قائمة المدونة محتويات المدونة

22‏/08‏/2019

التصالح مع الباطل

كنتُ أتابع عن كثب قضية "مراجعات الجماعة الإسلامية بمصر"، وكنت أقرأ هذه المراجعات بتمعن، وقتها لم يعجبني السياق الذي سيقت فيه هذه "المراجعات" ليس لأنها تراجع عن مواقف وفتاوى سابقة، فالمسلم مطالب بمراجعة أفكاره وأهدافه، وتحسينها وتطويرها بشكل مستمر، أو بالمعنى النبوي الشريف: "يدور مع الكتاب حيث دار" ولكن أحياناً بعض "الحق" يُساق لخدمة الباطل..

كان بطل هذه المراجعات لواء أمن الدولة (أحمد رأفت).. كان رأفت يمثل جناح (الاحتواء والتدجين) ولعله تعلم هذه الطريقة باحترافية في الدورات التدريبية التي تتم لهم بالخارج، وكان سلوك رأفت وطريقته تمثل حالة (التدين الشخصي، والحرص على الجميع، والتصالح والتوافق).. وهذه الطريقة لا تزال تخدع قيادات الحركة الإسلامية، وأتباعها إلى اليوم.. فهذه الطريقة لها سحرها، خاصة عندما تسيطر حالة (الهوان) على الحركة!
وكان حبيب العدلي – رئيس الجهاز ووزير الداخلية بعدها – يمثل جناح (الإرهاب والاستئصال) ويرى أن إعطاء أي فرصة للحركات الإسلامية سيُمثل خطورة حتمية في وقت ما، ولكن هذه الطريقة من جانب آخر، قد تخلق لهم قنابل موقوتة، أو عمليات انتقامية خطيرة..
وأسلوب (الاحتواء والتدجين) و(الإرهاب والاستئصال) غايتهم واحدة: القضاء على الحركة الإسلامية، ومنع أي مقاومة للنظام الحاكم، وإبقاء الجميع تحت السيطرة..
وأرى أن أسلوب رأفت في (الاحتواء والتدجين) أخطر من أسلوب (الإرهاب والاستئصال) لأنه يتسلل إلى الفكر والشعور، ويُذيب الفروق والفواصل، حتى ينفذ إلى اللحم والعظم والنخاع، ويتركك في النهاية كتلة لا هوية ولا غاية لها، لا ترى الفواصل بين الحق والباطل، ولا العدل والظلم.. ولا تتميز عن غيرها في الفساد واللامبالاة..
وأذكر أنني قرأت حوار لعله لحبيب العدلي – نُشر في الأهرام وقتها – في حديثه عن مبادرة الجماعة الإسلامية لنبذ العنف والتصالح مع الدولة.. وجدت هذا اللا حبيب يتكلم من منطق العزة والأنفة ويقول فيما أتذكر، وفيما معناه: لا يوجد شيء اسمه التصالح مع الدولة، بل لا يوجد مبادرة من الأساس.. فهذه الجماعة الإرهابية ليست نداً للدولة، حتى تعقد معها صلحاً.. وأن يبادروا هم بمراجعة أفكارهم فهذا شأنهم.. فهم في النهاية مجرمون عليهم أحكام قضائية تمت بصورة وإجراءات سليمة، وحكم عليهم بقضاء عادل ونزيه!
وفهمت وقتها الطريقة التي يجري بها الأمر: يطلقون على الجماعة مثل أحمد رأفت يتدسس إليهم ويربت على أكتافهم من جانب، ويطلقون عليهم مثل حبيب العدلي يُحقر من شأنهم، ومن قضيتهم، ومن تضحياتهم.. ثم يتركهم بعد ذلك نهباً للخلافات، وللتردد، وللحيرة، وللأسر، وللعجز، حتى يستسلموا تماماً.. فكرياً وروحياً وحركياً!
وبعد أن قدّمت الجماعة الإسلامية مبادرتها من جانب واحد، ظلت معلقة حتى أحداث (11) سبتمبر.. ثم تمت الموافقة عليها بعدها، وتم الإفراج المشروط عن الذين وقعوا عليها، وإبقاء الآخرين إلى أجل غير مسمى!
***
حقائق وعِبر عن النظم العلمانية العسكرية
تعتبر النظم العلمانية العسكرية الحاكمة لبلادنا ما هي إلا "كلاب حراسة" للكيان الصهيوني، وحامية لمصالح الدول الكبرى، و"عصابات مافيا" تسرق ثروات البلاد، وتستعبد شعوبه.. أصحاب "أفكار هدامة" تستهدف الهوية والحضارة الإسلامية.
هذه الأنظمة شديدة الوحشية تجاه أي محاولة للمقاومة – ولو فكرياً فقط – ويحميها النظام الدولي، ويُمولها، ويُبارك كل أفعالها المجرمة الفاجرة، وذراً للرماد في العيون قد تخرج منظمة لحقوق إنسان بتصريح لتُدين وتشجب..
وبناء على ما سبق:
-         فكلاب الحراسة هذه لا تعترف بـ "العملية الديمقراطية"، ولا بالعمل السياسي، وإن فعلت ذلك تحت ظروف ما، وتوجيهات دولية.. ففي الإطار الذي يسمح فقط بالتنفيس وتفريغ الغضب، لا للتغيير الحقيقي، أو للخروج من الأسر، أو للفكاك من الهيمنة والتبعية.
-         إن النظام الدولي هو الذي يربي ويُسمن هذه الكلاب، فمن ينتظر نصرة منه أو يظن به خيراً، فقد سقط في بئر من الأوهام، والأماني الكاذبة.
-         كلاب الحراسة لا تحترم إلا القوة، وكذلك النظام الدولي.. فقيمتك (كفرد أو جماعة) حسب ما تملك من قوة، فلا اعتبار لديهم لقيمة الحق المجرد، أو الأخوة الإنسانية.
عندما نتعامى عن هذه الحقيقة، أو نخاف من تبعاتها.. فإننا نحاول أن نخترع لأنفسنا صورة مكذوبة توافق حالة (الهوان) فنروح بأنفسنا ندافع عن هذه الأنظمة، أو نخترع لها المبررات، حتى نبرر لأنفسنا من جانب آخر حالة (الهوان)! ونمضي في التيه البعيد، حتى تخترق طلقات الرصاص صدور الأبرياء، ونكتشف حينها – ويا للعجب – مدى وحشية هذه الأنظمة!
***
الشباب في سجون العسكر
خرجت مبادرة للشباب الأسير بمصر.. تبحث عن حل لأزمتها داخل السجون، خاصة بعد وفاة الدكتور مرسي – رحمه الله – الذي كان يُمثل (مشروع التغيير والشرعية) لهؤلاء الشباب، وبموته أحدث فراغاً هائلاً، وكالعادة لم يكن هناك أي خطة – من أي نوع – عن كيفية ملء هذا الفراغ!
والنبي – صلى الله عليه وسلم – أمرنا بفك الأسرى، لما يُمثله الأَسر من عذابات نفسية وبدنية، فما بالنا إذا صاحبه التعذيب والإذلال والقهر والعياذ بالله.. حتى إن شريعة الإسلام منعت (السجن الطويل) واكتفت فقط بالعقوبات البدنية الفورية، أو العقوبات المالية، حفاظاً على حرية الإنسان وسلامة صحته النفسية والبدنية، ومن جانب آخر حتى لا تتحمل أسرة الجاني جرمه، فالسجن الطويل – حتى للمجرمين – شيء حرّمه الإسلام، وأنكرته شريعته.. فما بالنا بالأسرى المظلومين المقهورين الذين ما خرجوا إلا لنصرة دينهم وحرية أوطانهم!
والإشكالية الكبرى التي تواجهها الحركة الإسلامية.. أنه لا يوجد لديها خطط عمل، فضلاً عن أن يكون لديها خطط بديلة، وتكتفي أن تميل الرياح يوماً ما بما تشتهي السفن!
وأحسب أن النظام المجرم بمصر يلعب معهم هذه اللعبة زيادة في التحطيم النفسي! فطرح مبادرة للخروج من أزمة الأَسر لدى هؤلاء الشباب شيء منطقي، وحق مشروع.. بل حق منذ اليوم الأول في هذا الأَسر، والنظام يعرف – من جانب آخر – أن خروج مثل هذه المبادرة سيُمثل عامل اضطراب داخل صفوف جماعة الإخوان – التي تعاني من أزمة قيادة كبرى – فالقيادات التاريخية في حبس انفرادي، وقيادات الخارج مُقسمة بين جناحين! ولا أعرف ما هي أوراق القوة التي يمكن أن يتم التفاوض بها الآن، أو آليته؟!!
وأحسب أن النظام يريد أن يُنقم الشباب على كل شيء، وينقلب ليس فقط على قياداته – فهذه ليست مهمة بل قد تكون صحية في أحيان – وإنما الانقلاب على الفكرة.. فكرة نصرة الدين، وحرية الوطن، والبحث عن مكان ولو صغير.. ولو حقير تحت أقدام النظام..
ويريد أن يربط انهزام القيادات أو موتها بقضية المقاومة من حيث المبدأ، بينما يجب أن يظل العمل خالصاً لوجه الله الكريم، سواء ماتت القيادات أو انهزمت أو انحرفت أو حتى انحل كيان الجماعة كله، فالولاء لله ورسوله وللأمة المسلمة بالأساس، والعمل لله أصلاً وفرعاً، والوسائل تتغير والآليات تتطور.
ويَمضي النظام إلى جعل هؤلاء الشباب المظلومين المقهورين، الذين قُتل إخوانهم، ودُمرت حياتهم، وسرقت أموالهم.. دفاعاً عن الحق.. يريد أن يجعلهم يُقرون على أنفسهم أنهم هم الظالمين، الجبارين، المعتدين، الأغبياء الذين لا يفقهون شيئاً.. يريد لهم أن يُوقعوا على ذلك بأيديهم، ليتركهم بعد التوقيع.. في عذاب لا ينتهي! فبعد كل ذلك.. أقروا على أنفسهم أنهم هم الظالمون.. وليس مجرد إقرار وهمي للخروج في صفقة، إنما يريده إقراراً حقيقياً بركائز نفسية وفكرية، ثم بعد كل ذلك، وبعد الموافقة على هذا الهوان والذلة والاستسلام.. مقابل الإفراج عنهم، يقول في النهاية: لا.. لن نخرجهم، وليس هناك من صفقة مع هؤلاء الإرهابيين، وليسوا هم نداً للدولة للمصالحة معها، إنهم مجرمون حُكم عليهم بأحكام قضائية، بقضاء عادل ونزيه، ونحن نحترم أحكام القضاء.. يقول ذلك إمعاناً وتمادياً في "المكر الشيطاني" تدميراً لبنيتهم النفسية والفكرية والروحية.. ويقول ذلك رغم أنه يرغب في الإفراج المشروط عنهم، خاصة أولئك الذين تم اعتقالهم لمجرد التعاطف وإنكار الانقلاب، أو لمجرد إرهاب الآخرين بأن النظام متوحش على الأبرياء الذين لم يفعلوا شيئاً، فليحذر من يفكر أن يفعل! أما أصحاب التأثير – ومن انخراط في المقاومة المسلحة ضدهم – فالمعركة صفرية معهم.
ثم بعد أن يُفرج عنهم يريد أن يظهر بأنه الأب الحاني على المنحرفين، الممتن عليهم بعطفه، المحافظ على حقوق الإنسان، وها هو النظام يفتح لهم ذراعيه لينخرطوا فيه، ويعترفوا بضرورة الحفاظ عليه، وبشرعيته.. والامتناع عن معارضته أبدا!
ولذلك أنصح هؤلاء الشباب: بتصحيح النية وتجديدها لله وحده لا شريك له، ليكون الأَسر لهم حسنات ودرجات في الدنيا والآخرة إن شاء الله، وأن يعلموا أن: العزة لله جميعاً، وأن القوة لله جميعاً.. وأن يسألوا الله من فضله، وأن يتمسكوا بكتاب الله ويعتصموا به، ويسألوا فرج الله وحده، ويتوكلوا على الله وحده، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأن يحذروا مكر المجرمين، وأن يغسلوا أيديهم من قياداتهم (إن شاءوا)، وأن لا يهنوا أبداً.. وأن يعلموا أن الباطل مهما انتفش فهو إلى زوال، وإلى لعنة، وإلى بوار، وإلى عذاب النار، وأن الحق منتصر أبدا، وله العزة أبداً، وإنْ كان هناك من محاولة لحل أزمة الأسر، فلتكن من منطق العزة، والاعتصام بالحق، والتعافي عن حقوقهم، وإدراك لمكر الفجرة الظالمين.
***
ومن شاء أن يختبر قيادته - في أي كيان - عليه أن يستفزها بالمعضلات، والمشكلات الواقعية، ويجعلها تتكلم، وينظر كيف تعمل؟ عندها يعرف مؤهلات الجميع، ويعرف بالضبط أين مكمن القوة؟ وأين مكمن الضعف والخلل؟ وليعلم أن الضعف لا يأتي إلا بالهوان.
***
وأخيراً: لا نملك إلا الدعاء لهؤلاء الشباب.. فاللهم فُك أسر إخواننا المسلمين المستضعفين في سجون الطغاة.. اللهم لا تجعل للظالمين والمنافقين عليهم سبيلا.. اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيقٍ مخرجا، ومن كل بلاءٍ وفتنة عافية.. اللهم اربط على قلوبهم، وقلوب أهليهم، اللهم أخلفهم في نفوسهم وأهليهم خيراً وعافية يا رب العالمين..
اللهم أهلك طواغيت هذه الأمة، اللهم أقصف أعمارهم، ومزق ملكهم، ورد ملكهم إلى حوزة الإسلام والمسلمين.. اللهم حرر الأمة من مكرهم ودنسهم يا رب العالمين.. 
اللهم رد الأمة إلى دينها رداً جميلاً، اللهم ألهم المسلمين رشدهم، وتول أمرهم، وخذ بناصيتهم للبر والتقوى، والعمل بما تحب وترضى.. اللهم آمين.
***