قائمة المدونة محتويات المدونة

07‏/04‏/2016

العصبية الجاهلية

تتكون العصبية الجاهلية نتيجة ثقافة ما، يتم بناؤها من خلال التربية أو التعليم أو محيط البيئة.. تنتفخ فيها القبيلة أو الحزب أو الجماعة أو الطبقة أو العشيرة، وتتورم معها ذوات المنتسبين لتلك العصبية.. يتوارى العقل في هذه الشخصية، وتحضر العاطفة التي تعمل على "استقطاب" المتطابقين عاطفياً ونفسياً مع الذوات المتورمة، وتحسب نفسها على حق مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. بل وأحياناً تشعر أنها محور الوجود، وكل الدنيا، ومن ثم فإن العقل لا يعمل عندها في البحث عن الحق، والدوران معه.. إنما يعمل كآلة لـ "التبرير".. ويكون طريقة عمله - لتبرير الجرائم والأخطاء - كالتالي:

(1) هذه الجريمة لم تقع ابتداء. (2) هذه الجريمة لا تُعبر عن المجموع. (3) وسيلة النشر غير رسمية ولا تُمثلنا. (4) وسيلة النشر رسمية لكنها تُعبر عن نفسها لا عن المجموع !. (5) الجريمة التي وقعت ليست شيئاً كبيراً فقد وقعت من قبل، ولا بأس. (6) الجريمة نوع من أنواع الاجتهاد ولصاحبها الأجر. (7) الجريمة التي وقعت ليست جريمة ابتداء بل هي الحق. (8) غيرنا ارتكب ما هو أشنع فسنظل نحن الأفضل.
هذه إحدى طرق وسائل الدفاع والتبرير التي تحضر فيها العاطفة، ويغيب العقل الباحث عن الحق.
وأما طرق الهجوم - كاعتباره خير وسيلة للدفاع - فيأتي كالتالي: (1) لقد كانت هذه الحادثة نعمة حتى يتميز الخبيث من الطيب، والخبيث: كل ما هو غيرهم. (2) هذه المحنة إنما هي ابتلاء لامتحان المؤمنين. (3) إن كانوا كثرة: نحن الجماعة ومن فارقها فهو ضال، وإن كانوا قلة: فطوبى للغرباء، والجماعة هي الحق، ونحن أهله.
هذه "الشخصية المتحزبة عاطفياً ونفسياً" لكيان ما.. تكاد تكون واحدة ومتطابقة وسمة عامة لكل المتحزبين وإن كانوا جميعهم على أفكار متناقضة، ومذاهب شتى، بل وأديان مختلفة، وتأتي خطورة هذه الشخصية في عدة أمور:
الأول: إن هذه الشخصية من أصعب الشخصيات التي يمكن تغييرها نتيجة للاستقطاب العاطفي، وغياب دور العقل، ومن ثم فلا قيمة لأي دليل وإن كان حقاً خالصاً.. لا قيمة للمناقشة، وسيتحول الباطل حقاً، والحق باطلاً، ولي أعناق الحقيقة لتوافق الباطل قسراً وجبراً تحت ضغط العاطفة، والإنسان يملك قدرة عجيبة على إضلال نفسه، وتتكون "هواجس عنيفة" لديه تتحول إلى "منظار" يرى به كل شيء؛ فيعمى عن رؤية أي شيء !.
الثاني: تسميم البيئة المحيطة به.. فوجود مثل هذه الأنواع من الشخصيات الحزبية العاطفية، تجعل البيئة المحيطة قابلة للانفجار في أي لحظة، وسهل التحريش بينها، فلا يحتاج الأمر سوى إبراز الخلافات، وزيادة الاستقطاب، وتسليح المتحزبين سواء التسليح السياسي أو الإعلامي أو العسكري أو المالي، وانتظر قليلاً، وسيتم إفناء بعضهم البعض.
الثالث: استحالة "العمل المشترك" فلو كانوا على دين واحد، وكتاب واحد، ومذهب واحد، وقضية واحدة، بل ومحنة واحدة.. فإن عاطفة الشخصية الحزبية تطغى على كل ذلك، فهي تعتقد اعتقاداً جازماً أنها على حق مطلق، وغيرها على باطل محض، يقف عقبة في الطريق، يجب إزالته قبل مواجهة أي عدو، وعلى استعداد لحرق كل شيء، من أجل أن تظل العاطفة مُشبعة بفكرة أنها على الحق، ولو خسرت كل شيء.. شعرت داخلياً أنها أدت ما عليها، وحافظت على ثوابتها، فهي منتصرة في كل الأحوال !.
الرابع: الفشل في تقديم "خطاب إعلامي جامع" قادر على الجذب والاهتمام.. بل خطاب إعلامي ينادي بالمتعاطفين فقط، ولا يعبأ برد الفعل. وفي محاولة البقاء ورفع الآثار السلبية، يقعون بين مطرقة الأتباع التي تريد الغليان العاطفي، والغلو في الاستقطاب، وبين سندان الآخرين - من خارجهم - الذين لا تعنيهم عاطفة الأتباع وأفكارهم؛ فيقع الإنقسام، ويبرز التناقض.
الخامس: التناقض.. الحق دائماً على صراط مستقيم لا اعوجاج فيه ولا نتوءات. والذي يحمل حقاً مشوباً بالباطل والعاطفة والهوى، حتماً سيكون متناقضاً، وبدلاً عن علاج التناقض.. فإنه تحت ضغط العاطفة يعمل على ابتلاع هذا التناقض وتمريره بصورة سمجة سخيفة، تزيد المتعاطفين تمسكاً بما هم عليه، وتزيد المحايدين نفرة وإعراضاً.
السادس: بروز "النفعية الوصولية" - البراجماتية - وتبريرها لأنفسهم، وإنكارها على غيرهم. وفتح الطريق لجعل كل شيء خادماً لأوضاعهم، واختياراتهم.
السابع: نتيجة هيجان العاطفة في هذه الشخصية؛ تتكون البيئة المثالية لنمو الشحناء والبغضاء والغل والحقد والحسد.. الذي يجعل القلوب كالقنابل الموقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة، تحت أدنى مُحفز.
الثامن: هذه الشخصية غير مؤهلة لحمل "الرسالات العالمية" - مثل رسالة الإسلام - التي تتطلب تقديم الرحمة والقسط والاستسلام للحق واحتواء كل الشخصيات بكل اختلافاتها وتنوعها وحركتها. بل هي تؤثر سلباً على أي حق تتبناه لأنها تُقدمه في صورة مشوهة أو مضطربة أو متناقضة.

*   *   *