً قبيحاً مستهجناً من الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم.. ثم تحول إلى (نمط حياة) وصورة اجتماعية من يرفضها فهو من المتخلّفين الرجعيين المتطرفين..
وكان الشذوذ الجنسي في قلب أوروبا محرماً وجريمة يعاقب عليها القانون، ثم بعد ذلك صار شرعاً! ولا نقصد الحالات المرضية سواء أكانت نفسية أو جسدية إنما نعني أولئك الذين يريدون أن يجعلوا من الشذوذ أحد أشكال الأسرة، ويستعلنون الزواج، وتبني الأبناء، ونشر ذلك في المناهج التعليمية للأطفال والكبار على أنه صورة طبيعية ومقبولة! ومن يرفضها فهو ينشر ثقافة "الكراهية"، فصار "حب" الباطل واجباً!
وليس ذلك فحسب.. بل من يرفض هذا الشذوذ أصبح مريضاً يجب علاجه، وسموا ذلك "رهاب المثلية"! فأصبح النافر فطرة وعقلاً من الشذوذ مريضاً يجب علاجه، ولا عجب أن نجده غداً قد أصبح مجرماً يجب عقابه!
بل أصبح هذا الشذوذ أيديولوجيا خطيرة تُضم إلى البرامج السياسية للمرشحين الانتخابيين، وتُدرس في المدارس للأطفال، والدعايا الإعلانية، والبرامج الفنية والثقافية، والتشريعات القانونية، من أجل عولمة الشذوذ، وإنشاء مجتمع الشذوذ، فهو ليس مجرد فاحشة، أو شهوة يقترفها البعض.. بل هو محاولة بناء نظام اجتماعي، وحراك سياسي، ينمو ويتكون وينشر نفسه في كل مكان تحت زعم الحرية!
وليس ذلك فحسب، بل إنهم يجعلون من "أيديولوجيا التعري أو أيديولوجيا الشذوذ" ليس مجرد حرية ممارسة الفعل، أو حتى حرية تنميطه اجتماعياً، أو عولمته ثقافياً.. بل إنهم يريدون أن يجعلوا من ذلك هو "جوهر" الحرية ومضمونها وتعريفها..  فيجعلون من التعري أو الشذوذ - مثلاً - هو هوية الحرية، والتقدم، والثقافة!!
وهناك من يحاول محاولة خبيثة ضمن استراتيجية "الجرعة الصغيرة" من الباطل.. وهي - بعد الخلط بين الحرية الذاتية، وحرية المجتمع في التطهر والنظافة طرح المسألة للرأي العام.. مثلاً: ما رأيك في الشذوذ؟ ما رأيك في التعري؟ وبالطبع يختلف الناس، هناك فريق مؤيد، وفريق معارض، ولكل رأي وجاهته.. ثم ينتقل إلى مرحلة تالية "مرحلة الأغلبية" التي تريد الباطل، ثم إلى مرحلة ثالثة وهي عزل ومحاربة الأقلية التي على الحق، ثم يأتي أصحاب الفكر الحر المستنير زعموا ليدافعوا عن بعض حقوق الأقلية التي على الحق، فيظهر أن أهل الباطل أصحاب فكر متحرر متسامح! مثلما حصل في فرنسا عندما حظرت لباس "البوركيني" على الشواطئ، مطالبة بالعري الصريح، ورفض أي مظهر من مظاهر الاحتشام! وفرضت على من تلبسه غرامات مالية، وملاحقات من الشرطة!
ولقد تَوعد القرآن الكريم الذين (يحبون) أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فما بالنا بمن يريد ويقرر ويدعو وينشر ويدافع ويسن التشريعات؛ ليجعل من الفاحشة نمط حياة، ومحور اجتماع، ونظام سياسة؟!
وهنا تأتي حرية إقامة الحق؛ لمحاربة محاولة انتقال الباطل للفضاء الاجتماعي لإضلال الإنسان كل الإنسان.. فالفرق كبير بين من يأتي الشذوذ مثلاً وهو متخفٍ، ساتر لنفسه، وبين من يريد أن يجعل منه نظاماً اجتماعياً، ونمط حياة يجب فرضه على كل الناس.. هناك فرق بين من تتعرى في محيط مغلق، وبين من يريد أن يجعل التعري والإباحية نمط حياة، ونظام اجتماعي.. هنا يحارب الحق هؤلاء جميعاً حرباً لا هوادة فيها، ولا غبش عنها، ولا تردد..
فللحق الحرية الكاملة في الحفاظ على الفطرة السوية النظيفة، وللحق مواجهة كل هؤلاء الذين يحاولون أن يدعوا الباطل ليكون محور اجتماع ونمط حياة، وللحق أن يواجههم بكل وسيلة مكافئة، وناجعة، فيُفرق بين الحرية الذاتية في اختيار الإنسان ما يشاء، وأن يفعل ما يشاء.. وبين حرية المجتمع في أن يكون مستقيماً ظاهراً على الحق، وحرية الحق ذاته في مواجهة ومعاداة كل باطل، وحرية دعوة الإنسان للاستماع لرسالة الحق، وممارسته، وإظهاره.
ومن ثم يجب التربية الصحيحة على "الاستعلاء" بالإيمان والحق وليس الاستعلاء بالذات أو الحزب أو الجماعة أو القومية أو الجنس أو اللغة ومعرفة سبل المجرمين في الإضلال، والوقوف في وجه الباطل بكل حرية، وقوة.. وتحصين المجتمع من دعوات الباطل، ومقاومته بكل وسيلة، بلا ركون إلى الظالمين، أو الاستسلام للمبطلين.
***