قائمة المدونة محتويات المدونة

10‏/07‏/2019

الترحم على الطغاة

عند موت طاغية أو منافق أو فاسق.. تُقام سوق "الأيديولوجيات"، والصراعات حول: جواز الترحم عليهم من عدمه، وجواز تكفيرهم من عدمه، تُقام معارك لا نهاية لها، حتى موعد موت طاغية أو فاسق الآخر! فما هو الموقف الصحيح (فيما نرى)؟


لا شك أن الطغاة من الحُكام، أو الفُساق والمنافقين من المشاهير.. أصحاب جرائم موبقة، وأفعال باطلة قبيحة.. يجب الإنكار عليهم فيها.. ولكن عند موتهم يتخذ الناس مواقف شتى حيالهم:

-       فالبعض يترحم عليهم من باب "رهبة الموت" ورغبة الناس في المغفرة للجميع (وهذا حال الأغلبية).

-       والبعض يترحم عليهم من باب السياسة والدبلوماسية. (وهذا حال الأحزاب السياسية ومن مثلها).

-       والبعض يُدافع عن الجرائم ويبرر الجريمة في معرض الترحم (وهذا حال المتعصبين من أتباع الطغاة ومحبي المنافقين).

-       والبعض يجعل الأمر "قضية عقيدة وإيمان" يجب الصدع فيها بالقول الفصل وتكفير الطغاة، وعدم الترحم عليهم، والإنكار الشديد على من يترحم عليهم. (وهذا حال المتعصبين من أعداء الطغاة).

وفهم هذه المواقف كل على حدا، ربما يساعد في فهم الأحوال الفكرية والنفسية لكل منهم..

***

إنَّ للموت رهبة عند الناس.. وعندما تسمع لموت أحد ـ كائناً من كان ـ فإنها تلقائياً تترحم عليه وتقول (الله يرحمه) هكذا ببساطة دونما خلفيات فكرية أو سلوكية تحاكم بها الطاغية الذي لا يستحق هذه الرحمة الطيبة من قلوب البسطاء، ولكن هذا حال البسطاء، وهو ـ لا شك ـ حال جميل قريب مسالم، لا حاجة لاستفزازه أو استحقاره..

وقلوب البسطاء هذه تصطدم صدمة عنيفة عندما تجد مَن هم على الطرف الآخر يجعلون من "الترحم" قضية (توحيد وعقيدة وإيمان) ولا تفهم أي شيء عن بواعثهم هذه، ولا لماذا هم كذلك؟ ولماذا هم متشددون إلى هذا الحد؟ ولماذا يعتبرون كفرهم؟! (فينفر) الناس، و(ينفضوا) من حولهم؛ لأن الناس تخاف التشدد والتكفير ـ حتى ولو بحق ـ ولا تريد أن تقحم نفسها في مثل ذلك، وتجد أن الخطأ في الرحمة، أفضل من الخطأ في التشدد ـ وهذا حق ـ وتحدث فجوة نفسية وعاطفية بينهم وبين من يحاول كشف جرائم الطغاة والمنافقين.. فيخسرون قضيتهم!

فالناس سريعة النسيان، سريعة العفو خاصة مع من يحكمهم أو مع من يملك قوة سياسية أو اجتماعية أو مالية كحال الطغاة وأمثالهم.. وتعتبر الموت نهاية، يرجع صاحبها به إلى ربه ليحاسبه على أفعاله، وتنسحب من الخوض في معارك حول مصيره الأخروي، أو حاله الدنيوي على اعتبار أنه قد رحل عن الحياة.

وهناك من يُبالغ في "البراجماتية" من الأحزاب والجماعات، فتُبالغ في الرحمة، وتجعل من الطغاة والمنافقين حماة الدين، ودرع الأوطان، وتحمد لهم مسيرة إجرامهم، وأفعالهم القبيحة المستنكرة!

وهناك من يُبالغ في الانحراف من أتباع الطغاة، فيجعلون منهم أئمة الهدى، والصراط المستقيم، ويجعلونهم شعاراً لأيديولوجيتهم المنحرفة..

وكل هذا باطل لا قيمة ولا معنى له:

-       لا قيمة ولا معنى لمنع الناس من الترحم على شخص مات، ولو كان طاغية جباراً عنيداً.

-       لا قيمة ولا معنى لجعل الترحم قضية إيمان وعقيدة.

-       لا قيمة ولا معنى للمبالغة في مدح الطغاة، وأفعالهم تزلفاً ورياءً.

-       لا قيمة ولا معنى لمباركة أتباع الطغاة على فعل طاغيتهم.

والصواب فيما أرى:

-       الابتعاد عن قضية "التكفير" في المعركة مع الطغاة في حياتهم وبعد مماتهم.

-       ترك من يترحم على الطغاة ـ لجهله بحالهم، أو لاعتقاده جواز الرحمة على الجميع ـ هو وما اختاره.

-       من لا يرى الترحم على الطغاة والمنافقين ـ وأنا منهم ـ لا يوجد أي داعي لجعلها قضية إيمان وعقيدة وتوحيد صحيح! ويمكن تجاهل الموضوع بالكلية.

-       فضح أفعال الطغاة والمنافقين والإنكار عليها في حياتهم وبعد مماتهم، والتركيز على "الجريمة" أكثر من التركيز على المجرم، وإنكار الفعل الباطل بصورة "رسالية" لا صورة "براجماتية".. بمعنى: القيام لله وحده، والشهادة بالقسط لله وحده.

-       عدم الاسترسال في معارك جانبية تافهة، لا تسمن ولا تغني من قضية "تحرير الأمة".

-       مخاطبة الناس بما يفهمون، وتقديم خطاب قريب حبيب سهل إلى قلوبهم وعقولهم، وعدم إدخال عموم الأمة في أي معارك أيديولوجية.

-       الإسلام لا يُحرّم الفرح بموت طاغية وهلاكه وإن كان ينتسب للإسلام! بل على العكس هو: إيمان بأنه سيرجع إلى الله ـ الحكم العدل ـ ليقتص منه، ويُذهب غيظ المظلوم، ويشفي صدره ممن ظلمه واعتدى عليه.

***

ولا تتعارض هذه المفاهيم مع حديث: "أنتم شهداء الله في الأرض".

"عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: "مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيّ ُـ صَلىَ اللهُ عَليه وَسَلم ـ وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ، قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ" [صحيح البخاري/ 1367]

فيفهم البعض هذا الحديث بصورة خاطئة، ويظن أن حكم جماعة من الناس اليوم على شخص مات، هو حكم نهائي له بالجنة أو النار، وبالتأكيد ليس هذا هو الفهم الصحيح للحديث..

إنما الثناء بالخير أو الشر.. هو مجرد شهادة على ذلك الميت، ولا بد أن تكون هذه الشهادة ليست شهادة زور، ولا محاباة، ولا شنآن.. وبالتأكيد ليست هي وحدها التي تقرر مصير الإنسان الأخروي، فالله ـ الذي على كل شيء شهيد ـ عليم بحال كل إنسان علم مطلق، وسيُقام للإنسان محكمة يوم القيامة، يشهد فيها الملائكة، والنبيين، والشهداء، ويشهد على الإنسان نفسه وأعضائه، وهناك ميزان لا يظلم مثقال ذرة.. ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[الزلزلة (7، 8)] وقد وجدنا من الطغاة ـ المحادين لله ورسوله ـ من خرج في جنازته الملايين، ووجدنا من الصلحاء الكرماء من لا يشهد لهم.. وكل هذا لا قيمة له أمام حكم الله وميزانه.

والأصوب ـ فيما أرى ـ ما جاء في هذه الرواية: "تُوشِكُونَ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَخِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ"، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ" [مصنف ابن أبي شيبة/ 37957] وفي رواية: "يُوشِكُ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، قَالُوا: بِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ" [سنن ابن ماجه/ 4221]

لأن فيها عدم "القطع اليقيني" بالجنة والنار، إنما هي الشهادة المؤيدة لحال الإنسان وسيرته في الحياة الدنيا، شرط العدالة في الشهادة، ويظل احتمال الجهالة فيها قائماً، وفي الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ[الحج (78)]. ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...﴾ [البقرة (143)] فالشهادة هنا على الناس، هي الشهادة بميزان الله، وكتابه، وإقرار ما فيه من: الحق والباطل، والخطأ والصواب، والإيمان والكفر.. فالأمة المسلمة شاهدة على الناس ـ على غيرها من الأمم ـ على حسب ما جاء في كتاب الله، وما شرّعه في دينه، والرسول ـ عليه السلام ـ على أفعالنا نحن المسلمين شهيداً، وهو بريء مِن كل مَن يخالف كتاب الله، ويتبع غير سنته، كما قال ـ عليه السلام ـ: "... وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا، قَالَ: الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي إِلَى قَوْلِهِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}" [صحيح البخاري/ 3349]

وفي الحديث الشريف: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ ـ صَلىَ اللهُ عَليه وَسَلم ـ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ "اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلىَ اللهُ عَليه وَسَلم ـ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلىَ اللهُ عَليه وَسَلم ـ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟، فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا" [صحيح البخاري/ 1243] وذلك منعاً للإفتئات والتألي على الله، والجزم عليه سبحانه، وهو الإله الخالق المالك.. فلا يتجاوز العبد المخلوق حده، وإنما الثناء بالخير، حباً للخير وأهله، والثناء بالشر كراهية للشر وأهله، والحكم أولاً وآخراً لله العلي الكبير. وفي الآية الكريمة: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ[الأحقاف (9)]

***

وإنَّ قضية الأمة المصيرية ليست في جواز الترحم على موت الطاغية من عدمه.. إنما قضيتها هي: "التحرر من العبودية والرق الذي تعيشه، وأن تستعيد (هويتها الإسلامية)، وتتحرر من (هيمنة) العدو، و(التبعية) له" ويجب أن لا يصرفنا عن هذه القضية شيء.. هذا ما يجب أن نفكر فيه صباح مساء، هذا ما يجب أن يستحوذ على فكرنا وشعورنا وكل حياتنا، هذا ما يجب أن نتحدث عنه كل يوم، ونقلب النظر والتفكير فيه، وننظر في أحوال السابقين، وسنن الله في أرضه.. هذا هو "مشروع حياة المسلم"..

أما أن نقف على "ركام الحياة" نتشاجر ونتصارع، ثم تمر جنازة ـ ونحن فوق الأطلال ـ فنقول لمن هذه؟ فيُقال: إنها لفلان الطاغية! فنروح نسب ونلعن ونُكفر، ونلعن من يترحم، أو ندافع عن أفعال المجرمين نكاية في الخصوم.. ثم ما أن يهدأ ضجيج الجنازة، حتى تأتي غيرها فنعاود الكرة من جديد! فهذه أفعال الفارغين.

***

راجع – إن شئت - : (بحث: الإنسانية والكفر، والفئة الباغية، وآلية قراءة قضايا الأمة المصيرية).