قائمة المدونة محتويات المدونة

25‏/02‏/2015

فرق السرعات

عندما تسير بسرعة 100 كم في الساعة.. فلا شك أن تكون حصلّت كثير من المشاهد، والرؤى استناداً لطول المسافة التي قطعتها على الطريق.
وعندما تسير بسرعة 10 كم في الساعة.. فتكون حصلّت عدد محدود من المشاهد والرؤى استناداً لطول المسافة التي قطعتها على الطريق.

وفي هذه الحالة عندما يتكلم من يسير بسرعة 100 كم في الساعة عن المشاهد التي رأها، ويراها الآن.. لا يمكن لمن يسير بسرعة 10 كم في الساعة.. ولم يصل بعد - وربما لا تسعفه وسيلته أصلاً ليصل يوماً ما - أن يرى ما يراه من يسير بسرعة عالية.. وعليه، لا يمكن ولا يصح له أن "يتهم" من يسير بسرعة 100 كم أنه كذاب، أو يشوه الحقائق، أو أنه صنيعة مخابراتية، أو أنه جاهل لا يدري شيئاً !!
كلام يبدو منطقياً وصحيحاً.. أليس كذلك ؟!
هذه الصورة - صورة فرق السرعات - هي نفسها ما يحدث في عالم "الأفكار والعقول" هناك عقول وأفكار وتجارب وخبرات تقطع مسافات هائلة.. وتُحصل خبرات شتى، وتصقلها الحياة، وترسم طريقها بكل وضوح واطمئنان ويقين..
وهناك عقول بطيئة تمشي الهُوينَا، تدرك ببطء، وتمضي في بلادة، تتحرك في لا مبالاة.. وأحياناً تتوقف تماماً، وتضمر عضلة العقل لديها، فتركن إلى "التقليد" و"قهر النفس" على شعور الاطمئنان مهما كان الخطر محيطاً بها من كل جانب..!
ولكن المشكلة ليست في فرق السرعات في العقول فحسب.. بل أيضاً في "التصادم العابر لحدود الزمان والمكان"!!
فإن وجود عقول بهذه السرعة الهائلة في الفهم والحركة والتصور.. من شأنه أن يكشف عن حقيقة العقول البطيئة أو الميتة أو الواقفة أو المُتكلسة.. ومن شأنه أن يضعها أمام حقيقتها في مرآة النفس التي قهرت نفسها على "شعور الاطمئنان" وارتكنت إليه.. ومن هذا التصادم تحدث كثير من الكوارث.. قد تؤدي لهلاك الإنسان في الدنيا والآخرة، عندما يصاحب هذا التصادم بعض "الأمراض الأخرى"!!
في العقول التي تفكر وتعمل بسرعة هائلة.. تتكون قناعتها سريعاً، وتنطلق في العمل، وتنتقل من طور إلى آخر.. بسرعة وخفة ورشاقة، وتُحلل، وتفكر، وتستنتج، وتخطط سريعاً، وتستدرك الخطأ بسرعة.. إلا أنها من "الناحية النفسية" قد غاب عنها "واقع" العقول البطيئة.. فمع سرعتها.. حدث "فراغ هائل" وصار الواقع في حالتين من التكوين الزماني.. تكوين سريع، يعيش واقع القفزات الهائلة في الفكر والتصور والشعور والعمل والتجربة، وتكوين بطيء - ربما خارج الزمان والمكان - يعيش واقع البلادة، والجمود، والبطء، والتراخي.. في التصور والقيم والموازين والفكر والعمل..
وكل تكوين يرى الحقيقة الناظرة أمام عينيه هي وحدها الحق، والواقع الوحيد.. وعند حدوث التصادم العابر للزمان.. يُكذب كل طرف الآخر!!
فعندما تتحدث العقول النشطة العاملة عن واقعها.. فإنها تصف ما تراه حقيقة، وما لمسته من واقع التجربة، وما استقر في يقينها..
وعندما تسمعه العقول البطيئة النائمة.. تُكذب هذا الواقع.. أين وقع هذا الواقع - الذي تتحدث عنه العقول النشطة - وفي أي زمان؟! لا شك أنهم كذبة يريدون أن يحيدوا بنا عن الطريق القويم، لا شك أن ما يفعلونه "مؤامرة" علينا نحن أصحاب الفهم الراسخ الصحيح!!
وكذلك.. عندما تتحدث العقول البطيئة النائمة عن واقعها، فإنها تصف "حالة" أشبه بحالة الموتى أو شيء من الماضي.. لا يجد له مكاناً من الشعور والإحساس لدى العقول التي سبقت وقفزت فوق هذه المراحل من أمد بعيد، إضافة إلى ذلك فإنها تتحدث عنه في صورة من الحقيقة المطلقة، التي ما دونها باطل !
فتصير حالة من ( الاغتراب ) عن واقع العقول البطيئة، بالنسبة للعقول النشطة.
وتصير حالة من ( التكذيب ) لواقع العقول النشطة، بالنسبة للعقول البطيئة.
وعندما تكون العقول النشطة قلة.. والعقول البطيئة كثرة، تحدث فجوة "فكرية" و"واقعية" و"حركية" فالعقول النشطة لا تنتظر العقول البطيئة للاستيقاظ والحركة، والعقول البطيئة.. تفضل النوم والسكون، بعيداً عن أي إزعاج، فكل شيء على ما يرام..!
المشكلة الرئيسية في ذلك، هو "حالة الدفاع النفسي" للعقول البطيئة.. و"الحدة الحركية" الصارمة للعقول النشطة..
حيل الدفاع النفسي للعقول البطيئة: تتمثل في إنكار واقع العقول النشطة أصلاً، بل وربما "تنشط" !! العقول البطيئة - بدافع نفسي - للهجوم على العقول النشطة، لأن مجرد واقعها يكشف عن عيوب العقول البطيئة.. وهذا شيء لا تقبله النفس. وعليه؛ تستغرق في اتهام العقول النشطة بكل نقيصة... إلخ.
وأما الحدة الحركية الصارمة للعقول النشطة: تتمثل في إنكار أو "الجهل" بـ "الحالة النفسية" للعقول البطيئة.. وعدم تصور واقعها النفسي الخامل، فهي في حالة من الحركة المستمرة.. وعند الجهل بـ "الواقع النفسي" للعقول البطيئة.. تعجز العقول النشطة عن الأخذ بيدها، والانطلاق بها!
وكلما ابتعدت العقول النشطة، كما ازداد ضيقها وحنقها أن تحاول "إفهام" أصحاب العقول البطيئة.. بل ربما لتطور الحنق والضيق إلى الغلو في الحكم عليهم، ومن جانب آخر أصحاب العقول البطيئة لا يظهرون اللين، والأدب.. بل يتطاولون، ويعاندون، ويستكبرون بجهلهم!!
تتعقد المشكلة أكثر عندما يصيب العقول البطيئة - بسبب حيل الدفاع النفسي - أمراض الغل والحقد والحسد والبغضاء.. فإنها بهذه الأمراض قد قطعت على نفسها - لا غيرها - الطريق كاملاً وأقامت "حواجز" نفسية هائلة، وجدران فكرية غليظة.. بينها وبين العقول النشطة وأصبحت ليست فقط في حالة من "الإنكار" بل في حالة من "الكراهية والسخرية والعجب والحسد" هذه الحالة يستحيل أن يحدث معها أي تلاقي في أي وقت ! إلا عند حدوث "التغيير" النفسي والشفاء من هذه الأمراض.
*   *   *
ومن هنا نجد المهمة العظيمة والشاقة والرائعة والعجيبة التي أداها وعاشها الأنبياء والرسل - عليهم صلوات الله وتسليماته - لقد كانت عقول وقلوب وأرواح الأنبياء والرسل.. تتسابق نحو السماء، في حالة من السمو الروحي، والتألق العقلي، والرؤية البعيدة الشاملة، والسعة القلبية التي تتفتح للكون كله.. وفي نفس الوقت واجهت سفالات قومهم، وعقولهم المتحجرة الضيقة، وقلوبهم الصلدة المظلمة، وأرواحهم المطموسة الميتة، وتصوراتهم الساذجة، وأحلامهم التافهة، وواقعهم المنحط، وموازينهم الباطلة !!
ولقد كان الطريق مفتوحاً للقوم للإيمان - فنعمة إرسال الرسل من أعظم نعم الله - ولكن رأها القوم تحدياً لهم، وكاشفة عن سفالاتهم، ووضاعتهم، وجهلهم.. فاعتبروا الرسل مجرد أناس مزعجة تكشف لهم عن حقيقة عوارهم !! فانطلقت نفوس القوم الظالمة لتدافع عن نفسها، لا لـ "تغير" نفسها !! وحنقت وحقدت على الرسل.. حتى حاربتهم وهمت بقتلهم!!
ووقع الصدام بين الرسل وأقوامهم.. فقال القوم عن رسلهم أنهم: كذبة، سحرة، جهلة، يقولون أساطير ! وأشياء عجيبة !! كان القوم يدافعون (في يقين) عن أنهم على الحق!!
كان هذا الدفاع ليس دفاعاً "عقلياً" يستند إلى الحجة والمنطق والدليل والتجربة والواقع.. إنما دفاعاً "نفسياً" يستند إلى الحيلة والهروب وعبودية الذات والأهواء والشهوات، وممارسة التسلط والربوبية على الناس، أو التلذذ والاستسلام لقهر المتسلطين والطغاة !!
ولكن الرسل لم يتركوا أقوامهم لسفالتهم ووضاعتهم.. بل استطاعوا - بتوفيق الله - أن يحققوا معادلة من أصعب المعادلات في الحياة وهي هذا التوازن العجيب.. بين الانطلاق نحو السماء سمواً وفكراً وروحاً وحياة.. دون أن يتركوا أقوامهم أو يفارقوهم أو يغفلوا عن (واقعهم) ولذا كان إرسال الرسل رحمة للقوم، وكان سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين.. وأدى رسالته على أكمل وجه، فصلى الله عليه وآله دائماً أبداً.
ومن هنا نجد أن (التكذيب) قد لا يكون لبطء العقول وحده، بل قد يكون العقل حكيماً، ولكن تعميه أمراض: كـ ( القومية، والمصلحة الشخصية الآنية، والعصبية والحمية الجاهلية، و"شهوة التملك" التي تفتك بالإنسان وتدمر طاقاته - عندما تطغى - وتحجبه عن رؤية كل شيء، مهما كان حكيماً عاقلاً ! وأمراض القلوب كـ: الغل والحقد والحسد والبغضاء... إلخ ) وهنا تقعد الأرواح، وتموت النفس، وتتورم الذات.. فلا ينفعها حكمة عقل، ولا توقد ذهن ! ومن هنا كان طريق المكذبين، والكافرين!
ونجد كذلك أن طريق النجاة لم يكن شرطاً فيه العقول النشطة، بقدر ما شرطاً فيه: طهارة النفوس، وطيبة القلوب، ورقة الأرواح، وانشراح الصدور، ونظافة الحس والشعور، حتى إذا جاءها الحق، أو نبهها إليه داعية.. استجابت، واستنارت، وأشرقت، وانطلقت تستجيب بعد حيرة، وتعمل بعد سكون، وتجاهد بعد قعود.
*   *   *
إنَّ علينا أن نسلك طريق الرسل ونحن ندعو الناس.. إننا قد نتحرك، ونمضي بعيداً، ونقطع صلتنا بمن نام، وغرق في التيه.. وعندما نخاطبه فإذا به يستفيق ليسأل من أنتم؟ وما الذي جاء بكم؟ وماذا تريدون؟ أنتم مؤامرة علينا؟ أنتم أعدائنا؟! وما هذه اللغة العجيبة التي تتكلمون بها؟! فتحدث فجوة فكرية، وروحية، ونفسية، وقيمية، بل ولغوية !!
وعلينا كذلك أن لا نربط خططنا ورؤيتنا وجهادنا بقرار استيقاظ الناس.. كــلا.. بل نخطط ونجاهد بأقصى قوة، وبكل سرعة ممكنة.. ولكن دون أن نترك "فجوة" نفسية وفكرية بيننا وبين الناس الذين يتأخر فهمهم وعملهم.. لأننا إذا تركناهم "تمدد" في هذه الفجوة "الأعداء" أو تحول الناس أنفسهم - الذين نريد إنقاذهم - إلى أعداء لنا ! ولربما نشطوا من كسلهم، ونفضوا الغبار عن كاهلهم.. لا يلحقوا بنا، وإنما لقتالنا !
علينا أن نظل نحافظ على "التوازن" بين الانطلاق في عالم الفكر والروح والجهاد والحياة.. وبين الاقتراب من واقع الناس - أياً كان هذا الواقع - وأفهامهم ولغتهم وشعورهم، والطَرق المستمر حتى يستيقظ الغافلين.. فهذه هي "سنة المرسلين".
*   *   *
ولقد كان يصيب الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - رغم سعة صدورهم، ورحمة قلوبهم.. كان يصيبهم "الضيق" و"الحسرة" و"الغضب" و"الأسى" و"الأسف" على قومهم، ولكن سرعان ما كانت تتبدد تلك المشاعر الفطرية الطبيعية، ويعود "الإصرار" و"الرحمة" و"الحرص" على البلاغ والبيان بكل حجة، ومن كل طريق !
ونجد أخيراً عَلمَ الهُدى محمد - صلى الله عليه وسلم - يجمع درجات الكامل الإنساني في: الدعوة بالرفق واللين والحرص على الإفهام والدعوة من كل طريق، وبين العقل والحكمة والدقة في سياسة الأمور، وبين العلم والإحاطة بما عليه الناس من فكر وشعور وتصور، وبين الجهاد والقتال بقوة وشدة في سبيل الله، لم يطغى اتجاه على آخر، ولم يتضخم شيء على حساب آخر.. بل اتبع أمر الله: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود : 112]

*   *   *