عَمِل المُحَدِثون على وضع درجات لرواة الأحاديث؛ لضبط الحديث النبوي الشريف، وكان لهم تقسيم دقيق من "الحافظ الثقة الحُجة" إلى "المتهم بالوضع والوضّاع" لاختبار سلسلة الرواة بصورة سليمة..
ونستلهم من هذا العمل فكرة وضع مقياس للعلماء؛ لاختبار مدى أهليتهم في توجيه الأمة، وكيفية معرفة مصداقيتهم، لا سيما مع كثرة الفتن، وتناقض الأقوال، والتخبط بينها، والحيرة في اتباع أي منها..
وهدف هذا المقال كذلك تربوياً؛ ليكون المسلم ربانياً، ويحذر الأفكار والأحوال التي تُضل عن سبيل الله.
وقبل وضع هذه الدرجات نقول قاعدة عامة في قضية العلماء:
إن كفتي الميزان الذي نقيس به أقوال العلماء هما: (الرحمة)، و(القسط) فهما قوام الرسالة الإسلامية كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء (107)]. وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد (25)].
فالقول الذي يحمل (الرحمة والقسط) هو – بإذن الله – القول الحق، والذي يفتقر إلى ذلك، ففيه دخن أو دغل.
وينقسم العلماء إلى قسمين: الأول: أهل الحق. والثاني: أهل الباطل.
القسم الأول: أهل الحق
ودرجات العلماء فيه: الأول: العالِم الرباني. والثاني: المُتعلم الرباني.
المستوى الأول: العالِم الرباني
والعالِم الرباني: أي الإمام الذي يقوم بكتاب الله، من أجل رضى الله، وقد وصف الله سبحانه وتعالى العلماء الربانيين في كتابه بعدة أوصاف منها:
- البلاغ التام خالصاً لله وحده. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب (39)].
- الاستقامة بلا طغيان. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود (112)].
- عدم نصرة الظالمين، ومعاونتهم، فلا يَرضون بالباطل، ولا يُتابعون عليه. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هود (113)]. والحديث الشريف: "سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا يَفْعَلُونَ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَنْ يَرِدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ " [مسند أحمد]، "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ..." [صحيح مسلم].
-
الكفر بالطاغوت، واجتناب سبل الغي. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ
لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة (256)]. وهو واجب على
كل مسلم.. وفي الإمام الرباني أوجب وأظهر وأحق، فيقول كلمة الحق عند سلطان جائر،
ويشهد بحياته لكلمة الحق، فلا يَأخذ بالرخصة، بل يمضي في عزيمة وتوكل لبيان
الحق. كما جاء في الحديث الشريف: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ
كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" [سنن أبي داود]
"سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ،
فَقَتَلَهُ" [المستدرك على الصحيحين]
- الالتزام بالمنهج الدقيق الصارم في الدعوة إلى الله.. والحذر من
"الأماني" التي يُلقيها الشيطان، كنصرة الدعوة بالوسائل الخسيسة، أو
المنحرفة، أو الباطلة.. ويتجنبون فتنة الانتصار السريع للدعوات بوسائل باطلة، أو
رغبة الانتصار على أيديهم! فلا ينحرفون عن المنهج، ولا يحيدون – ولو قليلاً – عن
الطريق.. لا يعرفون مصلحة إلا مصلحة رسالة الإسلام وبلاغها وبيانها، ولا هدف لهم
إلا نُصرة أمة الإسلام، ويضحون بأنفسهم في سبيل الإسلام، لا أن يضحوا بالإسلام في سبيل
أنفسهم.. قلوبهم سليمة لله، نَدية بذكر الله. كما جاء في الآية الكريمة:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا
تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [الحج
(52، 53)].
- كراهية الباطل، والبراءة منه. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة (4)].
- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. (أخلاقياً، وسياسياً، واجتماعياً). كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران (104)]. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران (114)].
- لا يخافون في الله لومة لائم. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة (54)].
- الخشية من الله. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر (28)].
- الوجل والتقوى وهم في حالة التسابق بالخيرات. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون (60، 61)].
- الدعوة إلى الله وحده، والعمل الصالح. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصّلت (33)].
- لا يَسألون الناس أجرا. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس (21)].
- يَنهون عن الفساد في الأرض، وهم القلة الباقية. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود (116)].
- الاهتمام بالقضايا المصيرية. كما جاء في الحديث الشريف: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا" [مسند الشهاب]
- الإخلاص لله، والعدل مع الجميع. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة (8)].
- يَدورون مع الكتاب حيث دار. كما جاء في الحديث الشريف: "أَلَا وَإِنَّ رَحَى الْإِيمَانِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ يَدُورُ، أَلَا وَإِنَّ السُّلْطَانَ وَالْكِتَابَ سَيَفْتَرِقَانِ، فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ". [المعجم الكبير للطبراني]
- التواضع للعلم والحديث عن معرفة. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء (36)]. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان (73)].
- يتواضعون للحق، ولا يزدرون الناس. كما جاء في الحديث الشريف: "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ". [صحيح مسلم]
- العلم المبني على الحركة الواقعية. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة (122)].
- لا يشهدون الزور. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان (72)].
- الدعوة على بصيرة بالأحوال (النفسية والاجتماعية والسياسية). فهي دعوة ببصيرة نافذة في القلوب وفي واقع الحياة.. تَهدي إلى الطيب من القول، وإلى سبيل الرشد. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف (108)]. ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج (24)].
- استبانة سبل المجرمين. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام (55)].
-
اليقظة والحذر، وذكر الله الدائم (نية وقولاً وعملاً) المُنجي من التلاعب بكتاب
الله، أو تلاعب الدجاجلة بالدعاة إلى الله. كما جاء في الآية الكريمة:
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف
(205)].
- الإنصاف، وقول الحق ولو على أنفسهم دون أي اعتبار سوى رضى الله.
كما جاء في الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ
بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء (135)].
- التزام الكلمة الجامعة، وعدم التفرق في الدين. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى (13)]. ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام (159)].
وهؤلاء العلماء الربانيون، هم أئمة الهدى بهم تسعد الأمم، ويعلو الدين، وينتصر الحق.
والمستوى الثاني: المُتعلم الرباني
وهو
على نفس الصفات السابقة من حيث النية والقصد والخُلق.. لكنه لم يصل بعد في العلم
إلى مستوى الإمامة، وحري بكل مسلم أن يكون كذلك، أو كما قيل: "مُتعلم على
سبيل نجاة".
وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله ورسوله.. فهم
"الصديقون" الذين صدقوا الله ورسوله وكتابه، و"الشهداء"
بأرواحهم وأنفسهم على أن الله تعالى أغلى لديهم من كل شيء، و"الصالحون"
الذين صلحت نيتهم وعملهم لله جل جلاله. كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء (69)].
والإمام الرباني، والمتعلم الرباني تكون مخرجاتهم "أمة راشدة ربانية"، وإذ لم تُوجد هذه الأمة، فهناك خلل ما، يجب البحث فيه عن الأسباب، هل الإمام حقاً ربانياً قائماً بالكتاب؟ ويجب أن نفتش دوماً فيمن يتولى زمام القيادة الفكرية والروحية للأمة، ويملك عملية التأثير والتوجيه عليها، لأن الأمة – والأمم عموماً – هي أمة استجابة، فإذا كانت دعوة حق، لا بد وأن تُثمر حقاً، وإن كانت دعوة خبيثة، فالذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
والإمام الرباني: ليس هو بمعصوم، بل يخطئ، ولكن رجوعه عن الخطأ، وتواضعه للحق هو أحد أهم الأدلة على إمامته.. بل والخطأ فتنة له؛ ليُعرف هل يستكبر عن الاعتراف بالخطأ، ويخشى الناس! أم لا يرى إلا الله، ولا يخشى إلا الله؟
بل وقد يبقى الإمام الرباني على خطئِه ليس كبراً وعناداً – وإنما جاهلاً أو ناسياً أو التباس أمر عليه أو غير ذلك من الأسباب الطبيعية للبشر – ليكون خطئه هذا فتنة أيضاً، ليُعرف هل يُتابع الإمام على خطئه؟ أم يَتبع الناس على بصيرة من أمرهم؟ هل يدورون مع الإمام – ولو كان ربانياً – أم يدورون مع الحق؟ وفي ذلك حكمة بالغة توضح الهدف الرئيسي من وجودنا في هذه الحياة الدنيا؛ ليَتبين أينا أحسن عملا.
والإمام الرباني: ليس بشهرته بين الناس، بل قد يكون قليل الذكر – في عصره أو مُتهم من الدجاجلة – قليل النصير، ليكون ذلك فتنة له أيضاً؛ ليُعرف هل يحزن لقلة الأتباع، وخفض الذكر؟ أم يمضي إلى مرضاة سيد واحد هو الله جل جلاله؟
والإمام الرباني: قد يُفتتن برفع الذكر في حياته، ليُعرف هل يتبع الحق مجرداً، أم يمضي مع هوى الأتباع ويفتتن بكثرتهم؟
والإمام الرباني: قد يُفتتن برشوة الطغاة والطواغيت، ليُعرف هل يسقط أمام عطائهم؟ أم يشهد بالحق الذي هو أغلى من حياته؟
والإمام الرباني: قد يُفتتن ببطش الطغاة والطواغيت؛ ليُعرف هل يسقط أمام بطشهم؟ أم لا يخشى أحداً إلا الله؟
وأمام هذه الابتلاءات كلها، والتي تطرد الخبث عن الروح؛ يخرج العالم الرباني، ويُعلم بين الناس.
***
القسم الثاني: أهل الباطل
ودركات العلماء فيه كثيرة:
المستوى الأول: إمام جاهل.
المستوى الثاني: إمام سفيه.
المستوى الثالث: إمام علماني.
المستوى الرابع: إمام مُضل.
المستوى الأخير: إمام دجال.
ومن الطبيعي أن يكون دركات العلماء في الباطل كثيرة، ومتنوعة.. بينما درجات العلماء في الحق واحدة، والله يُضاعف لمن يشاء، ويُفضل من يشاء.
ومخرجات هذا القسم "غثاء سيل ضائع" فإذا كان غير ذلك، فهناك خلل ما في التوصيف إما على مستوى العلماء، أو على مستوى الأمة، يجب البحث فيه، فثمرة الحق لا تُخرج إلا طيباً، وثمرة الباطل لا تُخرج إلا خبيثاً.
المستوى الأول: الإمام الجاهل
وهو أهونهم؛ لأنه قد يُعذر بجهله، لكن خطره على الأمة كبير.. لأنه يتقلد منصباً للتوجيه والتأثير، وقد يكون – في الغالب – حسن النية والقصد، ولكن نتيجة لعملية تربيته وإخراجه للناس، تَعرض لأفكار إما محدودة أو باطلة، لم ينتبه إليها، ولم يُنبهه أحد إليها، فمضى بحسن النية على جهله هذا، ويضم هذا المستوى أنواع أخرى مثل:
- العالم المتعصب: وهو الذي يتعصب لمذهب أو جماعة أو طائفة، ويكون تعصبه أحد الوسائل التي تعميه عن الحق، ولكن معرفة موطن التعصب؛ تُخفف من حدة خطورته إذ يمكن تجاهل موضوعات التعصب، والاستفادة منه في العلوم الأخرى.
- العالم الجبان: وهو العالم الذي يَجبن عن قول الحق خوفاً على نفسه، (خاصة في المواقف السياسية)، ويكون جبنه هذا فتنة للناس، لا سيما إذا صاحبه "تبرير للموقف"! ولكن معرفة موطن الجبن، والتغافل عنه، تخفف من حدة خطورته، ويمكن الاستفادة منه أيضاً في العلوم الأخرى، لكن المشكلة أن يكون الجُبن موقفاً عاماً، وخُلقاً يُعلّمه للناس ويربيهم عليه، ويكون للناس قدوة فيه!
- العالم المُستسلم: وهو العالم الذي يستسلم للأمر الواقع، ولا يُبدي أي انزعاج نحوه، ويتجاهل ويتغافل عن المنكر السياسي والاجتماعي الذي هو فيه.. ويشعر بقلة الحيلة، والعجز أمامه! فيشيع اليأس، والإحباط بين الناس، ويمكن الاستفادة من علمه إذا حيّد الناس موقفه المستسلم هذا، ولكنه أيضاً كالعالم الجبان والجاهل والمتعصب.. مشكلتهم أن يتخذهم الناس قدوة في مواطن الضعف، والخطأ، والجهل!!
- العالم المُستَغفل: وهو العالم الذي يُستغفل من قِبل الطغاة لشهرته أو شعبيته؛ لتخدير الناس عن قضاياها المصيرية، وإشغالهم بمعارك تافهة، ولا يمكن أن يَستغفله الطغاة إلا أن يكون هو نفسه من الغافلين، ولديه مقومات وعوامل الاستغفال، فليس لديه من "حصانة" البصيرة، والإخلاص لله؛ فيُستخدم لخدمة الباطل.
وهذا الصنف جميعه قد يُفتتن ببعض المواقف، فإما أن يتحول إلى "مُتعلم رباني"، ويمضي في طريق العلم الجديد على صراط الله المستقيم، وإما أن ينتقل إلى المستوى الثاني.
المستوى الثاني: الإمام السفيه
وهو الإمام الذي يَستكبر عن التواضع للحق، ويفتتن بسابق علمه، ومكانته، ويحسب أنه قد بلغ من العلم مبلغاً لا يسمح لأحد أن يعترض عليه، أو يُبين خطأه فيَسفه نفسه! ويفتن غيره..
وهذا الإمام يكون ضالعاً في فرع من فروع العلم، ولكنه يَغفل أو يتغافل عن باقي قضايا الدين، وقضايا الأمة المصيرية، وعندما يُفتتن ببعض القضايا والأمور، إما أن يعترف بجهله، ويحاول أن ينتقل إلى مستوى "متعلم رباني" أو يهبط إلى المستوى الثالث.
المستوى الثالث: الإمام العلماني
وهو الإمام الذي يَتعمد فصل الدين والشرع عن قضايا الحياة، ويَتعمد أن يفصل شعائر الإسلام، عن معاملات الإسلام: (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدولية...إلخ) ويَتصور الإسلام شعيرة بلا شريعة ولا نظام، وهذا الإمام يكون فتنة عظيمة للناس.. التي تتصور دين الله محصوراً في بعض العبادات وبعض الفتاوى الخاصة بها! ويتعمد تجاهل قضايا الدين الرئيسة وقضايا الأمة المصيرية، ويتخذ لنفسه برجاً بعيداً عن واقع الحياة، يتحدث في "المنطقة الخضراء الآمنة" ويغرق بالناس إما في: روحانيات التصوف، أو اختلافات العلماء، أو قضايا السحر والعين، أو الجدال والمراء على قضايا تافهة، ويظن الناس بذلك أنهم "متدينون"، وأنهم أقاموا الدين!
ويُفتتن هذا الإمام ببعض القضايا والأمور، فإما أن يعترف بجهله، ويحاول الانتقال إلى مستوى "متعلم رباني" أو يهبط إلى المستوى الرابع.
المستوى الرابع: الإمام المُضل
وهو أَخوف ما خافه الرسول – صلى الله عليه وسلم – على أمته، فهذا الإمام المُضل، ليس جاهلاً! ولا ساذجاً.. بل قاصداً لما يفعله، إنه يطمح للشرف بين الناس، ويطمع فيما عند الملوك – أو إحداهما - ويَحترف القول بالدين، ويُتقن تحريف الكلم عن مواضعه، ويستطيع أن يجد مخرجاً ودليلاً لكل باطل! يدور مع السلطان الدنيوي حيث دار، ويبرر أفعال الطغاة مهما كانت، ويقلب ميزان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيجعل المعروف منكراً، والمنكر معروفاً! لا غنى لأي طاغية عن مثل هذا "الإمام المضل" الذي يحترف محاربة "أئمة الهدى" ويجعل من اغتيالهم معنوياً هدفاً في حد ذاته..
والإمام المُضل: قد يكون من داخل نفسه يُمني نفسه بالأماني الكاذبة، والتأويلات المنمقة أن ما يفعله حقاً – ولو فيه بعض الظلم – ويُزين له "شيطان المصلحة" أن ما يفعله لحفظ الإسلام – أو ما تبقى منه – ويحافظ على المسلمين من الفتنة. ويُكثر من بعض العبادات والطاعات عساها أن تُكفر عن ذنبه أو تُسكت صوت ضميره!
وهو إمام مُفتتن مسكين، لا يجد مخرجاً من هذه الفتنة.. إلا أن يخلع عن نفسه الشرف بين الناس، ويقطع نفسه عن عطاء الطغاة والبغاة، فلا تقوى نفسه على مثل ذلك، وقد يتعرض إلى فتن أشد.. فيصل إلى المستوى الأخير.
المستوى الأخير: الإمام الدجال
وهذا الإمام الذي يَتعوذ منه المسلم، ويخاف من باطله.. قد مات دينه، وسكت ضميره، وباع كل شيء! يقصد عن عمد إضلال الناس، ولا يعرف ديناً إلا دين الطاغوت، فيؤمن به.. ويؤمن بقدرته على النعيم والشقاء، فيظل هذا الإمام خادماً لكل طاغوت، مبدلاً لكلمات الله حسب هوى كل طاغوت، مغيراً فتواه حسب ما يأمره الطاغوت.. يعيش حياته يدعو إلى الطاغوت، ويُعبد الناس له، ويجعلهم يسبحون بحمده، والله في نظره شيء ثانوي لاحق؛ ليخدع الناس به! لا يقول كلمة لنصرة الدين، أو الأمة.. ولا يقول ولا يغضب إلا بما يُرضي الطاغوت، وعندما يأذن له الطاغوت.. فهو عبد مخلص مُحسن للطاغوت! لا يمكن أن يكون له ولو موقف واحد يُعبر عن صوت الضمير الحر، أو الإيمان الصادق، ينسلخ من الدين انسلاخاً، مثله كمثل الكلب.. يجري وراء كل جبار عنيد طامعاً فيما عنده، وفياً له مادام يعطي!
وهذا الإمام الدجال يَجعله الطغاة والبغاة على رأس الناس، وربما على رأس المؤسسات الدينية، ومراكز التوجيه؛ حتى ينشر فتنته، فتفشى وتعم، وتَسيح في الأرض، وهو ممسوخ روحاً وخُلقاً، وفكراً وسلوكاً، يمارس التمويه.. وطمس وقلب الحقائق، لا يَنخدع ولا يُفتن به إلا الغافلين.
ويضم هذا الدرك المنحط "الإمام الخائن" وهو الذي تصنعه أجهزة الاستخبارات على عينها – بل ويكون أحد أعضائها، وضمن هيكلها الوظيفي! – وله ثقافة واسعة، ولسان عليم.. هدفه الرئيس "بث الفتنة والفرقة بين الناس"، وتعبِيدهم وتدجينهم الكامل للأنظمة التي ينتمون إليها، والتجسس على الصلحاء من الناس، وكشف عوراتهم، وبث الأفكار المنحرفة مثل: تكفير المسلمين، أو شرعنة عبادة الطاغوت، والأنظمة المجرمة الخائنة!
ولعل من الصعب أن نتصور شراً محضاً خالصاً في النفس الإنسانية مهما انحطت! لذا فهذا الإمام الدجال قد لا يخلو من مظاهر خير! قد تكون لخداع النفس أو الناس، أو من ثمرات الأماني الكاذبة، كما كان يهود يقترفون كل جريمة، ويقولون: "سيُغفر لنا"!
وهؤلاء هم صفوة الصفوة المقربون من الطغاة.. ويا لشقاء أي أمة إن ابتليت بأمثال هؤلاء، فهم الدعاة على أبواب جهنم – كما جاء في الحديث الشريف – يحذر المسلم من الاستجابة لهم، أو تصديق باطلهم، أو الإعانة على ظلمهم، فهم في الدرك الأسفل من النار، والعياذ بالله.
***
ورحمة من الله بعباده لا يترك أئمة الهدى مجهلون، ولا أئمة الضلالة ظاهرون.. بل يَفتن سبحانه بحكمته الجميع؛ ليظهر للناس الحق من الباطل، ويتخذ جل جلاله الشهداء – فضلاً منه وكرماً – وليتميز الخبيث من الطيب، ويبقى الحق وأهله ظاهراً أبداً إلى يوم الدين، من يطلبه يجده – ولو بعد حين ومعاناة – ومن يسأل بصدق "الصراط المستقيم" فالله حقيق أن يهديه إليه..
اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين.