عرضت قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أغناهم مالاً،
وأعلاهم سلطة وملكاً ومنزلة! مقابل أن يترك دعوته - الغريبة على مسامعهم - لهذا
الدين الجديد.. فتعجبوا أن جعل الألهة.. إلهاً واحداً !!
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في "فترة الاستضعاف"
بمكة وحيداً إلا من معية الله ورحمته: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني،
والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته"! [السيرة النبوية/ابن هشام]
لماذا لم يفكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطريقة التي يفكر
بها القوم الآن ؟
لماذا لم يقل.. أجمع منهم المال، ثم أكون جيشاً كبيراً من الفقراء
والمهمشين، وانقلب عليهم ؟!
لماذا لم يقبل أن يكون أعلاهم سلطة ومنزلة، وبعدها يدعو الناس إلى
التوحيد.. بعد أن يصبح له شوكة وأتباع ؟!
الإجابة ببساطة: لأن الله أراد لهذا الدين من أول لحظة أن تكون
هكذا "دعوته" خالية من أي "فكر برجماتي" كالذي يفكر به من
يدعي نصرة الإسلام بينما هو يهدمه.. من حيث لا يشعر !!
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبيلة قريش، وهي من أشرف
قبائل العرب.. وهو - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم وهي من أشرف قبائل قريش..
وكان في قومه - قبل البعثة - الملقب بالصادق الأمين..
وإن دعوته بالإسلام - الدين الجديد - تعني رفعة قدر العرب وتشريفهم،
واختيار الله لهم.. فلماذا كفروا به، وحاربوه ؟!!
لأن هذا الدين منذ اللحظة الأولى:
- جعل الحكم لله.. وليس لشرفاء العرب.
- ساوى بينهم وبين العبيد.. ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
- جعل الاجتماع على الإسلام.. لا على أساس القوم أو العشيرة أو القبيلة
أو اللغة...إلخ.
- جعل الولاء والبراء.. على أساس الإيمان والكفر.
وذلك ما فهمه العرب من أول وهلة من معنى ومدلول شهادة "لا إله
إلا الله"، ولقد كَبر عليهم أن يكونوا مثل غيرهم.. أو أن يخرجوا من سلطانهم
المادي ومكانتهم وامتيازاتهم..
كانت تعني شهادة التوحيد: أن بلال الحبشي "المؤمن"..
أفضل من عمرو القرشي "الكافر" الملقب بـ "أبي جهل"..
كانت تعني شهادة التوحيد: أنه لا شرع إلا شرع الله.. والجميع أمامه
سواء ! فلا اعتبار لنسب ولا لشرف ولا لقبيلة ولا لسادة.
كانت تعني شهادة التوحيد: زوال الباطل والشرك، والمصالح المادية
والمعنوية القائمة عليه، والطبقة المترفة التي تتنعم من وراء هذا الباطل والشرك..
والتي يعني إسلامها خروجها من هذا كله..
كانت تعني شهادة التوحيد: استئصال نظم وحكم القبيلة، وتصوراتها،
وقيمها، وموازينها.. ورد ذلك كله إلى الله وحده لا شريك له..
كانت تعني شهادة التوحيد: قيام نظام جديد كلياً مفاصلاً لنظم
الجاهلية كلها.. الاجتماع فيه على الإسلام، والانتساب فيه للشرع.. والولاء والبراء
فيه على أساس الإيمان والكفر، فرابطة الدين فوق رابطة الدم والنسب ووشائج القربى،
والجميع أمام حكم الله سواء !
كانت تعني شهادة التوحيد: العبودية الخالصة التامة لله وحده لا
شريك له.. في الاعتقاد والتصور، والعبادة والنسك والحكم والتشريع ونظم الحياة.
ولما كانت هذه هي "شهادة التوحيد".. فلا يمكن أن يدخل
عليها أي لوثة "برجماتية" فهي دعوة لا تجمع الناس فيها على شيء إلا
"التوحيد"..
فلا يمكنها أن تجمعهم على شيء غير التوحيد - أياً كان - ثم
"تتسلل" إليهم بدعوة التوحيد !!
أو تسترضي قوماً وتخاطبهم بمصالحهم وحاجاتهم ثم "تدفع"
إليهم بدعوة التوحيد !!
أو تخاطب مشكلات حياتية لقوم، وتعدهم برغد العيش ثم تقول لهم.. هذه
بركة دعوة التوحيد؛ فادخلوا فيه !!
أو تُخوفهم بتهديدات ومخاطر تستهدفهم، فتجمعهم على
"مواجهة" الخطر الداهم.. ثم تقول لهم - بعد انتهاء الخطر - هذا النصر
جاء بالتوحيد.. فعليكم به !!
كــلا.. لم يكن هذا هو الطريق، ولن يكون.. إن دعوة التوحيد تدعو
إلى "الاجتماع" عليها هي من أجل الله، باسم الله، ابتغاء مرضاة الله..
على شرع الله.. لا شريك له سبحانه !
وهي دعوة تنبذ إلى قومها على سواء.. فتُبيّن لهم ما هم فيه من باطل
وظلم، وما ينتظرهم من عذاب الله.. إذا ظلوا على ذلك..
* * *
ومن أراد نصرة دين الله فعليه
بالدعوة الربانية.. أو كما قال صلى الله
عليه وسلم: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك
هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته" وهو يراعي - في ذات الوقت - أحوال الأمة المسلمة، وما أصابها من فتن واستبداد وظلم، فيسلك بها سبيل الرشاد بلا إفراط ولا تفريط، ويضع "مصلحة الدعوة" - لا مصلحته الذاتية أو الحزبية - أمام كل اعتبار، وقول الحق، والشهادة لله فوق كل قيمة؛ فمصلحة الدعوة هي القيام لله بالحق، والشهادة بالقسط، والقول بالعدل.
* * *