أرى الشيخ أسامة - رحمه الله وتقبله - إمام الزاهدين في هذا العصر،
المجاهد بماله ونفسه، الصادق اللهجة، القوي العزيمة، الشجاع المقدام.. ولكنني في
هذه ذكرى رحيل الشيخ المجاهد لن أتكلم عن إنجازاته، إنما عما أراه
"أخطاء".. نعم أخطاء، رغم الحساسية الشديدة التي لدينا من الحديث عن
أخطاء من نحب، ونجل، فلا بد أن نعيد "الملكة النقدية" لواقعنا وفكرنا
كله، دون اعتقاد الحق المطلق في أحد، ولا الباطل المطلق فيه، دونما اعتباره
"طاهر مقدس" أو "دنس حقير" فهذه العواطف لا تنفعنا إذا أردنا
التعلم والاستفادة من التجربة، والمحاولة من جديد..
ويجب أن لا يحدث "ارتباط مقدس" بين حبنا وإعجابنا بشخصية
فذة، وبين "تبرير" أخطاءها أو الدفاع عنها في صورة من العصبية الجاهلية،
فإن "الغلو" و"العصبية الجاهلية" جناحان لأودية الفشل والجزر
المنعزلة، حتى ولو كنا على حق مبين.. فإن الغلو والتعصب، سيدفعنا إلى "البغي"
على أنفسنا وعلى الآخرين، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى الافتراق والبأس بيننا !
وإننا في مسائل النقد، لا نبتغي "القدح، وهدم الشخصية، والاغتيال
المعنوي" كما يفعل الصغار - فهذا هدف خسيس - بل إننا نفصل بين الفكرة، وبين
الشخصية التي تحاول النجاح، وتستفرغ الوسع، وتمضي في الطريق.
وإنني أنظر إلى تجربة الشيخ أسامة بعين الحسرة ! فهذا الرجل كان
يملك من المال ما يعادل اقتصاد دولة؛ وقد وهب ماله وثروته لنصرة قضيته.. إلا أن
هناك عوامل فكرية، أدت إلى فشل التجربة أو لم تنجح كما كان ينبغي، ولعل سبب ذلك -
فيما أرى - هو "التربية السلفية" التي تلاقها الشيخ في أرض الجزيرة !
فقد أدت إلى أن:
- يثق
الشيخ في النظام السعودي في بداية الأمر.
- يثق
في النظام السوداني ويدعمه، ثم انقلب النظام عليه !.
- إعلان
الجهاد العالمي، والصدام مع القوى الدولية العالمية.
- الكشف
عن نفسه، وعن مخططه، وعن أهدافه، مما سهل القضاء عليه.
- استعجال
الصدام مع القوى العالمية، بلا "بنية تحتية" للجهاد. ولا قاعدة صلبة
يمكن الرجوع إليها.
- سقوط
نظام طالبان بعد أحداث 11 سبتمبر بعدما بُني بالدماء والأشلاء والتضحيات.
- عدم
القدرة على تكرار الضربات المؤثرة والموجعة للنظام الدولي، وعدم القدرة على مواجهة
الحرب العالمية على الجهاد، بل الانحسار وسقوط القيادات والكوادر.
- تقاطع
مصالح النظام الدولي بقيادة أمريكا - والنظام السعودي - في إسقاط الاتحاد السوفيتي
في أفغانستان، مع مصالح المجاهدين.. دون ضمانة عدم الانقلاب عليهم في النهاية كما
وقع.
- الحرب
العالمية على "الحركة الإسلامية" وحصار "التمويل" حتى على
العمل الخيري، والتوجس من كل حركة وإن كانت دعوية.
ولكننا من جانب آخر نرصد إيجابيات في: (1) الاستهزاء بالقوى
العالمية، وإمكانية التحدي، والانتصار عليها. (2) إشعال روح الجهاد في الأمة. (3)
الأثر الإيجابي في حال قيام الثورات وانهيار المنظومة الأمنية المحلية، وسرعة
تكوين جبهات جهادية، وإن كانت بلا "فكر سياسي".
* * *
إذن.. ما هي الصورة التي كان يمكن أن تكون أفضل من ذلك ؟
الحقيقة.. أراها في بناء "منظومة البنية التحتية للجهاد"
دون استعجال ثمرة، أو حرق مرحل.. وهذه المنظومة لا بد وأن تتطلب: قدرات مالية،
وتقنية، واستخباراتية، وتسليحية، وسياسية، وإعلامية، وفكرية، ونفوذ في كافة الدول،
وقاعدة شعبية، وسرية في التعامل. هذه البنية التحتية لا يمكن القضاء عليها بمجرد
إرسال طائرات وصواريخ لمكان ما. بل تظل ضاربة الجذور عميقة الأهداب، والأذرع.
وتتطلب وعي ومرونة سياسية عالية، وفقه راشد بعيداً عن اللغة السلفية، والتصورات
الضيقة التي تُنفر الناس، ولا تجعلها تستمع لنا.
كنت أتمنى أن أرى الشيخ أسامة.. رجل مال واقتصاد، لا يعلم به أحد،
وليس له علاقة مع أحد، سوى "التمويل السري" لـ "البنية التحية
للجهاد"، أو أراه رجل الظل، أو رئيس الحكومة الخفية الموازية.. وأن يستطيع أن
يحمي نفسه من الاستهداف، وله مراكز استشعار مبكر بالخطر، وأصدقاء يمدونه
بالمعلومات الدقيقة، وأن يكون له من "مراكز الأبحاث" و"خزانات
التفكير" ما تجعله يأخذ القرار المناسب في الوقت المناسب.. وأن يكون له من
"الأحزاب السياسية" في كل دولة، ليس هدفها "الوصول للحكم" أو
حتى "تحكيم الشريعة" وإنما هدفها "الاختراق الاستخباراتي"
للأنظمة، وتكوين "ثروة معلومات" تؤهل للحصول على معلومات دقيقة عن
الأنظمة، فالأمر فيها ليس كما يظهر أو نتصور، فهي عالم مجهول مظلم مغلق على
أصحابه، وعند الاصطدام به، أو الرغبة في إسقاطه ونحن في عمى عما يحدث داخله، فلا
شك أنه سيكون مصير هذا الاصطدام هو الفشل، وضياع التضحيات !.
كنت أتمنى أن يظل الشيخ في الظل، وأن يكون - وجميع هيئاته - بعيداً
عن تهم "الإرهاب" وحريص بشكل ملح على "التبرأ" من هذه التهمة،
والخروج بخطاب إعلامي قريب حبيب سهل لين على الناس، هذا إذا كان هناك ضرورة للظهور
ابتداء.
كنت أتمنى "التطوير والحصول" على الأسلحة الرادعة - خاصة
مضادات الطائرات - والتقنيات العسكرية - بصورة غير معلنة - ودون الظهور بمظهر
إسلامي جهادي ! بل بمظهر "تجار السلاح وعصابات المافيا" !
كنت أتمنى أن يكون للشيخ أذرع كأذرع إيران.. مثل حزب الله في
لبنان: [ قاعدة شعبية - مسلحة - قادرة على تطوير التسليح عند المواجهة - حضور
إعلامي - براعة سياسية - حماية للقادة - تطوير للكوادر - غير مدرجة على قوائم
الإرهاب والعقوبات الدولية والمحاصرة ]
خوف "الفكر السلفي" من "العمل السياسي" بحجة فشل
وبراجماتية الإخوان، سيضع ثمرة الجهاد في مهب الريح، وتكفير "الفكر
السلفي" للديمقراطية.. سيجعل الصراع صفري - في النهاية - والمجاهدين هم الطرف
الأضعف فيه، وإنني لا أقول بأسلمة الديمقراطية - أو إنها هي الشورى! - أو حتى أدعو
إليها؛ ولكنني أقصد التعامل مع "واقع عالمي" لا يمكن تغييره دفعة واحدة
في ضربة واحدة ! فأي جهاد بلا مشروع سياسي، هو مجرد قتال حتى الموت فقط. فالتواجد
السياسي لا مفر منه.
وأسلوب "الفكر السلفي" في "العمل الدعوي"
وتصدير نفسه للناس على أنه وحده "الفرقة الناجية المنصورة" وأنه وحده
"الحق المطلق"، وهوسه بـ "طاعة الحكام" و"تقديس
الاستبداد" لن يلقى أثراً طيباً عند الناس، فضلاً عن أنه باطل !.
* * *
وإن بناء "البنية التحتية للجهاد" لا تتطلب أن يطلق
المرء لحيته، وينعت الحكام بالطواغيت المرتدين، ويضرب بسيف التكفير هنا وهناك، ثم
يترك أهله وعمله.. ليهاجر حيث يتواجد المجاهدين ! كلا.. البنية التحتية للجهاد
تتطلب أناس عادية جداً ولن يتغير في أسلوب حياتها شيء، سوى الإيمان بالقضية، ونصرة
الدين، والأمة، وتقديم ما تملكه من مواهب واستعدادات في مجال عملها وقدراتها. وهي
ملتصقة بالأمة والشعوب، وتمهد الطريق في صبر وأناة وحلم ورقابة دقيقة للواقع
المحلي والإقليمي والدولي. وأما القادة والكوادر فلهم شأن آخر، وطريقة أخرى غير
عموم المؤمنين بقضية إنقاذ الأمة.
وإنه لا تغيير بغير "قوة وجهاد" ولا بقاء لثمرة التغيير
بغير "قوة وجهاد" ولا تنتصر القوة وحدها بل لا بد من سياسة واعية لظرفها
المعاصر، وأسلوب دعوي يراعي أفهام الناس، وأسلوب حياتها. ولا قوة من دون فكر
وتخطيط وعمل دؤوب، وعلاج لما بالنفوس والقلوب.
وهذا "التوازن العملي" يُحدث بإذن الله التغيير في
"المستقبل القريب". وعسى أن يهدينا ربنا لأقرب من هذا رشدا، والله من
وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
* * *