قائمة المدونة محتويات المدونة

07‏/03‏/2017

منازعة أولي الأمر

لتحميل البحث نسخة (PDF) لطفاً.. (اضغط هنا).

يَستشهد بعض من يؤصل للملكية الوراثية، والاستبداد، والطغيان، والظلم بحديث "وألا ننازع الأمر أهله" بزعم عدم الفتنة، وإتباع السنة ! وفي هذه السطور - إن شاء الله - سنناقش هذا الحديث الشريف.

جاء في صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت ◙: "قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ ☺ فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ " [ البخاري/ 7056]
ومن طريق آخر: "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ☺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ " [صحيح البخاري/ 7199، ومسلم/ 1842 ]
الفهم المنحرف لهذا الحديث:
لقد فُهم هذا الحديث - عند البعض - على هذا النحو:
(1) الطاعة المطلقة لأولي الأمر، وإن ظلموا، وبغوا، وارتكبوا الفواحش والكبائر واستأثروا بالأموال.
(2) أن المنازعة لهم إنما تكون فقط عند "الكفر البواح" أي الكفر الناقل عن الملة.
(3) أن مفهوم المنازعة يعني حصراً القتال.
(4) أنه حتى في حالهم كفرهم البواح، فلا يجب الخروج عليهم لما في ذلك من فتنة ! واحتمال الفشل، فهذا إلقاء للنفس في التهلكة.
وهذا التأصيل المنحرف للفهم القاصر للحديث جعل من الحاكم كأنه رب أو نصف إله ! وهو كل شيء في الأمة، والجميع خدم تحت قدمه! يسمعوا له ويطيعوا بزعم أن رسول الله ☺ قال ذلك، وحاشاه صلى الله عليه وسلم..
وهذا الفهم - والذي صارت إليه جماعة من الأمة بعد عهد الراشدين - إنما هو سُنة أهل الكتاب الذين كانوا يرون في الملوك أنهم يحكمون باسم الحق الإلهي المقدس، وأنهم ظل الله في الأرض، وأنه لا راد لحكمهم، ولا محاسب لهم على أعمالهم، وانتقل إلينا هذا الشر، وتأصل في عهد الملك العضوض.
بل لقد جعلوا فهمهم المنحرف لهذا الحديث عقيدة ! ونسبوها إلى أهل السنة والجماعة، وزعموا أن الخارج عنها هو المبتدع! فأنى يؤفكون عن الحق؟!
***
وكيف إذن نفهم هذا الحديث، وما هي مناسبته، وما معنى الكفر البواح؟
هناك طريقين لفهم الحديث:
الأول: ندرسه كأنه نسيج وحده، فريد في بابه.
الثاني: نفهمه بمجموع الأحاديث الأخرى الواردة في هذا الباب.
راوي هذا الحديث هو الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، وقد روى الحديث في مناسبته لإنكار منكر رآه بالشام؛
مناسبة الحديث:
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، مَرَّتْ عَلَيْهِ قِطَارَةٌ وَهُوَ بِالشَّامِ تَحْمِلُ الْخَمْرَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ أَزَيْتٌ؟ قِيلَ: لا بَلُ خَمْرٌ تُبَاعُ لِفُلانٍ، فَأَخَذَ شَفْرَةً مِنَ السُّوقِ فَقَامَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَذَرْ مِنْهَا رَاوِيَةً إِلا بَقَرَهَا، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِذْ ذَاكَ بِالشَّامِ فَأَرْسَلَ فُلانٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَلا تُمْسِكْ عَنَّا أَخَاكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ: إِمَّا بِالْغَدَوَاتِ فَيَغْدُو إِلَى السُّوقِ فَيُفْسِدُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَتَاجِرَهُمْ، وَإِمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَقْعُدُ بِالْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلا شَتْمُ أَعْرَاضِنَا وَعَيْبُنَا فَأَمْسِكْ عَنَّا أَخَاكَ، فَأَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَمْشِي حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا عُبَادَةُ مَا لَكَ وَلِمُعَاوِيَةَ؟ ذَرْهُ وَمَا حَمَلَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} قَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؟ بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لا تَأْخُذُنَا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعَهُ مَا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَهْلَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ، وَمَنْ وَفَّى وَفَّى اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ "، فَلا يُكَلِّمُهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِشَيْءٍ، فَكَتَبَ فُلانٌ إِلَى عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الشَّامَ وَأَهْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنَّا عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَإِمَّا أَنْ أُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى فُلانٍ أَدْخِلْهُ إِلَى دَارِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ بِهِ فُلانٌ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ الدَّارَ وَلَيْسَ فِيهَا إِلا رَجُلٌ مِنَ السَّابِقِينَ بِعَيْنِهِ وَمَنَ التَّابِعِينَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْقَوْمَ مُتَوَافِرِينَ فَلَمْ يُهِمَّ عُثْمَانُ بِهِ إِلا وَهُوَ قَاعِدٌ فِي جَانِبِ الدَّارِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَنَا وَلَكَ يَا عُبَادَةُ؟ فَقَامَ عُبَادَةُ قَائِمًا وَانْتَصَبَ لَهُمْ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَبَا الْقَاسِمِ، يَقُولُ: " سَيَلِي أُمُورَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ، فَلا تَضِلُّوا بِرَبِّكُمْ "، فَوَالَّذِي نَفْسُ عُبَادَةَ بِيَدِهِ، إِنَّ فُلانًا لَمِنْ أُولَئِكَ فَمَا رَاجَعَهُ عُثْمَانُ بِحَرْفٍ [مسند الشاشي/ 1258، إسناده حسن]
 وفي مسند أحمد:
"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ عُبَادَةُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ☺ إِنَّا " بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا نَخَافَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِيهِ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ النَّبِيَّ ☺ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فَنَمْنَعُهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ، فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ ☺ الَّتِي بَايَعْنَا عَلَيْهَا، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ، وَفَّى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ ☺ فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الشَّامَ وَأَهْلَهُ، فَإِمَّا تُكِنُّ إِلَيْكَ عُبَادَةَ، وَإِمَّا أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ رَحِّلْ عُبَادَةَ حَتَّى تُرْجِعَهُ إِلَى دَارِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ بِعُبَادَةَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فِي الدَّارِ، وَلَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُ رَجُلٍ مِنَ السَّابِقِينَ أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ، قَدْ أَدْرَكَ الْقَوْمَ، فَلَمْ يَفْجَأْ عُثْمَانُ إِلَّا وَهُوَ قَاعِدٌ فِي جَنْبِ الدَّارِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، مَا لَنَا وَلَكَ؟ فَقَامَ عُبَادَةُ بَيْنَ ظَهْرَيْ النَّاسِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ☺ أَبَا الْقَاسِمِ مُحَمَّدًا ☺ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَلِي أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَا تَعْتَلُّوا بِرَبِّكُمْ " [مسند أحمد/ 22262، المستدرك على الصحيحين/ (3 : 354)]
وفي البحر الزخار: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْمِرَةٌ، وَهُوَ بِالشَّامِ تَحْمِلُ الْخَمْرَ فَأَخَذَ شَفْرَةً مِنَ السُّوقِ، وَقَامَ إِلَيْهَا حَتَّى شَقَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ☺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لا تَأَخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ، أَحْسَبُهُ قَالَ: الْمَظْلُومَ، وَنَمْنَعَ مِنْهُ مَا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا، وَأَبْنَاءَنَا هَذَا مَا بَايَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ" [مسند البزار/ 2731]
فهو في هذه الرواية يتحدث عن البيعة التي بايعها للنبي ☺ فقال: " بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا نَخَافَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِيهِ" فهو ذكر البيعة عند رؤية المنكر، ولم يفهم منها رضوان الله عليه، ما فهمه من يؤصل لعبادة الظالمين - والعياذ بالله - وأردف كلامه في النهاية بحديث يرفعه إلى النبي ☺: "إِنَّهُ سَيَلِي أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَا تَعْتَلُّوا بِرَبِّكُمْ" فهذا هو حال وسيرة الصحابي الذي روى الحديث.
***
ونلفت النظر أيضاً إلى أن عُبادة ◙ شهد بيعة العقبة الأولى والثانية والرضوان، وكانت بيعة العقبة الأولى يُقال لها بيعة النساء إشارة لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ♂ الآية.. وأما بيعة العقبة الثانية وهي بيعة الحرب، وهذه هي التي جاء فيها "ألا ننازع الأمر أهله" فلعلها تكون خاصة بأمور الحرب، وما يجب فيها من طاعة القيادة، وعدم الاعتراض والتنازع وقت الحرب،  وهذا ما تؤكده الروايتين للإمام أحمد في مسنده:
بيعة النساء:
"عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، " فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ☺ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى: أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ، فَلَكُمْ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ " [مسند أحمد/ 22247]
فهذه بيعة توضح عقيدة التوحيد، والتزام الأخلاق والآداب الإسلامية، والطاعة في المعروف، وذكر الجزاء الأخروي. وسبحان الله.. أن نقول لنبي الله "ولا نعصيه في معروف" فالنبي ☺ لا يأمر إلا بالمعروف، بل هو السراج المنير، والهادي - بإذن الله - إلى الصراط المستقيم، ولكنه التأكيد على التزام المعروف والطاعة فيه فيمن هو دون النبي ☺، وبيان للمسؤولية، والتمحيص في أتباع المعروف، وليس الطاعة مطلقة أو في معصية والعياذ بالله.
بيعة الحرب:
"عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ، قَالَ: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ☺ بَيْعَةَ الْحَرْبِ، وَكَانَ عُبَادَةُ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ: فِي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَلَا نُنَازِعُ فِي الْأَمْرِ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ " [مسند أحمد/ 22191]
فهذه بيعة من يستعد لخوض الحرب دفاعاً عن الرسول ☺، وعن دينه وفيها السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر.. وطاعة القيادة، وعدم الاختلاف والتنازع، وقول الحق، والعمل به، والقيام به، لا نخشى أحداً إلا الله. ففي البيعة الأولى "لا نعصيه في معروف" وفي البيعة الثانية "أن لا ننازع الأمر أهله".
وجاء في رواية أخرى: " قُلْنُا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: " تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ "
***
وبالعودة إلى رواية البخاري ومسلم:
فالبيعة إنما كانت لرسول الله ☺ وفيها:
[ السمع والطاعة للنبي ☺ في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأثرة علينا ]
[ وأن لا ننازع الأمر أهله ]
وهناك زيادات مثل: "إلا أن تروا كفراً بواحاً"  وزيادة: "لا تنازع الأمر وإن رأيته أنه لك".
وأردف الحديث في الرواية الثانية: "وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ"
فرُوي الحديث مرة: "بعدم المنازعة إلا عند رؤية الكفر البواح" ومرة "بعدم المنازعة مع قول الحق حيثما كنا".
وهناك من يعتبر قوله: "إلا أن تروا كفراً بواحاً" زيادة لعلها من تصرفات الرواة لإحكام الحديث، فجاء في مسند الإمام أحمد: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ☺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَلَا نُنَازِعُ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، نَقُولُ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ" قَالَ سُفْيَانُ: زَادَ بَعْضُ النَّاسِ مَا لَمْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا [مسند أحمد/ 22170]
فما معنى الكفر البواح ؟
جاء في رواية للإمام أحمد:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ☺: " عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ، وَلَا تُنَازِعْ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّ لَكَ "، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ☺ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: " مَا لَمْ يَأْمُرُوكَ بِإِثْمٍ بَوَاحًا " [مسند أحمد/ 22228]
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ☺: " عَلَيْكَ بِالطَّاعَةِ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ، وَأَنْ لا تُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ يَأْمُرُوكَ بِالْكُفْرِ صُرَاحًا "، وَقَالَ غَيْرُ يَحْيَى: " أَنْ يَأْمُرُوكَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ " [مسند البزار/ 2698]
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ☺: " عَلَيْكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ، وَلا تُنَازِعِ الأَمْرَ أَهْلَهَ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّهَ لَكَ "، قَالَ عُمَيْرٌ: فَحَدَّثَنِي خُضَيْرٌ، أَوْ حُضَيْرٌ السُّلَمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ ☺ وَزَادَ " إِلا أَنْ يَأْمُرَكَ بِإِثْمٍ بَوَاحًا عِنْدَكَ تَأْوِيلُهُ مِنَ الْكِتَابِ " [مسند الشاميين للطبراني/ 225]
فالكفر البواح إنما هو "الإثم البواح" كما في رواية أحمد والطبراني، أو "المعصية البواح" كما في مسند البزار، هذا على فرض أن لفظ "الكفر البواح" من أصل الحديث.
فهو إذن ليس الكفر المخرج من الملة، وإنما هو المعصية البواح التي تظهر ويُستعلن بها فيجب عند ذلك الإنكار، كما ورد في خاتمة الحديث بطرقه المختلفة: "نقول الحق حيثما كنا" "نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر" وكما فعل عُبادة ◙ واحتجاجه بهذه البيعة عند إنكار ما رآه من المنكر، ولم يذكر في قضية إنكاره للمنكر الكفر المخرج من الملة، فهو يتحدث عن إثم بيع الخمر فقط، وبذلك ينقطع الجدل في هذه القضية كونها حديث عن المعاصي بشكل عام لا حديث عن كفر شخص الحاكم.
***
ولنأخذ لفظ "الكفر البواح" على عمومه بلا تخصيص أو بيان:
إن قوله: "إلا أن تروا كفراً بواحاً" لم يتحدث فيه عن شخص الحاكم، فقد يكون الحاكم على دين وخلق، ولكنه مغفل أرعن، يُتلاعب به.. إنما المقصد رؤية الكفر البواح في الحياة بصرف النظر عن شخص الحاكم ودينه، فالقضية هي منع الاعتداء على حرمات الله ▐، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أياً كان مصدره..
فإن ظهر الكفر البواح - سواء على تفسير الكفر بأنه الناقل عن الملة أو المعاصي البواح أو كفر نعم الله - فلا بد إذن من إعادة الأمور إلى نصابها وإلى الحق والعدل الذي جاءت به الرسالة الإسلامية.
***
وأما عدم منازعة الأمر أهله فهو يؤكد الحقيقة التي يدور عليها أمر البيعة، ويدل عليها سيرة الصحابي راوي الحديث، وهي أن الأمر - والإمارة - يجب أن تكون بيد أهلها المؤهلين لها، والمتابعين فيها لسنة النبي ☺، وخلفاء له فيما أمر به، لديهم من القدرة والأمانة ما يؤهلهم لهذا المنصب، وحث رسول الله ☺ على عدم الطمع في هذا المنصب منعاً لاستئثار بمال أو سلطة، فجاء في لفظ آخر للحديث: " وَلا تُنَازِعِ الأَمْرَ أَهْلَهَ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّهَ لَكَ " فلا تنازع الأمر أهله طالما أن الأمر حقاً بيد أهله الذين يقومون بحقه على الوجه الذي يريده الله ورسوله ☺، وإن رأيت أنك أهل له، فلا تتطلب الإمارة خوفاً من الطمع فيها، أو المنافسة عليها.
ففرق بين الطمع في منصب أو إمارة، وبين إنكار المنكر الظاهر في الأمة أو في نظام الحكم، وهذا بالضبط ما فهمه الصحابي عُبادة ◙، فهو لم يطلب الأمر لنفسه، وإنما أنكر المنكر، فقام بالمهمة المنوطة بكل مسلم وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق حيثما كنا لا نخشى في الله لومة لائم، ولا بطش حاكم.
هذه هي محاولة فهم الحديث كأنه نسيج وحده فريد في بابه، وإنا نجد - ولله الحمد - بعد جمع روايات الحديث ومناسبته أنه يُفسر نفسه بنفسه، ومحكم في دلالاته لمن يتأمل.
***
على أنه من الأهمية بمكان أن نذكر جملة من الأحاديث الأخرى الواردة في هذا الباب، حتى لا يتوهم مسلم في دين الله ما ليس منه، أو يفتنه الذين لا يفقهون !.
ونبدأ بالمؤهلين لولاية الأمور:
جاء في صحيح البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " بَيْنَمَا النَّبِيُّ ☺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ☺ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " [صحيح البخاري/ 59]
فجعل رسول الله ☺ إسناد الأمر لغير أهله أمر عظيم فيه ضياع للأمانة، كأنه انتظار للساعة.. كناية عن حدث عظيم، فأمر المسلمين وأمور الأمة يجب أن تُسند لأهلها من أهل الكفاية والقدرة والعلم والأمانة الذين يظهر بلاؤهم وعملهم وكفايتهم للأمة، وليس عن طريق محاباة أو وراثة، فليس في الإسلام دماء ملكية وأخرى للعبيد.. فالجميع سواء أمام الله، لا فرق بين أحد إلا بالتقوى.
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الشَّامِ: يَا يَزِيدُ، إِنَّ لَكَ قَرَابَةً عَسَيْتَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالْإِمَارَةِ، وَذَلِكَ أَكْبَرُ مَا أَخَافُ عَلَيْكَ، فَإِنّ رَسُولَ اللَّهِ☺ قَالَ: " مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَعْطَى أَحَدًا حِمَى اللَّهِ، فَقَدْ انْتَهَكَ فِي حِمَى اللَّهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: تَبَرَّأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ" [مسند أحمد/ 22]
وأما صفات المؤهلين لولاية الأمور، فقد جاءت في سورة الشورى:
قال تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٣٦ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ٣٧ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ٣٨ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ٣٩ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ٤٠ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٤٢ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ  ♂
فهم على ربهم يتوكلون، ويُزهدهم ربهم في متاع الدنيا، منعاً للحرص والمنافسة عليها، ويجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ويغفرون عند الغضب فلديهم الثبات اللازم لأمور الحكم، وهم قبل ذلك قد استجابوا لربهم واتبعوا أمر رسوله ☺ فأقموا الصلاة، ولا يستبدون برأيهم فهو شورى بينهم، ثم هم بعد ذلك ينفقون مما رزقهم الله، فجاء أمر الشورى بين الصلاة والزكاة، وهم أهل نصرة عند ظهور البغي في أي صوره، ثم هم بعد القدرة على النصرة أهل عفو وتسامح، وهم يد على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، ثم بعد انتصارهم أهل صبر وغفران، وكل ذلك من عزم الأمور، واعتدالها واستقامتها التي يقوم أولي الأمر بها.
وقال تعالى لنبيه إبراهيم ♠:﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا  ۖ♂ فتساءل إبراهيم و ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ فكان الجواب ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة] فالنسب والدماء لا تغني من الحق شيئاً، وإن كان من نسل أبي الأنبياء إبراهيم ♠، وإن الظالمين لا يحق لهم الإمامة، بل يجب جهادهم ومقاومتهم والبراءة منهم، فلا إمامة لظالم لا في دين ولا في دنيا.
***
وأما ما جاء في الأحاديث التي تمنع الاستئثار بالمال:
عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ ☺ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا" [صحيح البخاري/ 2597]
وعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ☺ يَقُولُ: " إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [صحيح البخاري/ 3118]
وعن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:" لَا يَحِلُّ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا قَصْعَتَانِ: قَصْعَةً يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَقَصْعَهً يَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ" [الأمالي/ 1732 | إسناد حسن، مسند أحمد/ 579]
وعَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ☺ يَقُولُ: "مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ☺ قَالَ: مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ أَوْ سَارِقٌ " [سنن أبي داود/ 2945]
 وأما ما جاء من الأحاديث الأخرى التي تُوجب مقاومة الظلم والظالمين:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَن رَسُولَ اللَّهِ ☺ قَالَ: " مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ، حَبَّةُ خَرْدَلٍ " [صحيح مسلم/ 52]
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ☺ قَالَ: " تَكُونُ أُمَرَاءُ تَغْشَاهُمْ غَوَاشٍ، أَوْ حَوَاشٍ مِنَ النَّاسِ، يَظْلِمُونَ، وَيَكْذِبُونَ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَيُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَيُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ " [مسند أحمد/ 10808، إسناده متصل، رجاله ثقات]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ♂ قَالَ: عَنْ خَالِدٍ، وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ ☺ يَقُولُ: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ، وَقَالَ عَمْرٌو، عَنْ هُشَيْمٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ☺ يَقُولُ: مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ " [سنن أبي داود/ 4338]
وعَنْ يَحْيَي بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَدَّتِي تُحَدِّثُ: أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ☺ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ، يَقُولُ: " وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا " [صحيح مسلم/ 1840]
فولاية الأمر ليست إذن مسألة مطلقة إنما هي مقيدة بإقامة كتاب الله، وقيادة الأمة بما جاء في الكتاب من أمر ونهي. وليست كما صورها أصحاب الفهم المنحرف الذين صاروا على سنن أهل الكتاب وسنن الفرس والروم في النظر إلى الملوك والحكام قبل قيام الثورات.
***
 فالخلاصة إذن:
-               ليس في الإسلام طاعة مطلقة لأحد، إنما هي طاعة في المعروف، وشرط السمع والطاعة إقامة كتاب الله، والعمل بما جاء فيه.
-               يجب منازعة الأمر إذا ظهرت المعاصي البواح، فعند ظهورها وعدم العمل على دفعها من قِبل السلطة الحاكمة فقد أصبحت غير مؤهلة وغير شرعية، والمنازعة ليست معناها طلب الإمارة، إنما معناها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما فعل راوي الحديث عبادة بن الصامت ◙.
-               المنازعة لا تعني حصراً القتال، فآخر الدواء الكي - أو السيف - إنما يبدأ الأمر بإنكار المنكر وقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم، أو باعتزال الظالمين وعدم الركون إليهم، أو بنزع الشرعية عنهم، أو بعزل أهل الحل والعقد للمنحرفين عن أمانة ولاية الأمور، أو قيام أهل الشورى بواجبهم، أو بإنكار العلماء في صورة إجماعية، أو بالعصيان المدني، أو بالمقاومة السلمية، أو أي صورة تحقق إعادة الحق إلى نصابه، فإن فشل كل ذلك فيجب مكافئة الواقع بوسائله المناسبة.
-               وإن عدم القدرة على المواجهة لا يعني الاستسلام والركون إلى الطغاة كما ألمح لذلك بعض من يعبد الظالمين، إنما معناه إعداد العدة، وتَملك أسباب القوة الضرورية لإزالة الباطل والظلم، فيظل المسلم في فاعلية دائمة، وليس كاهناً دجالاً للطغاة والبغاة والظالمين.
***
وقد أدى الفهم المنحرف لهذا الحديث إلى غلو على الجانب الآخر، فلما ظن قوم أن الحديث معناه عدم منازعة أولي الأمر وإن بغوا وسرقوا وظلموا طالما أنهم لم يُظهروا الكفر البواح بمعنى الخروج من الملة.. لما صدّقوا ذلك، ومن جانب آخر أرادوا تغيير المنكر، أداهم تأصيلهم إلى كفر الحُكام عيناً، ثم تركوا ساحات تغيير المنكر إلى ساحات السجال والجدال حول شروط التكفير وموانعه، وأقوال العلماء فيه.. ثم نزلوا درجة إلى تكفير الحكومات والصف الأول من القيادات، ثم الصف الثاني، ثم الثالث حتى وصل الأمر بالسفهاء منهم إلى تكفير من يحمل جواز سفر أو هوية وطنية!! فصرنا بين عبادة الظالمين أو تكفير المسلمين !
***
 إن رسالة الإسلام هي رسالة العدل والرحمة، وإحقاق الحق، وليس فيها السكوت على باطل، أو الطاعة لظالم، أو الاستسلام لبغي، ليس فيها عبادة الحكام، وليس فيها الخروج الغاشم الظالم عليهم.. بل فيها الدوران مع الكتاب حيث دار، ومنع استبداد الحكام، أو استئثارهم بمال أو منصب، أو توريث لحكم، ومحاسبتهم على الصغيرة قبل الكبيرة، فإذا هم أقاموا الحق والعدل.. فلهم السمع والطاعة والأثرة علينا، وإن لم يفعلوا أجبرناهم بكل وسيلة مشروعة على إقامة هذا الحق والعدل، بلا طمع في منصب، أو رغبة في متاع الدنيا، أو طلب شيء لأنفسنا؛ فما استقاموا لنا.. استقمنا لهم، وإن أعوجوا قومناهم تقويم القدح.
وإن الفتنة كل الفتنة في ترك الظلم ينخر في جسد الأمة، وترك الظالمين والمنافقين يتولون أمور المسلمين؛ فيتخذون كتاب الله دخلاً، وماله دُولة بينهم، وعباد الله خولاً - عبيداً - لهم.
***