يناقش
هذا البحث الأحاديث الواردة في ذكر "القسطنطينية" ومدى صحتها والمناسبات
التي ذكرت فيها، ومدى ارتباطها بمسألة الملاحم وقيام الساعة.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام
على رسول الله ، وبعد:
القسطنطينية: هي عاصمة الدولة الرومانية الشرقية -
الدولة البيزنطية - في العصور الوسطى، بناها الإمبراطور قسطنطين عام 335م، وكانت
تسمى "نوفا روما" أي "روما الجديدة"، كما يوجد مدينة
قسطنطينية بالجزائر بناها قسطنطين أيضاً عام 313 م، وهي إلى اليوم تحمل هذا الاسم.
وجاء ذكر القسطنطينية في الأحاديث المرفوعة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبتين:
الأولى: فتح
القسطنطينية.
الثانية: ارتباط
فتح القسطنطينية بالملاحم ونهاية العالم.
أولاً: أحاديث فتح القسطنطينية
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، قال عبد الله بن أحمد: وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ،
قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ
الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ". قَالَ:
فَدَعَانِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَسَأَلَنِي، فَحَدَّثْتُهُ،
فَغَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ [مسند الإمام أحمد/ 18476/
التاريخ الكبير للبخاري/ 1760]
الإسناد:
راوي هذا الحديث هو "بشر الغنوي أو الخثعمي"
ويقال إنه صحابي، وفي هذا القول مقال، فهو المتفرد برواية هذا الحديث، ولم يرو غير
هذا الحديث، ومختلف في كنيته، ولا يُعرف له ترجمة في كتاب التراجم والطبقات، ولا
يُعلم سنة لوفاته أو مكانها، ولكنهم اعتبروه في الطبقة الأولى. وليس له شيوخ، ولا
تلاميذ له غير ابنه !.
ولذا اعتبره الإمام علي بن المديني (شيخ البخاري)
راويه مجهول؛ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ الْغَنَوِيِّ، عَنْ أَبِيهِ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَتُفتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ
وَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا " فَدَعَانِي مُسْلِمَةُ، فَحَدَّثْتُهُ
بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَغَزَاهُمْ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: رَاوِيهِ مَجْهُولٌ.
[تاريخ الإسلام للذهبي، تاريخ دمشق لابن عساكر]
المتن:
وأما قضية "فتح القسطنطينية" فقد ورد
حديث صحيح في فتح فارس والروم " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَالْخَنْدَقِ عَلَى
الْمَدِينَةِ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا صَفَاةً لَمْ
يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْقُبُوهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا مَعَهُ،
فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَلَمْ أَسْمَعْ ضَرْبَةً مِنْ رَجُلٍ كَانَتْ
أَكْبَرَ صَوْتًا مِنْهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُ أَكْبَرُ، فُتِحَتْ فَارِسُ،
ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُ أَكْبَرُ فُتِحَتِ
الرُّومُ " ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُ
أَكْبَرُ، جَاءَ اللَّهُ بِحِمْيَرَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا " [صحيح
البخاري/ 4276]
وهذا الفتح تم جزء منه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما
فتحت العراق، والشام ومصر.. وصارت ثغور الشام بعد الفتح هي بلاد الروم البيزنطية،
وكانت في حالة مناوشات وغزوات متبادلة مع المسلمين، تارة يهزمهم المسلمين ويضعون
عليهم الجزية، وتارة يغزون هم المسلمين، إلى أن تمكن السلطان محمد الفاتح من
تحويلها إلى الإسلام وجعلها عاصمة الدولة العثمانية.
مراحل الفتح:
سنة 32 هـ في عهد "عثمان رضي الله عنه"
بإمرة معاوية بن أبي سفيان.
سنة 43 هـ في عهد "معاوية بن أبي سفيان"
بإمرة بسر بن أرطاة.
سنة 49 هـ في عهد "معاوية بن أبي سفيان"
بإمرة "ابنه يزيد"، وهي الغزوة التي توفى فيها أبا أيوب الأنصاري رضي
الله عنه، ودفن على أسوار المدينة، وقبره هناك.
سنة 97 هـ في عهد "سليمان بن عبد الملك"
بإمرة مسلمة بن عبدالملك المذكور في الحديث أعلاه، وتم خداعه من قبل إليون كما جاء
في تاريخ الطبرى وابن عساكر.
سنة 99 هـ تقريباً في عهد "عمر بن
عبدالعزيز" استكمال أمور غزوة مسلمة، وفكاك أسرى المسلمين.
وما سبق يمكن اعتباره غزوات استكشافية، واختبار
الروم وطريقة حربهم، ودفاعتهم، ونوعاً من الحرب الاستباقية، وحماية للثغور.
وفي سنة 165 هـ في عهد "المهدي العباسي"
بإمرة "هارون بن محمد المهدي" غزاها.. وفي هذه الغزوة وضع على أهلها
الجزية، وغنموا كثيراً.
ويمكن
اعتبار غزوة هارون هذه فتحاً فجاء في تاريخ الطبري: "وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذي
على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغطسه امرأة أليون، وذلك أن ابنها كان صغيرا،
قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينهما وبين هارون بْن المهدي الرسل والسفراء في
طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما
أعطت له، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، وذلك أنه دخل مدخلا صعبا مخوفا
على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو
سبعون ألف دينار، تؤديها في نيسان الأول في كل سنة، وفي حزيران، فقبل ذلك منها،
فأقامت له الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسولا إلى المهدي بما بذلت على أن تؤدي ما
تيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى،
وكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وست مائة
وثلاثة وأربعين رأسا، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفا، وقتل من
الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا، ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدواتها عشرون
ألف دابة، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس، وكانت المرتزقة سوى المطوعة، وأهل
الأسواق مائة ألف، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من
درهم، وعشرين سيفا بدرهم، فقال مروان بْن أبي حفصة في ذلك:
أطفــــت بقسطنطينة الروم مسندا إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها
ومـــــا رمتها حتى أتتك ملوكهـــــــــــــــــا بجزيتها والحرب تغلي قدورهــــــــــــــــــــــــــــــــا
[تاريخ الطبري/ ( ج 8 : ص
403 )]
ومما جاء في حوادث سنة سبعٍ وسبعين وثلاث مائة كان
العزيز صاحب مصر قد تأهب لغزو الروم، فاحترقت مراكبه، فأتَّهم منا ناسا، وقتل
مائتي نفس.فلما دخلت سنة سبعٍ وصلت رُسُل ملك الرّوم في البحر إلى ساحل القدس
بتقَادُمَ للعزيز، فدخلوا مصر يطلبون الصُّلح، فأجابهم العزيز، واشترط شروطًا
شديدة التزموا بها كلّها، منها أنّهم يحلفون أنّه لا يبقي في مملكتهم أسير إلّا
أطلقوه، وأن يُخْطَب للعزيز في جامع القسطنطينية كلّ جُمُعة، وأنّ يحُمل إليه في
أمتعة الروم كلّ سنة ما اقترحه عليهم، ثم ردّهم بعقد الهدنة، فكانت سبْعَ سنين.
[تاريخ الإسلام للذهبي]
وفي سنة 857 هـ غزاها "محمد الفاتح"
بإمرته وفيها تم الفتح الكلي والنهائي للمدينة.
***
ويجب أن لا نغفل كذلك أن هذا الحديث "لتفتحن
القسطنطينية" مثّل قوة دفع إيمانية ودينية للسلاطين والقادة، وتسابقوا أن
يكونوا هم أهل بشارة هذا الحديث، كما فعل مسلمة بن عبدالملك، ومحمد الفاتح.. ولكن
أهمية البشارة ودورها، لا تُصحح حديثاً، وإن النظرة التجريدية - العصية على
الكثيرين - تجعلنا نرى البشارة العظمى في القرآن الكريم، ووعده بتمكين الذين آمنوا
وعملوا الصالحات، واستخلافهم ليس فقط في القسطنطينية، وإنما في الأرض كلها، وهذا
يجعلنا أحراراً في الانطلاقة الكبرى، ونحن نجاهد على وعد الله سبحانه وتعالى،
ونمضي على صراطه المستقيم.
***
ثانياً: ارتباط فتح القسطنطينية بالملاحم ونهاية
العالم
جاءت أحاديث ربطت فتح القسطنطينية بنهاية العالم
والملاحم الكبرى، وتم ربطها بظهور الدجال ورجعة عيسى عليه السلام وظهور المهدي، وكان هذا
الإشكال وارداً عند المحدثين فجاء في جامع الترمذي: " عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " فَتْحُ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ "، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ، هِيَ مَدِينَةُ الرُّومِ، تُفْتَحُ عِنْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، قَدْ فُتِحَتْ
فِي زَمَانِ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ" [جامع
الترمذي/ 2171] فقد استغرب - ضعّف - الحديث، واعتبر غزوة أبي
أيوب الأنصاري فتحاً.
ولما فتحت القسطنطينية وأتم الفتح السلطان محمد
الفاتح وتحولت إلى بلد إسلامي، ظن البعض أن هناك فتحاً آخر لهذه المدينة، طالما أن
هذا الفتح لم يظهر معه الدجال أو ينزل عيسى عليه السلام ! أو لم يعتبروا بفتح العثمانيين
لها، أو اعتبروا أن استنطبول الحالية ليست هي القسطنطينية... إلخ.
ومن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ، وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي
الْبَحْرِ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " لَا
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ،
فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا
بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ
أَحَدُ جَانِبَيْهَا، قَالَ: ثَوْرٌ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا، قَالَ: الَّذِي فِي
الْبَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ
أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ فَيَدْخُلُوهَا،
فَيَغْنَمُوا فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ إِذْ جَاءَهُمُ
الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ
وَيَرْجِعُونَ " [صحيح مسلم/ 2921]
وفي المستدرك: يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْمَدِينَةُ
هِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، قَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ فَتْحَهَا مَعَ
قِيَامِ السَّاعَةِ. [المستدرك على الصحيحين/ [4 :
471]
والإسناد: صحيح،
لا غبار عليه. ونلحظ أن سلسلة الرواة هم رجال البخاري كذلك، لكن لم يروه البخاري.
والمتن هناك علل فيه:
الأول: المدينة التي لها جانب في البر،
وجانب في البحر ليست خاصة بالقسطنطينية، فالمدن الساحلية جانب منها في البر، وجانب
منها في البحر، فقد تكون الاسكندرية بمصر، أو مدن الخليج العربي، أو الشام على
ساحل المتوسط، أو روما أو شمال أفريقيا، أو الأندلس وأقرب الشبه بها روما والمغرب
عند مضيق جبل طارق واليونان.. وإجابة الصحابة لا توحي باستفسار عن أي مدينة هي،
فالقسطنطينية ليست فريدة من النهاية الجغرافية بحيث يعرفها الصحابة بمجرد القول إن
لها جانب في البر وجانب في البحر، ومع كل هذه الاحتمالات لم يستفسر الصحابة عن أي
مدينة هي؟!
الثاني: غزو بنو إسحاق لها ! فمن هم بنو
إسحاق ؟
هناك احتمالين لا ثالث لهما:
أولاً: أن يكونوا هم بنو إسرائيل فنسل
إسحاق عليه السلام هو يعقوب - إسرائيل - كما جاء في القرآن الكريم، فهل يُسلم اليهود في آخر
الزمان، ويفتحون القسطنطينية، وتُخرق لهم السنن الإلهية؟! وبهذا يكون بنو إسرائيل
هم من سيحارب الدجال، على أن هناك رواية أخرى عن أنس بن مالك تقول:
" يَتْبَعُ الدَّجَّالَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ، عَلَيْهِمُ
الطَّيَالِسَةُ "
[صحيح مسلم/ 2947]
ثانياً: أن يكونوا هم أبناء
"العيص بن إسحاق" أو "عيسو" - الشقيق التوأم ليعقوب عليه السلام - وهم
الرومان، وقد أورد الطبري في تاريخه عن ابن اسحاق: "أن
العيص تزوج ابنة عمه بسمة بنت إسماعيل بن إبراهيم، فولدت له الروم بن عيص، فكل بني
الأصفر من ولده" وهذا القول مصدره [سفر التكوين- إصحاح 36] وهذا القول ليس عليه دليل شرعي فنسل
إسحاق عليه السلام هو يعقوب ولم يرد أي دليل من الكتاب أو صحيح السنة أو ضعيفها على وجود
عيسو أو العيص هذا سوى في العهد القديم.. فلا حُجة في ذلك؛ بل يُثبت أن هذا القول
من الإسرائيليات.
وقد قال تعالى: { أَمْ
كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] فذكروا عمهم إسماعيل عليه السلام - العم
الأكبر - وأبيهم إسحاق الأخ الأصغر لإسماعيل، ولم يرد أي ذكر للعيص، وهذه أقرب
مناسبة لذكره إن كان له وجود ابتداء.
الثالث: وهو خرق السنن الإلهية، وفتح المدينة
بالتكبير.. وهذا لم يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن هو دونه؟! فكل نصر للمؤمنين كان يمضي
على سنن الله في إعداد القوة، واستفراغ الوسع، وحسن التوكل على الله، وإخلاص
الجهاد لله سبحانه وتعالى.
الرابع: الحديث عن سقوط أحد جوانب
"أسوار" مدينة القسطنطينية بالتكبير، وكانت من أشد المدن دفاعاً وحصونناً،
ولكنه يكشف من جانب آخر عن طريقة الدفاع عن المدن في العصور الوسطى وحدها - وليس بشكل
عام - فالمدن والدول، ليس لها أسوار
وجوانب للدفاع عنها كما في السابق، واختلف الأمر كلياً الآن.
الخامس: اضطراب روايات مناسبة فتح
القسطنطينية فجاء الحديث برواية أخرى مخالفة للرواية الأولى: " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ
بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ
مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا، قَالَتْ الرُّومُ:
خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ
الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا،
فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا،
وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ
الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ
فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ
بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ
فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ
خَرَجَ فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ
أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا
رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ
تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ
فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ " [صحيح مسلم/ 2899]
ففي الرواية السابقة أن الذي يفتحها
هم "بنو إسحاق" بلا قتال على الإطلاق - لا يقاتلوا بسلاح ولا يرمون بسهم
! - وفي هذه الرواية يقتال خيار أهل المدينة عند تخوم القسطنطينية - أي دابق أو
الأعماق - ثم الحديث عن "السبي" ولماذا يترك الروم المسلمين، ويطلبون
قتال من سبوا من بني جلدتهم وكانوا يقاتلون معهم، وهل سيتحول الذين تم سبيهم إلى
مجاهدين في سبيل الله فجاءة؟! وما هي الفترة التي دخلوا فيها الإسلام وتحولوا إلى
إخوة للمسلمين؟! وهل سيعود الرق بشكل عالمي مرة ثانية؟ وبعد هذا القتال يصلون إلى القسطنطينية
فيفتحونها !. واضطراب الروايات على هذا النحو مما يُضعف متن الحديث.
وفي رواية ثالثة مخالفة للروايتين
السابقتين عن ابن مسعود: "إِنَّ السَّاعَةَ لَا
تَقُومُ حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، قَالَ
بِيَدِهِ: هَكَذَا وَنَحَّاهَا نَحْ وَالشَّأْمِ، فَقَالَ عَدُوٌّ: يَجْمَعُونَ
لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، قُلْتُ: الرُّومَ
تَعْنِي، قَالَ: نَعَمْ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمُ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ،
فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً،
فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ثُمَّ يَشْتَرِطُ
الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً،
فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ
شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى
يُمْسُوا فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى
الشُّرْطَةُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَيَقْتُلُونَ
مَقْتَلَةً إِمَّا، قَالَ: لَا يُرَى مِثْلُهَا، وَإِمَّا قَالَ: لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ، فَمَا
يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا، فَيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ كَانُوا
مِائَةً، فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ،
فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ، فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمُ
الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، فَيَرْفُضُونَ
مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ، فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ
آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ
الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ
يَوْمَئِذٍ " [صحيح مسلم/ 2901]
وهذه
الرواية فيها مقاتلة الروم لمدة أربعة أيام لا ينتصر فيها المسلمون، حتى جاءهم الصريخ بخروج الدجال،
وخروج عشرة فوارس، يعرف النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم وألوان خيولهم ! وليس فيها ذكر للمسيح
عليه السلام، ولا فتح للقسطنطينية، ولا انتصار على الروم، ولا ذكر لبني إسحاق، ولا
خيار أهل المدينة.. وقد أخذ قوم من هذا الحديث دلالة على انهيار الحضارة القائمة
وقيام حرب عالمية نووية تدمر العالم كله، وتعود به إلى عصر الخيول وأدوات الحرب
الأولى ! والتفكير على هذا النحو هو انتحار حضاري، وتدمير للفكر الإسلامي! وتضاد
واضطراب هذه الروايات والاختلاف بينها يُضعفها جميعها لاتحاد المناسبة، وتناقض
الأقوال فيها، والراوي واحد.. { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82]
السادس: خروج الدجال، الذي اضطربت حوله
الروايات كثيراً، ومناسبات خروجه.. فتارة يخرج مع فتح القسطنطينية، وتارة مع فتح
الروم.. وتارة سيذوب أمام المسيح فور خروجه أي إنه لا وقت لفتنته حسب سياق حديث
مسلم، فبعد فتح القسطنطينية وهم يقتسمون الغنائم ينزل المسيح، ثم يذوب الدجال
أمامه، على أنه في روايات أخرى سيمكث أربعين يوماً أو شهراً أو سنة ! وعن جابر بن
عبدالله: " فَلَهُ - أي الدجال - أَرْبَعُونَ لَيْلَةً
يَسِيحُهَا فِي الْأَرْضِ، الْيَوْمُ مِنْهَا كَالسَّنَةِ، وَالْيَوْمُ مِنْهَا
كَالشَّهْرِ، وَالْيَوْمُ مِنْهَا كَالْجُمُعَةِ، ثُمَّ سَائِرُ أَيَّامِهِ
كَأَيَّامِكُمْ هَذِهِ"
[مسند أحمد/ 14537]
وهذا لا يصح فعدة الشهور عند الله اثنى عشر شهراً يوم خلق السموات والأرض، ستظل
هكذا إلى يوم الدين، ولن تُخرق السنن الكونية للباطل أبداً، فالباطل مخذول وزاهق.
وفي صحيح مسلم "عَنْ
نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تَغْزُونَ جَزِيرَةَ
الْعَرَبِ، فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ فَارِسَ، فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ
تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ
اللَّهُ "، قَالَ: فَقَالَ نَافِعٌ: يَا جَابِرُ لَا نَرَى الدَّجَّالَ
يَخْرُجُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ
[صحيح مسلم/ 2902] وقد تم فتح بلاد الروم - وهي الشام
التي كانت خاضعة للروم في عهد عمر رضي الله عنه، وكذا فتح الدولة الرومانية
الشرقية البيزنطية - وهذا الحديث يجعل مواجهة الدجال غزوة من الغزوات، وليس فيها
تصدي المسيح عليه السلام له.
على أنه في رواية أخرى لمسلم ومرفوعة
للنبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها غزو، بل فيها فرار إلى الجبال: "لَيَفِرَّنَّ
النَّاسُ مِنَ
الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ "، قَالَتْ أُمُّ
شَرِيكٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: " هُمْ
قَلِيلٌ"
[صحيح مسلم/ 2947]
!!
وقد استدرك العلاّمة ابن الجوزي أحاديث فتح
القسطنطينية في كتابه العلل:
"حديث فِي فتح قسطنطينية أنا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: أَنَا
حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: نا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: نا عَمْرُو بْنُ
عَلِيٍّ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، قَالَ: نا كَثِيرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَرُومِينِيَّةَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ
"، قال المؤلف: هَذَا حديث لا يصح، قال أَحْمَد: لا يحدث عن كثير بْن عَبْد
اللَّه وضرب على حديثه فِي المسند، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال الشافعي:
هُوَ ركن من أركان الكذب" [ العلل المتناهية لابن
الجوزي/1430 ]
***
روايات كعب الأحبار:
ومما جاء في حديث كعب عن الملاحم:
"عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: " ذَكَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَلْحَمَةَ فَسَمَّى الْمَلْحَمَةَ مِنْ عَدَدِ الْقَوْمِ"،
وَأَنَا أُفَسِّرُهَا لَكُمْ: " إِنَّهُ يَحْضُرُهَا اثْنَا عَشَرَ مَلِكًا،
مَلِكُ الرُّومِ أَصْغَرُهُمْ وَأَقَلُّهُمْ مَقَاتِلَةً، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا
هُمُ الدُّعَاةُ، وَهُمْ دَعَوْا تِلْكَ الأُمَمَ وَاسْتَمَدُّوا بِهِمْ،
وَحَرَامٌ عَلَى أَحَدٍ يَرَى عَلَيْهِ حَقًّا لِلإِسْلامِ أَنْ لا يَنْصُرَ
الإِسْلامَ يَوْمَئِذٍ، وَلَيَبْلُغَنَّ مَدَدُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ
صَنْعَاءَ الْجُنْدِ، وَحَرَامٌ عَلَى أَحَدٍ يَرَى عَلَيْهِ حَقًّا
لِلنَّصْرَانِيَّةِ أَنْ لا يَنْصُرَهَا يَوْمَئِذٍ... وَيَضْرِبُ الْمُسْلِمُونَ
أَقْفَاءَهُمْ مُدْبِرِينَ، لا يَمُرُّونَ بِحِصْنٍ إِلا فُتِحَ، وَلا مَدِينَةٍ
إِلا فُتِحَتْ، حَتَّى يَرُدُّوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَيُكَبِّرُونَ اللَّهَ
وَيُقَدِّسُونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ، فَيَهْدِمُ اللَّهُ مَا بَيْنَ اثْنَيْ عَشَرَ
بُرْجًا، وَيَدْخُلُها الْمُسْلِمُونَ، فَيَوْمَئِذٍ يُقْتَلُ مُقَاتِلَتُهَا،
وَتُفْتَضُّ عِذِارُهَا، وَيَأْمُرُهَا اللَّهُ فَتُظْهِرُ كُنُوزَهَا، فَآخِذٌ
وَتَارِكٌ، فَيَنْدَمُ الآخِذُ، وَيَنْدَمُ التَّارِكُ "، قَالُوا: وَكَيْفَ
يَجْتَمِعُ نَدَامَتُهُمَا؟ قَالَ: " يَنْدَمُ الآخِذُ أَلا يَكُونَ
ازْدَادَ، وَيَنْدَمُ التَّارِكُ أَلا يَكُونَ أَخَذَ "، قَالُوا: إِنَّكَ
لَتُرَغِّبُنَا فِي الدُّنْيَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ؟ قَالَ: " إِنَّهُ
يَكُونُ مَا أَصَابُوا مِنْهَا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى سِنِينَ شِدَادٍ، وَسِنِينَ
الدَّجَّالِ، " قَالَ: " وَيَأْتِيهِمْ آتٍ وَهُمْ فِيهَا، فَيَقُولُ:
خَرَجَ الدَّجَّالُ فِي بِلادِكُمْ، قَالَ: فَيَنْصَرِفُونَ حَيَارَى فَلا
يَجِدُونَهُ خَرَجَ، فَلا يَلْبَثُ إِلا قَلِيلا حَتَّى يَخْرُجَ ".[ الفتن لنعيم بن حماد]
وعَنْ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَأْتِيِهِمُ الْخَبَرُ أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ بَعْدَ
فَتْحِهِمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَيَنْصَرِفُونَ، فَلا يَجِدُونَهُ، ثُمَّ لا
يَلْبَثُونَ إِلا قَلِيلا حَتَّى يَخْرُجَ " [ الفتن لنعيم بن حماد]
وكعب لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه،
وما يقوله يدخل في نوعية "الأساطير والإسرائيليات" وقد حذره عمر رضي الله عنه من
هذا الحديث وأمثاله، وهدد بنفيه خارج المدينة! وقال له: "
لتتركن الأحاديث أو
لألحقنك بأرض القردة" وهو المصدر الرئيسي للإسرائيليات في التفسير والحديث،
وأخطر ما في هذه الإسرائيليات هو رفعها للنبي صلى الله عليه وسلم !!.
ولعل سبب الحديث عن القسطنطينية
وربطها بالملاحم وغيرها مما بثه كعب من الإسرائيليات نحوها، هو الرغبة في الانتقام
من الروم الذين عاثوا في بيت المقدس فساداً وتدميراً، ومما يشهد لهذا الظن هو ما
قاله كعب عن القسطنطينية فجاء في تاريخ الطبري عن كعب قال: "إن
الروم أغاروا على بني إسرائيل، فأديلوا عليهم فدفنوه، ثم أديلوا فلم يفرغوا له،
حتى أغارت عليهم فارس، فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت الروم عليهم إلى أن وليت -
أي عمر بن الخطاب -، فبعث اللَّه نبيا على الكناسة، فقال: أبشري أورى شلم عليك
الفاروق ينقيك مما فيك، وبعث إلى القسطنطينية نبي، فقام على تلها، فقال: يا
قسطنطينية، ما فعل أهلك ببيتي؟ أخربوه وشبهوك كعرشي، وتأولوا علي، فقد قضيت عليك
أن أجعلك جلحاء يوما ما، لا يأوي إليك أحد، ولا يستظل فيك علي أيدي بني القاذر سبأ
وودان، فما أمسوا حتى ما بقي منه شيء" [ تاريخ
الطبري/ ( ج 3 : ص 307)]
ويجي ذكر فتح "سبأ وودان" للقسطنطينية
والذي ذكره كعباً أيضاً كما ورد في كتاب الفتن: قَالَ:
" تُفْتَحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ عَلَى يَدَيْ وَلَدِ سَبَأٍ، وَوَلَدِ قَاذِرٍ".
[الفتن لنعيم بن حماد/ 1306] وكعب
كان من يهود اليمن، ولليهود
روايتهم الخاصة عن سبأ فتخبطوا في ذكر نسبه فزعموا أنه من أبناء الشخصية التوراتية
إبراهيم - عليه السلام - من زوجته قطورة التي تزوجها عقب وفاة سارة. قطورة أنجبت
لإبراهيم عددا من الأولاد منهم مدين ويقشان. مدين خلف ديدان ويقشان خلف سبأ".
و كتابات اليهود
تفيد في إثبات وجود سبئي قرب مناطقهم مما حدا بهم بإضافتهم كأبناء عمومة لهم" [ويكيبيديا] كما يعتبرون أن ملكة سبأ تزوجت من
سليمان عليه السلام وأنجبت منه طفلاً "منليك الأول" الذي ينحدر منه ملوك
إثيوبيا ! فهؤلاء ولد سبأ وفق المنظور اليهودي.
ومن الأحاديث الأخرى الواردة في هذا الباب:
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ
يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ
قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ"
[سنن أبي داود/ 4294]
وفي سند هذا الحديث مقال: فيه "عبدالرحمن بن
ثابت" قال عنه الإمام أحمد "أحاديثه مناكير ، ومرة : لم يكن بالقوي في
الحديث" وكذلك ضعفه الإمام النسائي، فهذا يُضعف سند الحديث..
ومن جهة المتن ليس فيه دلالة واضحة، فما المقصود
بالعمران والخراب؟ هل هو العمران الحضاري؟ أم هو استقامة أمر الإسلام والمسلمين؟
وارتباط خروج الملحمة وفتح القسطنطينية والدجال،
مع عمران بيت المقدس مما يضعف متن الحديث كذلك، والله أعلم.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى وَفَتْحُ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ " [سنن أبي
داود/ 4295]
وهذا الحديث ضعيف السند فيه أبو بكر بن أبي مريم
الغساني وهو ضعيف الحديث، والوليد بن سفيان الغساني وهو مجهول.. فلا حُجة فيه.
ويبدو
أن هذا الكلام هو لكعب الأحبار، فقد جاء في كتاب الفتن: "عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: "
الْمَلْحَمَةُ الْعُظْمَى، وَخَرَابُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَخُرُوجُ
الدَّجَّالِ، فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ " [الفتن
لنعيم بن حماد/ 1400]
وعَنْ كَعْبٍ أيضاً، قَالَ: " لا
يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى تُفْتَحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ " [الفتن
لنعيم بن حماد/ 1455]
وعَنْ كَعْبٍ، قَالَ: "
يَفْتَتِحُونَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَيَأْتِيهِمْ خَبَرُ الدَّجَّالِ، فَيَخْرُجُونَ
إِلَى الشَّامِ، فَيَجِدُونَهُ لَمْ يَخْرُجْ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى
يَخْرُجَ " [الفتن لنعيم بن حماد/ 1481]
وعَنْ كَعْبٍ، قَالَ: "
بَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ غَنَائِمَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ إِذْ يَأْتِيهِمْ
خَبَرُ الدَّجَّالِ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يُقْبِلُونَ
فَيَلْحَقُونَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَلِي أَمْرَ
الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنْ
يَسِيرَ إِلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
ثُمَّ إِنَّ الأَرْضَ تُخْرِجُ زَكَاتَهَا عَلَى مَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ
الدُّنْيَا، ثُمَّ يَلْبَثُ سَبْعًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا فَتَقْبِضُ
أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ " [الفتن لنعيم بن حماد/ 1591]
وقد ورد أن المدة هي سبعة أشهر، وتارة ستة أشهر،
وتارة سبع سنين، وفي الغالب هذا النوع من التحديد الزمني ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم،
والله أعلم.
فيُخشى أن تكون الروايات المضطربة من
الأحاديث السابقة من إسرائيليات كعب الأحبار رواها عنه بعض المتأخرين من الصحابة،
على سبيل معرفة أقوال السابقين، وما لديهم من أخبار، ثم رُفعت للبني صلى الله عليه وسلم لاحقاً بفعل
فاعل ! فربما كان يرويها كعب تعبيراً عن صوت ثقافة قومه، ثم رددها بعض الصحابة عنه
- ربما دون ذكر اسمه - ثم رددها الجيل التالي للصحابة على أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فهذا
خطأ محتمل، كما يُحتمل أن يكون هذا الدس وقع عمداً لإفساد الحديث النبوي.
***
وبذلك - والله أعلم - تخرج قضية "فتح
القسطنطينية" من قضية "الملاحم ونهاية العالم والتاريخ" والمتتبع
لأمور فتحها يراها جارية على سنن الله في التدافع والنصر والهزيمة، متى استقام أمر
المسلمين وأخلصوا دينهم لله، واستكمالوا سنن النصر والتمكين، مكن الله لهم وأيدهم
بنصره..
كما يجدر الإشارة إلى أن هناك بعض الغزوات في
فترات الملك العضوض كان هدفها "الملك والغلبة" لا الدين، بغض النظر عن
نوايا بعض المخلصين - فإنما الأعمال بالنيات - وهذه أيضاً خاضعة لسنن الله في
النصر والتدافع، ولم تُخرق السنن الإلهية لأحد، وهي لا تحابي أحداً، ولو كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وقد فُتحت القسطنطينية وصارت مدينة
"إسطنبول" وهي مدينة مسلمة، من مئات السنين، ولو افترضنا اندثار الإسلام
منها، وتحولها إلى حال مثل الأندلس - والعياذ بالله - وهو افتراض بعيد إن شاء
الله، فإن ردها للإسلام وفتحها سيكون جارياً أيضاً على السنن الإلهية، وقوانين
الاجتماع البشري، وليس بطريقة سحرية غامضة الأسباب.
والتعويل على الأحاديث الضعيفة والمنكرة
والإسرائيليات والآحاد الغريبة في تفسير المستقبل ورؤية الواقع مما جر على
المسلمين الويلات والمصائب، وجعلهم يركنون إلى أوهام لا تصح، وأطلقوا بسببها
أحكاماً مضطربة استناداً على رؤية مختلة.
والمسلم يترك المتشابه والمختلف
إلى المُحكم المنضبط كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } [آل
عمران : 7]
***