قائمة المدونة محتويات المدونة

20‏/12‏/2015

الاستراتيجية الأمريكية في التدمير


ينضبط العقل المسلم - في مواجهة العدو - من خلال رؤيتين:
الأولى: إيمانية قلبية
تكون الحقيقة الإيمانية القلبية - عند مواجهة العدو - متوكلة على الله، واثقة في نصره، مُصدقة في وعده، تجاهد من أجل أن تكون "كلمة الله هي العليا" لا تبالي بعتاد العدو ولا عدته..

يمتلأ القلب بالإيمان، فلا يعود يرى إلا الله، وأن النصر من عند الله، وأنه نعم المولى ونعم النصير.. وأنه - جل جلاله - منجز وعده، وناصر جنده، وهازم العدو وحده، وأنه - سبحانه وتعالى - سينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وما على المسلم سوى تطهير القلب من أي حظ معنوي أو مادي في هذا الجهاد، فلا ينتصر لنفسه، ولا لرأيه، ولا من أجل سلطان أو مُلك أو متاع.. إنما عملاً خالصاً لوجه الله الكريم، يرجو به وجه الله، والدار الآخرة.
وهذه الرؤية الإيمانية القلبية هي التي تُحول المسلم إلى طاقة هائلة لا تستطيع أن تصمد أمامها أي قوة، فتكون من الشجاعة والباسلة والإصرار والإقدام ما يحير العدو، وينظر إليها بعين الحيرة والإعجاب!
والثانية: الرؤية السُننية الواقعية
وهي التي "تضبط" الرؤية الإيمانية القلبية، وتمنع عن القلب "تسرب" التواكل إليه، أو الظن بأنه طالما أنه مسلم، ستنخرق له السنة والقانون.. أو سيهبط عليه نصر من السماء، دون جهد وجهاد وعمل وتخطيط، يُستفرغ فيه الوسع والطاقة، ويُعد للعدو كل وسيلة مكافئة لوسائله، ومضادة لها، وينظر إلى العدو "بعقلية باردة" - خالية من العاطفة الساذجة - تُحلل قوة العدو، ونقاط ضعفه.. وتعتبر كل صغيرة وكبيرة عنده، فلا تترك فراغاً لسبب من الأسباب لم تأخذ به.. بل تسعى للتفوق عليه، فهذا من حسن التوكل، وصدق الإيمان.. ولا تفجع ولا تيأس عندما ترى تفوق في قوة العدو، ولا تفترض كذلك "خيالات وهمية" باسم الإيمان ونصر الله.. فلا تسخر وتتهاون مع العدو، ولا تيأس من التفوق عليه. بل تتعامل بسُنن صرامة، وواقعية منضبطة، تجاه كل حركة، وكل جهاد.
وهذه الرؤية السُننية الواقعية - التي تتبع السنن، وتتعبد إلى الله بالاجتهاد في توفية كل سبب حقه - هي التي تحقق "التوازن" الحركي.. وتُخرج الشخصية الربانية الفريدة المتكونة من عمل (الإيماني القلبي، وعمل السُنن الواقعي).. وهكذا تحقق النصر للمسلمين في غزواتهم وفتوحاتهم بمثل هذه الشخصية الفريدة.
وهذه المقدمة ضرورية عندما نناقش أي استراتيجية لأي عدو، حتى لا يتسرب "اليأس" إلى القلوب من جانب.. أو يخترق "التهاون" والإهمال من جانب آخر، أو تتسرب "الأوهام" إلى العقل من جانب ثالث.
***
وإنني أرى استراتيجية أمريكا في تدمير العراق وسوريا بصورة ربما تكون مغايرة لرؤية البعض، بل إنني أرى "نجاحها" بشكل جزئي، غير ما يُصور بعض الكُتاب الغربيين وكذلك المسلمين على إنها غير فاعلة! وذلك التصور ليس المقصد منه بالطبع "تمجيد" العدو، أو رفع معنوياته! إنما هي لأخذ الحيطة والحذر، ومواجهة استراتيجية العدو، باستراتيجية أخرى مضادة..
وأشير إلى أن هذا العدو الأمريكي وهو أقوى دولة في العالم، هو كذلك صاحب أكبر مديونية تصل إلى حوالي 17 ألف مليار دولا، ويعاني أزمات اقتصادية شديدة، نسأل الله أن يجعل فيها بأسهم بينهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم.
ولكن الانتصار في الحروب المعاصرة الآن.. لم يعد كما كان في السابق، يتلاقى الفريقان على أرض المعركة.. قد تكون أرض الإسلام، أو أرض العدو، أو أرض محايدة، ثم ينتصر الأكثر صبراً وثباتاً، والمؤمنون دوماً هم أكثر أهل الأرض صبراً وثباتاً..
لقد اتخذت صور الحروب المعاصر الآن.. صوراً متعددة شديدة التعقيد والتشابك، والآليات والأدوات، وطول الأمد، واستراتيجيات قصير الأمد، واستراتيجيات بعيدة الأمد ربما تكون لخمسين سنة قادمة! ويُستخدم فيها كل ما وصل إليه العقل البشري من علوم واكتشافات واختراعات..
وأصبح أحد أهم شروط النصر هو: "اكتشاف استراتيجية العدو" ثم "إحباطها" ثم "التفوق عليها باستراتيجية مضادة لها".. وأقول: "اكتشاف" استراتيجية العدو؛ لأن العدو يَعمد إلى إخفاء خططه واستراتيجيته وأهدافه، بل ويموه ببعض التصرفات العسكرية، والتصريحات الإعلامية لخلق حالة من التمويه والتعمية على "الاستراتيجية الحقيقية" حتى يصرف خصمه إلى "كشف أوراقه" ومعرفة مدى قدراته، ووسائل دفاعه، وتكتيكاته.. ويحضر له الفخاخ اللازمة لعملية التدمير الذاتي له.. سواء الفخاخ الإعلامية أو الفكرية أو التحالفية أو العسكرية.
فيدفع الحرب بالاتجاه الذي يريد، بل ويتصنع الخسارة إن لزم الأمر! كل ذلك في انتظار اللحظة المناسبة التي ينقض فيها على خصمه..
والمحارب الذكي لا يفرح بتصريح بالهزيمة من العدو، ولا يركن إلى انتصار محدود، بل هو الذي يحدد "شروط النصر" وطبيعته.. ويربي جنده على عدم الفرح بالنصر المحدود، ولا اللهفة على تحقيق "التمكين السريع" ولا السخرية والتهوين من "العدو الشرس" بل يربي قيادات قادرة على الصبر والصمود حتى لأجيال تالية.. لديها القدرة على التخطيط طويل الأمد، ولديها "الصبر الاستراتيجي" في التحرك في "التوقيت المناسب". فهي على حذر ويقظة بشكل دائم؛ فإن سَلِمت فلله الحمد، وإن واجهت فهي مستعدة، ومُستوعبة للواقع.
***
وإنني مما لاحظته من استراتيجية أمريكا في العراق وسوريا مثلاً - ولستُ من أهل الاختصاص، إنما فقط أسجل ملاحظاتي - هي:
(1)        التفوق الجوي الكاسح.
(2)        التفوق الاستخباراتي.
(3)        إقامة التحالفات الدولية
(4)        العمليات النوعية.
(5)        الإهمال والتجاهل الإعلامي ( هذا غير الحرب الإعلامية ).
(6)        عدم القتال المباشر.. إنما توجيه الحرب عبر القوات الخاصة والخبراء، وعبر العملاء أو الشركاء أو عن طريق الخصوم المحليين، ولقد استطاع العدو توظيف كل هؤلاء.
(1) التفوق الجوي الكاسح: لا حاجة لبيانه، فهو واضح معروف لدى الجميع.. وتستخدم فيه أمريكا قواعدها العسكرية الدائمة في الدول الضعيفة، وحاملات الطائرات البحرية! وأصبح انتهاك السماء يُعبر عن "انتهاك سيادة الدولة" وأصبح من أهم ضرورات النصر الآن هو حماية هذه السماوات، وأنى لعقول المسلمين أن تكون عاجزة عن هذا الأمر الذي يحصد أرواح المسلمين حصداً بالآلاف في ثوان معدودة، ولن نجد حيلة، ولا نستطيع سبيلا ؟!!
(2) التفوق الاستخباراتي: فهو من خلال التفوق التقني، والأقمار الصناعية، والأموال، والعملاء على الأرض.. ومازال العدو متفوق فيه، ويعتمد على "التحالف العالمي" الاستخباراتي في هذا الشأن، ومازلنا بحاجة إلى "مكافحة هذا التجسس" من حيث التقنية أولاً، ومن حيث زيادة الوعي الأمني، وبيان جرم التعاون مع العدو ضد المسلمين، وحسن معاملة الناس التي لا تدفعهم إلى التجسس بدافع الانتقام أو هزيمة الخصوم.
(3) إقامة التحالفات الدولية: وفيه تحرص أمريكا على "صورتها الإعلامية" كونها تحترم الشرعية الدولية! وتمضي في تنفيذ قرارات أممية؛ فتجمع أكبر قدر من التحالفات مع الدول، حتى ولو بصورة شكلية، بل وتهدد من يرفض هذا التحالف! وتستخدم جيوش تلك الدول، وتضعها تحت قيادتها، وتصرفها، فهناك تحالفات تكون قريبة الندية كحال التحالف مع الدول الغربية، وهناك تحالفات أقرب ما تكون "خدمة العبد لسيده" كحال التحالف مع الدول العربية لتدمير الدول العربية الأخرى!!
(4) العمليات النوعية: وهي من أخطر وأهم ما يمكن أن يواجه الجيوش، فقتل القادة - من حيث الميزان العسكري، لا قيمة الإنسان - قد يساوي قتل آلاف الجنود، فالقادة وخبراتهم أمور لا تتكون بسهولة، بل قد تأخذ أجيالاً من الجهد وتراكم الخبرات، هذا فضلاً عن اعتقال وخطف بعض القادة أو الحصول على معلومات تكون بمثابة كشف لجميع الأوراق. وانتقاء الأهداف في العمليات النوعية.. يكون تأثيره من أخطر ما يكون، وينشر في النفوس حالة من "القلق" و"الخوف الداخلي" وهو كذلك امتهان لقوة وسيادة الجهات المقاومة.
(5) الإهمال والتجاهل الإعلامي: وهذه غير الهجوم على الخصم في وسائل الإعلام، أو حتى تصويره بمظهر الوحش الشرير الكاسر.. فقد وجد العدو أن في هذا الهجوم "دعاية مجانية" للخصم، ورغم قدرة العدو الهائلة - مستغلاً آلة الإعلام الجبارة - إلا أنه عمد إلى استراتيجية "الإهمال" والسقوط من الذاكرة ! حتى تخف الجاذبية والتأثير الحاصل.. والعقل الإنساني الآن - بطبيعة الحال - مُحاصر ابتداء بفيضان هائل لا يتوقف من المعلومات، فإذ لم يظل الحضور الإعلامي بشكل دائم، يسقط تلقائياً من الذاكرة، أو يعمد إلى طريقة "صياغة" المادة الإعلامية بصورة محددة دقيقة مدروسة.. تتلخص في "عدد القتلى" هنا وهناك، حتى يتم تصوير الأمر كأنه مجرد صراع "مليشيات مسلحة" ! لا قضية أمة أو ثورة أو تحرير أو قيام نظام حكم عادل.
(6) عدم القتال المباشر: وإنما القتال عبر الوكلاء.. من خلال: حلفاء محليين لهم نفس الهدف، أو عملاء مرتزقة من أجل المال، أو شركاء للعدو يخطط أن يكونوا هم البديل عنه مستقبلاً، أو الأرخص والأسهل.. "القتال عبر خصوم العدو"  وقد تكون الخصومة فكرية أو عقدية أو دينية أو صراع على الموارد.. فيتم تزكية هذه "الخصومات" بصورة تجعل من "الاستحالة" تحيدها فضلاً عن "التوافق والاجتماع" ومن ثم تتأجج بيئة الصراع، حتى يتم إفناء بعضهم البعض.
ولذلك، فإن "اكتشاف استراتيجية العدو" يعصمنا ويُحصننا من أن "نعمل من خلال خطة العدو"، ويجعلنا كذلك نخطط لإحباط "استراتيجيته" وتفكيك خططه، وإحباط مخططاته، والتفوق والنصر عليه بإذن الله.
***