قائمة المدونة محتويات المدونة

27‏/07‏/2021

سيد قطب.. خطوط عريضة

هذه خطوط عريضة نتحدث فيها عن مفكر إسلامي من أهم مفكري القرن العشرين، اعتبرته وكالة الاستخبارات الأمريكية أخطر شخصية على الغرب خلال القرن الماضي، نُبين فيها بعض ملامح رحلته باختصار، وشهادة بعض من عاصروه، وشهادة حول الواقع الذي كان قطب ـ رحمه الله ـ يسعى إلى تغييره.

ـ سيد قطب (رحمه الله) درس في كلية دار العلوم.. دراسة شرعية شبيهة بمناهج الأزهر الحالية، ودرس فيها علوم التفسير، وكان من أبرز شيوخه الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله) وهو مفخرة من مفاخر الأزهر في عصره، وكان قطب مرشحاً لوزارة الثقافة من قِبل نظام يوليو! ولكنه رفض. وقرأ في مختلف المجالات ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً، وعاش حياته كلها في محراب العلم.

ـ سيد قطب بدأ حياته أديباً وشاعراً، وهذه ميزة جعلته يكتب في الموضوعات الإسلامية بصورة جذابة جديدة عصرية، فتحت عيون الشباب على عظمة الإسلام بأسلوب التحدي للحضارة الغربية العلمانية، والاستعلاء بالإسلام على كل المناهج الأرضية.

ـ سيد قطب حفظ القرآن وأتم حفظه وهو مازال صغيراً، وله اتجاه إسلامي أصيل في تكوينه ـ قبل سفره لأمريكا، وقبل التحاقه بجامعة الإخوان المسلمين ـ فهو إنسان مسلم محب لدينه ومفكر مجتهد، وكتب كتابه "التصوير الفني في القرآن" ليكون صورة مبدعة في رؤية القرآن وتذوق آياته ومعانيه، وكان فريداً في بابه، وكذلك كتاب "العدالة الاجتماعية" كان فريداً في بابه، لدرجة احتفال ضباط ثورة يوليو به! وهذين الكتابين لا يعجبان "التوجه السلفي" لأسباب أيديولوجية خاصة بهم، والحق مع قطب بإذن الله.

ـ سيد قطب التحق بجماعة الإخوان لما أُعجب بمنهج البنا ـ رحمه الله ـ وهو الذي اختار الانضمام إليهم، ووجدهم أفضل من يعمل في خدمة الإسلام، وكان المسؤول الثقافي لجماعة الإخوان، وله العديد من الإسهامات الفكرية التي تصدت للفكر العلماني، وضربته في مقتل.

ـ جماعة الإخوان المسلمين لم تتبنَ فكر قطب (رحمه الله) بشكل عملي، وإنْ رحبت بانتساب عالِم كبير مثله لها، كما إنها لاحقاً لم تتبنَ فكر المؤسس نفسه البنا (رحمه الله) من الناحية العملية أيضاً، وحصل نوع من تموضع الجماعة داخل النظام السياسي القائم، مما أفقدها الكثير من زخمها، وجعلها أسيرة للهامش المسموح به! والمأذون به تحت رقابة مشددة، وفقدت الكثير من مناعتها الذاتية، وإنْ حاولت منع الكثير من الشرور، إلا أنها عجزت ـ حتى الآن ـ عن تحقيق مشروعها الكبير.

ـ سيد قطب درس الفقه الإسلامي دراسة جيدة جداً، ومن يقرأ كتابه في التفسير "في ظلال القرآن" يلحظ ذلك جيداً، ويلحظ اجتهاداً راقياً ـ وقراءة عميقة فيه ـ وتحقيقاً دقيقاً، وكان يميل فيه إلى بعض اختيارات الحنفية خاصة كتاب "أحكام القرآن" للإمام الجصاص رحمه الله، وكذلك تفسير المنار، ومن الكتب التي استفاد منها في السيرة كتاب "زاد المعاد" لابن القيم رحمه الله، ولكن سيد قطب لم يكن هذا موضوعه (الفقه، والفقه المقارن) إلا بقدر مساحة الظلال، لأنه كان يريد من تفسيره هذا إنزال القرآن إلى معترك الحياة والنفس الإنسانية، ولذا أحدث نقلة نوعية هائلة في مجال التفسير، الذي يقول عنه البعض (جهلاً) إنه عمل أدبي [لا قيمة شرعية أو فقهية له]! أو يقول عنه (جرماً) معتمداً إزهاد الناس فيه وصدهم عنه! هذه النقلة التي عمدت إلى النظر إلى سور القرآن الكريمة كشخصية لكل سورة، وموضوع لكل مجموعة من الآيات يتم استقاء الدروس والعبر منها، وربطها بواقعنا وحياتنا المعاصرة، وأحدث نقلة شعورية إيمانية في التفسير يلحظها كل من قرأ الظلال.

وقال عنه الشيخ محمد الشعراوي رحمه الله (وهو من علماء الأزهر والمتخصص في تفسير القرآن): ’’رَحِمَ اللهُ صَاحِبَ الظِلالِ الوَارِفْة الشَيخْ (سَيدْ قُطبْ).. فَقَدِ اسْتَطاعَ أَن يَستَخلِص مِنْ هَذِه الغَزوَة [غَزوةِ أُحُدْ] مَبادِئ إِيمَانِية عَقَدِية، لَوْ أَن المُسلِمِينَ ـ فيِ جَمِيع بِقَاعِ الأَرضِ ـ جَعَلُوهَا  نُصْبَ أَعْيُنِهم؛ لمَا كَانَ  لأيِ دَولةٍ مِنْ دُوَلِ الكُفْرِ غَلبُة عَليِنَا’’.

ـ سيد قطب مثل غيره من العلماء؛ يُخطئ ويُصيب، ولا نتخذ من الأخطاء وسيلة للطعن في العلماء أو النَيل من مكانتهم، وما مِن عالِم إلا وله أخطاء ـ وهذه طبيعة بشرية ـ نتعامل معها باحترام مكانة العالِم، وتجنب خطئه. ولا نُزكي على الله أحدا.

ـ كان مشروع قطب رحمه الله هو مواجهة الفكر الاستشراقي الصليبي والفكر المادي الإلحادي، وتقديم البديل الصحيح من الفكر الإسلامي فكان من أهم مفكري القرن العشرين،  والغرب وأعوانه يكرهونه بشدة لأنه ينقض خطتهم في عزل الإسلام عن مجال الحياة والفكر. ويكشف الوجه الحقيقي للغرب ولذا كتب: "المستقبل لهذا الدين" و"معركة الإسلام والرأسمالية" و"معركتنا مع اليهود" و"نحو مجتمع إسلامي" و"خصائص ومقومات التصور الإسلامي" و"هذا الدين"؛ فعمل على إعادة الاعتبار للشخصية الإسلامية المستقلة في الهوية والفكر والحضارة وعدم ربطها بالغرب الاستعماري الصليبي أو الشرق المادي الملحد، وخط لها من كتاب الله طريق إسلامي قويم أصيل واقعي مثالي رباني شامل متوازن إيجابي.

ـ سيد قطب لم يُكفر المجتمعات المسلمة، وهذا نقل مشوه عنه ـ كما قال ـ ولكنه عاش يدعو إلى تحكيم شريعة الله، ومات من أجل هذه الدعوة، عاش سيد قطب يتحدث عن: العدالة الاجتماعية في الإسلام، والسلام العالمي والإسلام، والمستقبل لهذا الدين، وخصائص ومقومات التصور الإسلامي، فأحدث ثورة كبيرة في الفكر الإسلامي، وعلى أمل ـ إن شاء الله ـ أن تحدث الثورة الواقعية في حياتنا وأن تتحرر الأمة من الطغاة والبغاة والمنافقين، وأن يُقيد الله لهذه الأمة القيادة الراشدة التي تقود مسيرتها نحو النصر والتمكين، وإعلاء كلمة الله، وإقامة الحق والعدل إن شاء الله.

***

 وهذه شهادة د. محمد البهي [رئيس جامعة الأزهر، ووزير الأوقاف الفترة (1964 : 1969). في كتابه "حياتي في رحاب الأزهر".. عن كتاب "معالم في الطريق" للأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ عندما سأله عنه المشير عبد الحكيم عامر، فقال البهي: "[إن] كتاب معالم في الطريق كنت أتمنى: أنا الذي كتبته: هاج [المشير] ووقف من جلوس. وقال: كيف تقول ذلك والصحافة كلها نددت به؟. قلت له: إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى. وما تقوله الصحافة عنه: شيء سياسي لا دخل له إطلاقاً في تقييمه". [كتاب في رحاب الأزهر لمحمد البهي (ص 133)]

جدير بالذكر أن الدكتور محمد البهي كان ثاني وزير للأوقاف ، وشغل أيضا منصب رئيس جامعة الأزهر، وواحد من أساتذة شيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب حسبما صرح الدكتور الطيب..

ويقول شيخ الأزهر الحالي د. أحمد الطيب: "أول نظام الأزهر تضعضع فيه هو "نظام عبد الناصر"، والمد الاشتراكي، فماذا تتوقع من نظام ارتمى في أحضان "الاتحاد السوفيتي" ـ في ذلك الوقت ـ وكانت الكتب الاشتراكية تُباع هنا، ونظرية ماركس ـ والدين أفيون الشعوب ـ بشلن، [كتاب من القاطع الكبير بسعر زهيد لترويج الاشتراكية] ونقرأ النظريات... إلخ، ماذا تتوقع من نظام مرتمي في حضن "منكر للدين" إلا إن هذا الأزهر لا بد من تحجيمه". ا.هـ

هذا الذي كان يجاهد سيد قطب من أجل دفعه، ومقارعة الباطل، وأُعدم في سبيل ذلك من هذا النظام المجرم.

وهذا ما فهمته الفاضلة زينب الغزالي ـ رحمها الله ـ من كتاب معالم في الطريق، عندما سُئلت عنه أثناء التحقيق معها في "قضية 65"..

فقالت: "كتاب معالم في الطريق في فهم المجتهد المفسر سيد قطب يدعو المسلمين لمراجعة أنفسهم مع كتاب الله، وسنة رسول الله، وتصحيح تصورهم لعقيدة التوحيد . فإذا وجدوا أنفسهم ـ وهذا هو الواقع الآن ـ منقطعين عن كتاب الله، وسنة رسوله سارعوا بالتوبة . وعادوا إلى دينهم وكتابهم، وسنة رسولهم !. ثم يدعوهم للمفاصلة بينهم وبين الجاهلية المتفشية في الأمة، فطمست وضوح الرؤية في فهم القرآن. وتصور أوامره تصورا سليما. فإذا راجعت الأمة الكتاب ومراميه، ومقاصده، والتزمت بدينها صحت عقيدتها. فالسيد قطب يرى ضرورة تبصير الأمة بمراجعة عقيدتها لتقرر صدقا من قلبها وضميرها، أنها ملتزمة بكل ما تكلفها به شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . ." [أيام من حياتي، زينب الغزالي رحمها الله]

***

وهذه شهادة محكمة قضايا التعذيب (في فترة حكم السادات) على الحقبة الناصرية (1952: 1970م) التي تتجدد اليوم بكل قبحها، وجرائمها، وطغيانها، وفجورها، وقسوتها، وخيانتها. شهدتها لصالح الضحايا والمعُذبين، ولصالح النظام الجديد الذي كان يريد التخلص من الحكم الشيوعي الاشتراكي في تلك الفترة.

"تسجل المحكمة وللتاريخ أن هذه الفترة التي جرت فيها أحداث هذه القضية [قضية كمشيش، محافظة المنوفية] هي أسوأ فترة مرت بها مصر طيلة تاريخها القديم والحديث؛ فهي فترة ذبحت فيها الحريات، وديست فيها كرامة الإنسان المصري، ووطئت أجساد الناس فيها بالنعال، وأمر الناس فيها بالتسمي بأسماء النساء، ووضعت ألجمة الخيل في فم رب العائلة وكبير الأسرة، ولطمت الوجوه والرؤوس بالأيدي.. كما ركلت بالأقدام، وهدد رب العائلة وأخوته ـ وهو أبشع ما وقع في هذه القضية من تعذيب في نظر المحكمة من إخراج جثة والدتهم من مدفنها ـ وكانت حديثة الدفن، للتمثيل بها أمام الناس والتشهير بهم وإذلالهم أمام أهلهم وذويهم وأمام الحاقدين والخصوم، وأن المحكمة لتسجل بأن المخلوق الذي ينسى ربه ونبيه ويأمر الابن أن يصفع وجه أبيه أمام الناس لهو مخلوق وضيع وتافه ومهين، وأن المحكمة وهي تسجل هذه الفظائع ينتابها الأسى العميق والألم الشديد من كثرة ما أصاب الإنسان المصري في هذه الحقبة من الزمان، وإهدار الحرية وذبح الإنسانية، وقتل لكافة مقومات حريته ورجولته وأمنه وأمانه وماله وعرضه، وإن كانت المحكمة لتسجل أيضاً للتاريخ وقلبها يفطر دماً أن ما حدث في هذه القضية لم يحدث مثله حتى في شريعة الغاب ولا البربرية الأولى." [من كتاب: شمس بدران، د. حمادي حسني ص: 119، 121]

هذه هي شهادة المحكمة لتاريخ مصر في تلك الفترة، التي كان فيها سيد قطب ورفاقه يحاولون الدعوة إلى الله، والإصلاح، ومنع الفساد في الأرض.

***