يحتوي هذا المقال على الآتي: [تعريف الأيديولوجيا، طريقة الفهم والنمو والتطور، الاستقطاب الأيديولوجي، الشخصية الأيديولوجية والغلو، الدعاية الأيديولوجية، خدمة الأيديولوجيا، تفكيك الأيديولوجيا، اختراق الأيديولوجيا، الصراع والاندماج بين الأيديولوجيات، تحويل الحق لأيديولوجيا، الضمير والأيديولوجيا، الصراع بين الحق والأيديولوجيا]
موضوعات المقال:
الصراع بين الحق والأيديولوجيا:
الأيديولوجيا: هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم والقيم المنتظمة داخل إطار أو نسق معين، وذات توجه خاص. تتشكل نتيجة ظروف اجتماعية أو سياسية أو ثقافية مُعينة، أو كرد فعل تجاه أيديولوجيا أخرى مُعادية، أو كرد فعل على أحداث مأساوية عنيفة، أو محاولة اتخاذ وضعية دفاعية تجاه فكر أو مذهب أو حدث ما؛ تتحول – بحسب إيمان أفرادها – إلى "مذهب وعقيدة ودين" يُشكل السلوك النفسي والفكري والروحي لأصحاب هذه الأيديولوجيا؛ مما يؤدي إلى "صلابة" هذه الأفكار بغض النظر عن صحتها أو أحقيتها أو عدالتها، ومن ثم يتكون "التعصب الفكري أو العصبية الجاهلية" أو بمعنى آخر "الحزبية الفكرية أو الفرقة الفكرية"، وهي التي تُحدد منهج النظر والتفكير والتفسير للأشياء بصورة ذاتية لا على صورتها الحقيقية، والتي تُشكل "منهج الدعوة" للأفراد البكر فكرياً.
فهم الأيديولوجيا:
محاولة فهم الأيديولوجيا تخضع – كغيرها – لأصول وقواعد الأمانة والبحث العلمي، وكذلك تخضع – كغيرها – لأصول الحكم الأمين، والتحري الدقيق في كل جزئية على حدا، ثم رؤيتها ضمن نسقها وإطارها العام كوحدة واحدة في النهاية، إلا أن أهم من يجب الانتباه إليه في فهم الأيديولوجيا هو حيثيات وظروف نشأتها.. فهي خير ما يوضح أسباب وظهور هذه الأيديولوجيا، ويكشف عن طبيعة تطورها، ومسارها التاريخي، وانعطافاتها الفكرية، أو تغيراتها البنيوية، وأوجه الحق، ومواطن الغلو، والتعسف، والباطل..
ومن ثم – في النهاية ـ بعد "البحث العلمي" و"الحكم الأمين" و"فهم تاريخ وظروف النشأة" يمكن أن يتشكل لدينا صورة شبه واضحة عن هذه الأيديولوجيا، ومدى وطبيعة تأثيرها، وردود أفعالها الحالية والمستقبلية، وهذا مما يمنع "الصدمة" العاطفية لدى من ينظر للأمور بطريقة غير علمية، ولا دقيقة.
نمو وتطور الأيديولوجيا:
لا تنشأ الأيديولوجيات بطريقة مفاجأة، بل تأخذ رحلة طويلة حتى تتبلور وتتشكل، وتصبح واضحة مكتملة النمو، فقد تتكون من مجرد فكرة يحركها بعض المُنظرين، ثم يأتي جيل حي من التلاميذ يوسع ويفجر معان جديدة؛ لتكوين وبلورة خصائص "الفرقة الفكرية" بحيث يجعلها مذهباً وطريقة، وليس مجرد أفكار متناثرة، أو عابرة، أو حتى مجرد فلسفة باردة، فخروج الأفكار إلى ميدان الفضاء الاجتماعي والسياسي في صورة "مجموعات فكرية" هو ما يشكل "الأيديولوجيا" وقد تبدأ الأفكار صغيرة، أو مجرد رد فعل، ثم تأخذ اتجاه الغلو والتطرف الفكري، والعنفوان الاجتماعي؛ محددة معالم الأيديولوجيا، بحيث يصبح المؤمن بها، يؤمن بمجموعة من القيم والأفكار والأخلاق التي لا تقبل التفكك أو الانتقاد، وتبقى الأيديولوجيا حية بقدر الدعاية المنظمة، وبقدر تحويلها إلى حراك سياسي وثقافي، وترجمة الأفكار إلى أعمال حية.. أي الانتقال من "فضاء العقل" إلى "فضاء الواقع".
الاستقطاب الأيديولوجي:
تعمل كل أيديولوجيا عن بناء مركز جذب لها.. "المكون الفكري والثقافي" للأيديولوجيا، وتعمل على تجميله، وتحسينه، وإضافة كل حسن إليه، ونفي كل قبيح عنه؛ ليكون هو المعتقد الذي لا صواب غيره، ومعاداة كل غيره.. وتعمل الدعاية على جذب الأتباع إليه، كتجاذب الفراش إلى النار – أو النور – وهذا الاستقطاب يمثل في لحظات الغلو، عامل انقسام داخل المجتمعات، وفي حالات أخرى ربما يؤدي إلى الحروب الأهلية.. ويقطع وسائل التواصل الروحي والفكري مع المخالفين، ويُصعّب من حصول التوافق والانسجام على المستوى الاجتماعي والسياسي.
وبقدر القدرة على إدارة الاختلافات، والمرونة الحركية تستطيع الأيديولوجيا أن تعيش وتستمر وتُقبل في عالم الواقع، فعالم العقل ـ حيث تنشأ الأيديولوجيات ـ هو عالم مثالي، ويُفترض أن يبقى كذلك، إلا أن الانتقال بهذه المثالية إلى واقع متغير متشابك متصارع، يضر بالأيديولوجيا، ويجعلها تُستنزف في معارك جانبية.. بينما المرونة والقدرة على تحقيق أكبر مكاسب للأيديولوجيا عن طريق رجالها المحنكين الفاهمين لواقعهم، وللآخرين غيرهم، هو أساس حياة أي أيديولوجيا.
الشخصية الأيديولوجية:
تتكون "الشخصية الأيديولوجية" وتُطبع بالسمات الفكرية والنفسية والعاطفية لطبيعة الأيديولوجيا، فينشأ "مجتمع الأيديولوجيا".. القادر على "تبرير" كل سلوكه الواقعي، والنفعي باسم "خدمة الأيديولوجيا" ومن ثم "الشرعية الأيديولوجية".. التي تُنشأ حالة "الكبْر" التي تتمثل في رد الحق الخارج عن إطار الأيديولوجيا، واحتقار غير المؤمنين بالنسق الكلي للأيديولوجيا.. الأمر الذي يُنشأ حالة من "العداء والبغضاء" مع المخالفين، قد تصل إلى الحرب والاقتتال في أحيان كثيرة.
ويصبح "الإيمان بمسلّمات هذه الأيديولوجيا" شرط الانتماء لمجتمعها، وأما الاختيار من بين منظومة أفكارها.. والتحقيق في مسلّماتها فهو علامة الكفر بالأيديولوجيا ـ فهي لا تقبل التجزئة ولا النقد ـ وهي من أهم عوامل "الطرد والحرمان" من المجتمع الأيديولوجي، فيجب – في نظرهم ـ الدوران مع النسق الأيديولوجي حيث دار. والتحليل والتحريم، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والولاء والبراء ينعقد للأيديولوجيا، وما يحقق خدماتها، أو خدمات بعض قياداتها!
وكلما كانت أفكار ومفاهيم الأيديولوجيا ضيقة، متحيزة، متعصبة.. كلما كانت الأيديولوجيا عنيفة، مُستبدة، متجبرة.. وكلما كانت أفكار ومفاهيم الأيديولوجيا واسعة، متنوعة، مخلصة، مندمجة مع غيرها.. كلما كانت الأيديولوجيا متسامحة، معتدلة، متطورة، ولكن يظل "التعصب والانتماء" من أهم معالم الأيديولوجيا أياً كان نوعها، ومن ثم ينشأ "الغباء المُقنع بالحكمة الأيديولوجية" ويكون "إغلاق العقل، واستحكام الغباء" أحد وسائل الدفاع عن الأيديولوجيا، حتى ولو كان صاحبها ذكياً..
ومن وسائل الدفاع أيضاً: اختراع ادعاءات لا وجود لها، والتغافل أو إنكار أو محاربة البحث العلمي الرصين، والتزام الأمانة العلمية في البحث والفهم والدراسة.. ذلك لأن الأيديولوجيا تُنشأ لصاحبها حالة نفسية من "الموافقة" على كل ما يؤيد الأيديولوجيا ولو كان باطلاً، وحالة من "الرفض" لكل ما يخالف الأيديولوجيا ولو كان حقاً.. الأمر الذي يؤدي إلى اختراع التبريرات الواهية، والادعاءات التي لا أصل لها.. من أجل الحفاظ على الأيديولوجيا من أي مخالفة أو نقد.
النسق الأيديولوجي والغلو:
ومن أعقد الأمور في المكون الأيديولوجي.. أنه إذا كان – على سبيل المثال ـ يتكون نسق أيديولوجي معين من ( التسامح، وممارسة الفواحش )، فإن قبول الآخر من غيرهم للتسامح، ورفضه للفواحش.. يجعلهم لا يتسامحون! مع من رضي بالتسامح ورفض الفواحش.. ذلك أن الأيديولوجيا ترفض هذا الاختيار وهذه التجزئة، بل يتحول تسامحهم إلى "إرهاب" المخالفين، بحجة الكفر بالأيديولوجيا التي تتحول إلى "دين متعصب"!
ويتحول رموز الأيديولوجيا إلى "أنبياء وقديسين" لا يأتيهم الباطل من بين يديهم ولا من خلفهم، وتتكون "الصنمية" تجاه رموز الأيديولوجيا.. ورغم صلابة أفكار الأيديولوجيا في طرحها والدعوة إليها وتعصب أفرادها، فإنها في الممارسة العملية تتحول – في بعض الأحيان ـ إلى "النفعية الذاتية" وإن كانت ضد مبادئ الأيديولوجيا من الناحية النظرية.
حياة وموت الأيديولوجيا:
تنشأ الأيديولوجيا عن طريق الأباء المؤسسين، الذين يؤسسون الفكرة الصلبة ونواتها.. ثم تأتي خطة الدعوة والدعاية، والانتشار والقبول المجتمعي، ثم حيازة القوة اللازمة لحماية الأيديولوجيا.. ثم الوصول إلى سدة الحكم، وخدمة الأيديولوجيا من خلال جميع قوى الدولة، وتموت الأيديولوجيا بغياب هذه الأسباب، من: ضرب الفكرة الصلبة للأيديولوجيا، وخطة دعاية مضادة، والعمل على منع انتشارها اجتماعياً وثقافياً، ونزع القوة والسلطة عن الأيديولوجيا، فتموت وتنتهي سياسياً ربما إلى غير رجعة.. ولكن بقاءها النظري يكون بقدر خدمتها، وقد تستطيع تجميع نفسها مرة أخرى وتكون أكثر غلواً وعنفاً.
الدعاية الأيديولوجية:
لأن الأيديولوجيا تُكوّن نسقها الخاص بها من الأفكار والموازين والقيم والتصورات، وتعتبرها وحدها هي الحق، ودونها الباطل، وهي محور الاجتماع، وأساس الانتساب، فإن أسلوب الدعاية للأيديولوجيا يكون على نسق الإيمان بها هي، لا البحث عن الحق المجرد.. ولذا فهي ليست حريصة على رفع مستوى الوعي لدى الشعوب، أو إبصارها بالحقائق مجردة، أو بحقوقها خالصة.. إنما يجب أن يمر كل ما هو (وعي أو حقائق أو حقوق) عبر قالب الأيديولوجيا، ومن خلال شعارها، وشاراتها، وراياتها، وإن اضطرت التخلي عن قالبها أو شعاراتها ـ في مرحلة ما ـ فمن أجل الحشد ضد الخصوم فقط، والخصومة ليست أيضاً في الباطل المجرد، بل في الباطل الذي ينافس الأيديولوجيا، أو حتى في الحق الذي ينافسها.
وإشكالية الدعاية الكبرى لجميع الأيديولوجيا والدعوات هو تعاملها مع الشعوب بـ "المنطق الطفولي الساذج"، فـ "العقل الجمعي" الشعبي هو عقل طفولي عاطفي، وبدلاً عن رفع مستواه، والإخلاص في ترقيته، وإفهامه.. فإنهم يستغلون هذه العاطفة والعقلية الطفولية في التلاعب بمشاعر الشعوب، واهتماماتها، وأفكارها؛ لتظهر في النهاية كالقطيع الأرعن الأهوج الذي يستجيب لكل ناعق، ويميل مع كل صائح، وحتى "الأيديولوجية الديمقراطية" التي تزعم "حكم الشعب" هي أكثر من يستغل ذلك الأسلوب.. فترى – على سبيل المثال – مجرد التعديل في صياغة خبر ما، أو خبر مكذوب تجده يقلب موازين التنافس الانتخابي بين المرشحين.. وبدلاً عن تعليم الشعوب كيفية النظر، والتحقيق، وأدوات الفهم، والحكم على الأشياء، وسبل التلاعب والخداع، وتصحيح القيم والموازين.. فإنهم ينفخون في أساليب الدجل، والكذب؛ لتظل الشعوب رهن دعايتهم، لا تتجاوز المنطق الطفولي العاطفي الساذج.
خدمة الأيديولوجيا:
حسب التكوين النفسي الفطري للأفراد المعتنقين لأي أيديولوجيا.. يكون طبيعة التعاطي معها، فمنهم من يتناولها بغلو وعنف، وهناك من يتناولها باعتدال ولين.. وهناك من يحاول توظيفها لمصلحته الشخصية بعيداً عن مبادئها..
وتأتي خدمة الأيديولوجيا حسب درجة الإيمان بها، فالتغذية المستمرة، والدعاية الممنهجة، والمكثفة والمستمرة تزيد من وطأة وثقل الأيديولوجيا على أصحابها، وتدفعهم إلى خدمتها خدمة مجانية مخلصة، ومستميتة، ومحاربة كل مخالف باسم "الإيمان الصادق" و"العزيمة القوية" حتى ولو كانت هذه الأيديولوجيا تضر بمصالحهم على المستوى الشخصي، لكنهم يتصورن أن التضحية من أجلها هو علامة صدق الإيمان، واستقامة المنهج، ولا يشغل بالهم أي تناقض أو غلو أو شطط فيما يطرحون، فهم في معركة مقدسة للدفاع عن الأيديولوجيا.
المعدن الطيب:
هناك – بطبيعة الخلقة البشرية – أشخاص ذوات أصول حسنة، ومعادن طيبة، وتربية مستقيمة، وسلوك محترم.. هؤلاء الأشخاص عندما يعتقدون أيديولوجيا ما.. فإنهم يضيفون إليها الشيء الكثير، وأهم شيء هو السمعة الحسنة، وكأنهم سفراء الأيديولوجيا.. فهؤلاء عندما يلبسون عباءة الأيديولوجيا على معادنهم الطيبة فإنهم يعطونها رونقاً خاصاً.. ومظهراً جميلاً، حتى ولو كانت هذه الأيديولوجيا تدعو إلى الفواحش، فإنهم باتزانهم وسمتهم يخففون من غلوها، أو كانت تدعو إلى العنف والشدة، فإنهم بدبلوماسيتهم يجملون شكلها.. ومثل هؤلاء لا يجب التعويل عليهم في فهم الأيديولوجيا.. بل يجب فهم جوهرها الفكري بعيداً عن سفراء المعادن الطيبة.
تفكيك الأيديولوجيا:
وعلى الناقد لأي أيديولوجيا أن لا يحاول أن ينظر إليها كوحدة واحدة، فبذلك إما يراها باطل مطلق، أو حق مطلق.. وهي ليست هذا، ولا ذاك.. فلذا يجب تفكيك كل أيديولوجيا، والنظر في كل وحدة فكرية من مكوناتها نظرة خاصة، والحكم على كل فكرة بشكل منفرد، ومحاولة تمييز الحق من الباطل في كل أيديولوجيا.. فلا تخلو أيديولوجيا من حق أو وجاهة فكرية معتبرة، ولكنها غالباً ما تستخدم هذا الحق، لتمرير باقي الباطل الموجود في النسق والإطار الأيديولوجي، وتُحسن توظيف هذا الحق بشكل جيد، وتعتبر من يحاول رد الباطل الموجود في الأيديولوجيا إلى أنه محاولة للهجوم على الحق، في محاولة تغبيش وتعمية؛ للدفاع عن الأيديولوجيا ككل مقدس.
ولكل أيديولوجيا سلم من الأولويات من الناحية الفكرية النظرية، ومن الناحية التطبيقية العملية.. وهذا ما يجعل الأيديولوجيا تختلف في أطروحتها وتطبيقها من جيل لآخر حسب ترتيب هذه الأولويات، ومحاولة مقارنة الماضي بالحاضر، أو الحاضر بالماضي.. يسبب إشكاليات في فهم الأيديولوجيا.
اختراق الأيديولوجيا:
حتى يتم اختراق أي أيديولوجيا يجب أن يتم أمرين:
الأول: فهم الأيديولوجيا بدقة.
والثاني: تفخيخها من الداخل وتغيير أولوياتها والتلاعب بقياداتها الميدانية.
ولفهم الأيديولوجيا هناك طريقين:
الأول: الطريق الأكاديمي النظري.
والثاني: طريق المعايشة والمخالطة الكاملة.
ويستهوي الطريق الأول الكثير من علماء الاجتماع، والباحثين وترى كثيراً منهم يستعملون قالب ثابت من مصطلحات معقدة، وتلبيس هذا القالب لكافة أنماط الأيديولوجيا، مع عمل استقصاء بعيد عن الواقع الحقيقي لأصحاب الأيديولوجيا؛ ليظهر البحث بصورة احترافية.
والطريق الآخر (طريق المعايشة والمخالطة الكاملة) وهو الطريق الذي تختاره وتسلكه كافة "أجهزة المخابرات" فهو السبيل الأنجع في فهم الأيديولوجيا فهماً حياً واقعياً بعيداً عن قوالب ثابتة أو مصطلحات معقدة شكلية فقط! ومن ثم كثيراً ما تنجح الأجهزة الاحترافية في استيعاب الأيديولوجيات وفهمها وتشربها أكثر من أصحابها، الأمر الذي يؤدي إلى قدرة هذه الأجهزة على تفخيخ الأيديولوجيات المعادية لها من الداخل، والتحكم فيها، واحتوائها، وتغيير أولوياتها، بل والوصول إلى المناصب القيادية فيها.
الصراع بين الأيديولوجيات:
باعتبار كل أيديولوجيا نفسها "حق مطلق" لا يقبل النقد والتجزئة، وتحويله إلى "دين متعصب" لا بد وأن يسبب الصراع بين الأيديولوجيات الأخرى المختلفة، والتي تزعم لنفسها هي الأخرى "الحق المطلق"، ومن ثم يحصل التصارع والتقاتل بين هذه الأيديولوجيات، ربما حتى ولو كانت تستقي من معين واحد، أو تزعم حمل نفس الأهداف العامة من تحقيق الحق والعدل!
وغالباً ما تفشل الأيديولوجيات في "إدارة الخلافات" مع الآخرين، إلا في حالة "النفعية الذاتية" و"المصلحة الوقتية".
الاندماج بين الأيديولوجيات:
في بعض الأحيان النادرة يحصل اندماج بين الأيديولوجيات.. نتيجة ظروف قاهرة معينة، أو نتيجة تسامح بعض الأفراد مع النسق الأيديولوجي المغاير، فيتم عملية توليف بين أيديولوجيتين مختلفتين؛ لتخرج أيديولوجيا جديدة مهجنة تحمل جينات مختلطة، وهذه الأيديولوجيا تخضع أيضاً لعوامل البقاء من: وجود الأباء المؤسسيين ونواة الفكرة الصلبة، والدعاية والانتشار الاجتماعي، والقوة اللازمة للحماية.. والأيديولوجيات الهجينة سريعة التكيف، ومرنة، وقادرة على أن تكون أكثر اعتدالاً.
الخروج من الأيديولوجيا:
يعتبر الخروج من الأيديولوجيا مسألة شديد التعقيد لدى كثير من المعتنقين لأي "أيديولوجيا" خاصة إذا صاحب ذلك: الغلو، والانغلاق، وسطحية المعرفة، والاعتداد بالذات، والكسل الفكري، وفقدان أسلوب النقد، والكبْر... إلخ، وهي سمات عامة لجماهير "الأيديولوجيا" وأي محاولة نقد أو تحليل للأيديولوجيا، فهو في عرف أصحابها: "هرطقة، وزندقة، وردة" وخروج من الدين الصحيح!
والمحاولات الناجحة في الخروج من "سجن الأيديولوجيا" تكون لأصحاب العقول اللامعة، والفكر الباحث عن الحق بتجرد، وهؤلاء إما أن يصلوا إلى "خط الاعتدال والاتزان"، أو ينقلبوا إلى أيديولوجيا معاكسة كحالة انتقام من الانخداع في أيديولوجيتهم القديمة.
تحويل الحق لأيديولوجيا:
الحق يبقى حقاً.. له قوته وبريقه وبقاءه، ولا يحتاج إلى "فرقة فكرية" ولا إلى "تعصب فكري" فهو الحق.
يحاول بعض الأيديولوجيين تحويل هذا الحق البسيط الواضح إلى أيديولوجيا، ليصبح أهل الحق مجرد "فرقة فكرية متعصبة"؛ لمحاولة فصلها عن المجتمع، وعن الرسالة العامة للحق..
مثلما فعل "الدروانيون"، والدروانية التي نعنيها ليست هي جماعة علمية تناقش قضايا علوم تجريبية، إنما نقصد جماعة إلحادية، تجمع بعض التخرّصات والأوهام؛ لتثبت إيمانها السابق بعدم وجود الخالق، هذه الفرقة الفكرية المتعصبة – التي تنكر الحقائق العلمية، ومن قبل تنكر ذاتها – تريد أن تسمي من يؤمن بوجود الخالق بـ "الخلقيين"! لماذا؟
ليكون هناك فرقتين متساويتين "الدروانية" التي تزعم لنفسها العلم والفهم والحكمة، و"الخلقيين" الجهلاء البسطاء الذين لا يعلمون شيئاً.. بينما لا يوجد فرقة الخلقيين هذه إلا في أوهام الدروانيين، فالبشرية منذ فجر التاريخ تؤمن بوجود الخالق، وليس هذا محل النزاع، إنما أمر الرسالات يدور حول إخلاص العبودية لهذا الخالق، وعبادته حق العبادة.
فمشكلة تحويل الحق لأيديولوجيا؛ لجعله "حزباً فكرياً" يتسم كغيره بمجموعة من السمات، ولا مانع بإضافة بعض السلبيات عليه؛ ليصبح مجرد أيديولوجيا، وفرقة تحتمل الخطأ والصواب، فتضيع معالم الحق، ولهذا يجب أن يظل الحق بعيداً عن التحزب والعصبية، والاستمساك به بقوة.
ويأتي الحق مصحوباً بـ "الصبر" "والصدق والأمانة"، الصبر: على مقتضيات الحق من: تجرد، وعدم محاباة، وانتفاء المصلحة الخاصة، والصدق: في تبليغه، والأمانة في تناوله..
أما الأيديولوجيا فتأتي مصحوبة بـ "الهوى" و"التعصب" الهوى: في تناول الأيديولوجيا فعرضها كأنها خالية من كل عيب، جامعة لكل خير، والتعصب: في تناولها وعرضها، وابتداء البغي على المخالفين لها.
الضمير والأيديولوجيا:
تستبد الأيديولوجيا بفكر أصحابها، وضمائرهم.. وتبدأ عملية تطويع "الضمير والعقل" لصالح الأيديولوجيا، وللأيديولوجيا فقط، وتقلب الموازين الواضحة إلى ما يخدم الأيديولوجيا فقط، فيتم تصوير قتل الشعوب البريئة المغلوبة على أمرها بأنه "نشر الحرية أو الحفاظ على الدولة"، وسرقة ثرواتهم وأقواتهم بأنه "السوق الحر"، والسيطرة على الموارد والمقدرات، وغرق الدولة في الفساد بأنه "العمل الوطني الشريف"؛ فيموت الضمير، ويَتطبع بطابع الأيديولوجيا، ويُسوّغ العقل كل جريمة باسم الدفاع عن الأيديولوجيا، مثلما فعل الأوربيون في إبادتهم الجماعية للهنود الحمر، ومثلما فعل البيض في محاولة إبادتهم للسود، ومثلما فعل الاستعمار في البلدان المُستَعمرة، ومثلما فعل الطغاة في الحروب العالمية.. فلا يقل أحد منهم إنه مجرم طاغية، ولكنه يُصور نفسه مدافعاً عن "الأيديولوجيا" حتى ولو كانت هذه الأيديولوجيا سخيفة منحطة.. كمثل الذي يتصور أن لون العينين والشعر والجلد يجعله متفوقاً على الجنس البشري، ويسمح له بممارسة الإبادة والاستعباد لجميع البشر.
الصراع بين الحق والأيديولوجيا:
البديل عن الأيديولوجيا هو الرسالة.. الرسالة التي تخاطب كل الناس، ولا يكون لها خط نفسي خاص لأفرادها، بل رسالة تخاطب النفس الإنسانية كلها.. بمختلف اتجاهاتها وأحوالها.. ولا بد لهذه الرسالة أن تكون من الله عن طريق الوحي الذي يحمل "الحق المطلق" الذي تبلّغه الأنبياء.. ورابط هذه الرسالة هو "الأخوة" في الرسالة، وفي الإنسانية، وفي المصير، الأخوة التي تتسع للجميع، على عكس النسق الأيديولوجي الذي يشترط سمات معينة لانضمام الأفراد إليه..
وعند الدعوة إلى الأيديولوجيا بدلاً عن الحق.. يزهد الناس في "الحق المجرد"! فتريده مخلوطاً بالذات، أو الحزب، أو القوم، أو العشيرة، أو اللغة.
والرسالة تحتاج إلى نفس وسائل البقاء، من: حماية نواة الأفكار الصلبة والأساسية لها، ومن الدعوة والانتشار الاجتماعي، ومن القوة اللازمة لحمايتها، والدفاع عنها، ومقاومة أعداءها.
و"الرسالة الإسلامية" تحمل الحق المطلق المحفوظ بكتاب الله، لذا فهي – بإذن الله – لا تموت، وهي باقية إلى قيام الساعة، وكل من حاول تحويل هذه الرسالة الربانية إلى "أيديولوجيا" – وفرق فكرية متعصبة – هو من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً، كل حزبٍ بما لديهم فرحون، ولا يعني هذا عدم "العمل الجماعي المنظم" فالعمل الجماعي يمكن أن يتم لخدمة الرسالة ـ ولا يتم خدمة الرسالة إلا من خلال عمل منظم، وقوة منظمة ـ ولكن الحديث عن "البوصلة" التي توجه الطاقات، وتُحدد الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، وتُحدد اتجاهات الولاء والبراء، والأولويات.. هل هي "الرسالة" أم "الأيديولوجيا"؟ هل الدعوة حقاً إلى الله؟ أم إلى الذات أو الحزب أو الجماعة؟
ولما وقع التفرّق على الرسالة الربانية.. أصبحت الأيديولوجيات المنبثقة عنها، والتي تزعم لنفسها أنها وحدها هي التي تحقق الرسالة.. أصبحت هذه الأيديولوجيات "مُختزِلة" و"معرقلة" و"منافسة" و"صادة" عن سبيل الرسالة؛ فأضحت تحارب الرسالة نفسها، رغم زعم الانتماء لها! لأن كل أيديولوجية – خاصة المنبثقة عن الرسالة الربانية – تحمل جزءاً من الحق، وتنغلق عليه وتتعصب له، وتحارب الأيديولوجيات الأخرى التي تحمل بطبيعة الحال جزءاً آخر من الحق، ومن ثم يتفتت الحق الذي في الرسالة، ويتم ضرب بعضه ببعض، وفي النهاية تتكون حالة "كراهية الحق"، والانتصار للذات لا لله سبحانه وتعالى.. كمثل أيديولوجيات بعض الحركات الإسلامية المعاصرة، والفرق المذهبية الفلسفية قديماً.
ولذا كانت وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي: الدوران مع الكتاب حيث دار، الكتاب الذي يمثل طبيعة ومنهج الرسالة.. فهذا هو الهادي إلى سواء السبيل بإذن الله.
***
ملاحظة:
الأمثلة المذكورة
في المقال، إنما هي فقط للتوضيح، فالمقال يشرح القواسم المشتركة بين جميع
الأيديولوجيات، والأمثلة فقط لتقريب المعنى، وليست للحصر.