جلوس أمريكا مع "حركة طالبان" على طاولة المفاوضات.. هو لا شك انتصار للحركة على المستوى السياسي، وعلى المستوى العسكري، وقبل المضي في مقالنا هذا، نحب أن نؤكد على أمرين:
الأول: إنني لا أعرف الوضع على الأرض في أفغانستان (تحليل البيئة) السياسية والعسكرية، ولا أعرف موازين القوى، ومدى سيطرة الحركة فكرياً وعسكرياً على الأرض.
الثاني: إنني لا أعرف ما هي بنود هذه الاتفاقية، وشروطها، وأبعادها.
ونقول ذلك حتى لا نتعجل في تقييم وضع نجهله، فنُفرط في التفاؤل، أو نُفرط في العجز والاستضعاف، وما أذكره من رأي هنا لعله حصيلة معلومات عامة سابقة، وأما المعلومات الدقيقة التفصيلية، فهذه تُجمع على الأرض، وتُحلل عبر خبراء، ويقوم عليها مراكز أبحاث، وهذا من باب احترام العلم، والتواضع للمعرفة.
***
نقول أولاً: إن سقوط إمارة طالبان ـ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ـ يُعتبر (من الناحية السياسية) فشل للحركة، وسوء تقدير لمواقفها، وحساباتها، أياً كانت النية الطيبة، والمواقف البطولية التي تبنتها الحركة، ولكن يجب أن ندرك أن اتخاذ مواقف أكبر من حجمك السياسي والعسكري هو لا شك خطأ يجب تلافيه، واستدراكه، ولا يعني هذا التخلي عن المبادئ الأخلاقية، ولكن يعني أن "الحركة السياسية" إنما تكون في (محيط سيطرتك) أو أبعد منه بقليل، وأما "المبادئ الأخلاقية والإسلامية" فلا تعرف الحدود.
ونقول ثانياً: إن تماسك الحركة بعد سقوط الإمارة، ومجيء الاحتلال الأمريكي البغيض؛ لهو نجاح عظيم، ودرس يُعلم للأجيال، ومثال للصمود، والقدرة على مواجهة الأعداء، ولعلنا إذا نظرنا في أسباب ذلك النجاح، نجد:
(1) إن العُصبة القبلية والدينية للحركة كان لها الدور البارز في هذا التماسك، فبدون هذه العصبة ينفرط عقد الناس، ويسهل اختراقهم اجتماعياً وفكرياً، ولكن هذا التماسك جعلها تصمد طيلة سنوات الحرب.
(2) إن للحركة رصيد سياسي ـ وإن كان ضعيفاً ـ فلها شعبية سياسية قبل الغزو الأمريكي، وصاحبة حق أصيل أراد عدو أجنبي أن يَستلبه منهم، فمن ثم لها رصيد من شرعية سياسية وأخلاقية.
(3) إن الحركة تحارب على أرضها.. على أرض حررتها من قبل من الاحتلال السوفيتي، وهي الآن تحررها من محتل أمريكي، ومن ثم فهي صاحبة الأرض، وصاحبة الشرعية.
(4) إن الحركة ليست غريبة عن بيئتها، ولا مجتمعها، فهي مُكون أصيل فيه، وهي لم تحمل مشروع تغيير ينفر الناس منه، ولا اجتهادات فقهية ضد معتقدات الناس، بمعنى أنه ليس لديها "خطة أيديولوجية" تريد بها تغيير مذاهب الناس الدينية.
(5) إن الحركة لم تخرج خارج حدود الإمارة ـ حدود الدولة الحالية ـ فلم تنفذ عمليات في دول الجوار، أو في دول أخرى، فهي ملتزمة "بحدود" معركتها، ضمن قدراتها.
(6) مصداقية الحركة، وجهازها الإعلامي ـ وإن كان محدوداً فيما يبدو ـ فتصريحاتها محل مصداقية واحترام في الداخل والخارج، وتسارع في تبني عملياتها العسكرية، أو نفي ما لا يخصها.
(7) نأت الحركة بنفسها ـ ومن حسن توفيق الله لها ـ عن التورط في عمليات قتل للمدنيين، أو قتل للمذاهب المخالفة، أو القتل العشوائي، وركزت على الخصوم العسكريين (المحتل أو التابعين له).
(8) لم تتبنَ الحركة التغييرات العنيفة الحادة مع شعبها، ولا فصلته عنها، ولم تجعل من نفسها مصدر تهديد لجيرانها، وهذا درس بليغ، فكل ما تريده من الناس في الداخل هو مسالمتها، وعدم رفع السلاح عليها، وتعاملت مع الواقع الإداري والتنظيمي كما هو، واستعانت ـ بعد الله ـ بأهل كل مقاطعة، ليُديروا شأنها فهم أهل البلد، وتعاملت مع قضية الحدود بحكمة وروية وبمنطق الدولة ذات السيادة التي تريد من الآخرين احترامها كذلك، فلم تتجاوز حدودها بضع أمتار لتُعلن ولاية خلافة جديدة! ـ كما فعل السفهاء من قبل ـ فالنجاح السياسي (داخلياً وخارجياً)، لا يقل أهمية عن النجاح القتالي.
ولذلك نجد فشل "تنظيم القاعدة" لأنه كان فقيراً من هذه المقومات، فقد اتخذ مجال "المقاومة العالمية"! دون إدراك لحجم قدراته السياسية، والعسكرية.. وطبيعة المعركة التي يخوضها، واتجه إلى دولة عظمى عالمية يريد إسقاطها عبر "عمليات تفجير"! واعتبر – بشكل تعسفي لا معنى له – أن سقوط أمريكا يعني تحرر البلاد الإسلامية من طُغاتها!
ولعلنا نذكر أن هذه النقطة تحديداً كانت محل خلاف كبير بين "تنظيم الجهاد المصري"، و"تنظيم القاعدة"، انتهى إلى تبني بعض قادة تنظيم الجهاد لاختيار القاعدة.
***
ليس هناك حرب بلا نهاية، وكل حرب تنتهي إلى "حلول سياسية"، أو بمعنى أدق ترجمة ثمرة الانتصار إلى "واقع سياسي" جديد، وهذا معناه أن الجهاد لا بد أن يكون بشرعية شعبية وسياسية، وضمن حدود جغرافية مُعينة، ومستعد لمرحلة "ما بعد القتال".
ولقد أخذ الغلاة الجُهال على "حركة طالبان" أنها تقاتل ضمن حدودها، ووصموها بـ "الحركة الوطنية" وتكفيرها بشكل صريح، واستباحة دمائها وحربها، وتقديم قتالها على قتال المحتل! وهذه سنة الخوارج المجرمون، أصحاب القتال العبثي الفوضوي الغارق في الهواجس والهلاوس التكفيرية.
كذلك الجلوس للتفاوض مع المحتل الأجنبي ـ أو غيره ـ ليس جريمة بحد ذاته، بل هو تطور طبيعي لمسار الحرب، ولعل الغلاة أيضاً يعتبرون هذا الفعل زيادة في الكفر! بجهلهم وكِبرهم..
ولكن الذي بحاجة إلى تدقيق نظر هو على أي شيء يتم التفاوض، ويجب أولاً أن نعرف أنه لا يمكنك التفاوض إلا وأنت تحمل سلاحك، وتحقق انتصارات على الأرض ـ وأنت تتفاوض ـ فعلى قدر "قوتك" يحترمك عدوك، وعلى قدر جهادك الحق يكون نصيبك.
وإن الحركة تخسر في هذا التفاوض إذا:
(1) أرادوا منها تسليم سلاحها، وإدخالها ضمن "اللعبة السياسية".
(2) إن اختلفوا ـ لا قدر الله ـ على ثمرة الجهاد، فكم من يصبر على "بلاء الشدة" ولا يصبر على "بلاء الرخاء".
(3) إذا ادخلوها ضمن حكومة تحت سيطرة المحتل؛ لخلخلة صفوفهم وخلق الرخاوة والترف بينهم؛ فيَلين أمرهم.
(4) إذا تركوها وحدها لمشكلات "ما بعد الحرب والاحتلال"، دون أن يكون لها القدرة على إدارة الثروة والدولة بشكل كامل.
ونسأل اللهم لهم الهداية والتوفيق والرشاد.. والخلاص والتحرير لكل بلادنا.
***
وأخيراً: مع بداية حركة طالبان وانتصارها على السوفييت، والآن وبعد انتصارها الأولي على الأمريكان، تحدث البعض عن "الرايات السود" و"المهدي"... إلخ، ونؤكد على أن هذه الطريقة في التفكير كارثة على المسلمين، وانتحار للفكر السياسي الراشد، ويجب على المسلمين قطع الصلة تماماً بهذه الطريقة في التفكير، والمضي على "سنن الله" في قيام الدول، وفي تحقيق التغيير، بعيداً عن هذه الأمور التي تُصور للمسلمين أن هناك "طريقة سحرية غامضة الأسباب" ستأتي في اللحظة الموعودة لتحقق لهم أحلامهم، وتحرر بلادهم.. بصورة حتمية كونية!
وإن "سنن الله" لا تحابي أحداً، وإن جيش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هُزم في أحد، لما أتى أسباب الهزيمة، ووصف القرآن بعضه بـ (الفشل، والتنازع في الأمر، والعصيان، وحب الدنيا) وكانت هذه هي أسباب الفشل، وعليهم أن لا يأتوها مرة ثانية، هذا وقد اتخذ الله منهم الشهداء، وهم مع الهزيمة الأعلى بإيمانهم بالله..
هذه هي طريقة القرآن، ومنهج القرآن، وهذا هو الحقيق أن يكون عليه فكرنا، وحركتنا..
اللهم اهدنا صراطك المستقيم.