النقد بمفهومه السياسي القرآني: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرية التعبير عنهما، وهو قيام لله وشهادة بالقسط، وقيام بالقسط وشهادة لله.. وتدور قاعدة النقد مع القرآن حيث دار، لا مع الهوى، ولا السلطان، ولا الطائفة..
ولذا فهو مختلف عن "النقد العلماني" الذي هو حكم بالهوى، ويدور مع المصلحة المادية الآنية، ومختلف عن "النقد الأيديولوجي الطائفي" الذي ينتصر للأيديولوجيا والطائفة على حساب الحق.. بينما "النقد الرباني" يدور مع الرضا الإلهي، وإصلاح شأن الإنسانية بنور الله.
في البيئة النبوية والراشدة المُستلهمة نور الوحي، وسنن النبوة.. كانت حرية النقد، والتعبير مكفولة للجميع.. وهي مسألة لا تحتاج إلى تفسير طويل؛ فقد جاءت الرسالة لتحرير الإنسان، ووضع الآصار والأغلال الجاهلية التي كانت عليه، ورسالة بهذه الطبيعة الرحبة والإيجابية والتسامي.. التي تتطلع إلى رضى إله واحد ـ لا آلهة متعددة ـ وتقيم منهجاً واحداً ـ لا أهواء متفرقة ـ سيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة تعمل بصورة تلقائية محببة للآمر والمأمور، والناكر والمنكر عليه؛ لأنهم يمضون على صراط واحد لغاية واحدة، في تآلف واحد؛ فلا مكابرة ولا مراء وعناد.
ولكن.. عندما انطفأ نور الوحي في قلوب بعض أئمة المسلمين، واشتد عليهم الظلام حتى صاروا "أئمة مضلين" الذين خاف النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أمته منهم أشد الخوف.. عندما تسلطوا على المسلمين في فترة "الملك العضوض، والحكم الجبري" أصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جريمة وتهمة، ومع تطاول عهود الاستبداد خفت حس النقد في نفوس المسلمين؛ وتحللت المسؤولية الاجتماعية السياسية للأمة المسلمة.. حتى خُلع على الحكام والملوك "صفات الربوبية" وتوزعت هذه الصفات على من يلونهم من الملأ والأعوان، ثم انتقلت بدرجات متفاوتة إلى الجميع ـ إلا من رحم ربي ـ فما يملك أحد سلطة أو قوة إلا ويمارس الطغيان والاستبداد مهما كانت هذه السلطة تافهة!
وهذا من أحد الأسباب التي سببت الجمود الفكري عند المسلمين.. وأصبح التجديد وإنكار المنكر هو محاولة "الشهداء في سبيل الله" محاولة يؤديها أصاحبها ثم تُعلق لهم أعواد المشانق! ومحاكم التفتيش! كما تسبّب هذا الأمر في تفشي الاستبداد والتخلف والتحلل والغثائية مع عوامل أخرى.
ودرة تاج هذه الأمة وخصيصتها المقدسة، وخيريتها هو: في حريتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكار الظلم، ومقاومة الظالم، ولا يحول أحد بينها وبين قول الحق أبداً، إلا فقدت شرعيتها ووجودها الرسالي والحضاري.
***
وأود في هذا المقال الحديث عن أنواع النقد (الذي قد يندرج تحت مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر):
أولاً: النقد الإصلاحي.
والمقصود به النقد الذي يهدف إلى علاج بعض الخلل والعيوب في منظومة قابلة للإصلاح، وبها بعض العيوب، فهذا النقد يدور على معالجة الأخطاء، مع إبقاء الخير الموجود، والحفاظ عليه، وهو المرحلة الأولى من مراحل النقد، والمُفضل عند الكثير من علماء المسلمين.
ثانياً: النقد الثوري.
وهو النقد الذي ينتهي إلى أن علاج الوضع القائم يحتاج إلى "حلول ثورية" جذرية.. إذ أصبحت المنظومة (السياسية الاجتماعية) غير قابلة للإصلاح، وبها عيوب مميتة، ولذا فهذا النقد يدعو إلى تفكيك المنظومة السياسية، وإعادة بناء المنظومة الاجتماعية على أسس جديدة، مع الحفاظ على الوحدة الاجتماعية، والثروات المحلية، وتحييد رؤوس الفساد، وأئمة الضلالة، وهذا النوع تكلفته عالية، ومشكلته أنه عندما تصل القناعة به إلى مرحلتها النهائية يكون الواقع قد تجاوزهم، واشتد الطغيان قوة، وأحبط محاولتهم في الخلاص، وربما رحب ببعض مفردات "النقد الإصلاحي" تفادياً للحلول الثورية التي من المفترض أن تقضي عليه تماماً.
وتنجح خطة النقد الثوري عند لحظات المخاض والميلاد التي تتفاعل في المجتمعات مع شدة الظلم والطغيان، ولها دورة حياة.. إذا تم إدراكها في اللحظة الفارقة يكون التغيير الكبير، وإذا أدركها الطغيان كانت له الدولة.. والعياذ بالله من شروره.
ثالثاً: النقد الخارجي. (نسبة إلى الخوارج)
وهو النقد الذي ينقلب على كل شيء، وكل أحد.. ويسلك مسلكاً استئصالياً لكل ما ومن يقف في طريقه، وهذا هو مسلك الخوارج، الخارجين على الأمة المسلمة ذاتها، إذ هذا المنهج لا يعرف "النقد الإصلاحي" وليس في تركيبته مسألة معالجة خطأ وإبقاء على خير موجود، ولا يعرف "النقد الثوري" الذي يحافظ على كيان الأمة المسلمة، وتحييد المفسدين، بل تحييد الجميع، وتقديم صورة واحدة متطرفة.. ويتخذ من المظالم وسيلة للانقلاب على كل شيء، حتى وقع تاريخياً في أشد المظالم التي ما قام إلا من أجل مقاومتها! فكان أشد ظلماً من الطغاة.
وطبيعة النقد الخارجي هو أنه يرى نفسه أفضل وأطهر من الجميع، ويستهزأ بجهود المصلحين، والثوريين.. وتقتله المثالية التي يطمح أن يراها نازلة فجأة دفعة واحدة مرة واحدة؛ ولهذا لا يعترف الخوارج ـ تاريخياً ـ بأحد من الخلفاء الراشدين إلا بأبي بكر وعمر، ولم يُقروا بمنزلة عثمان وعلي رضي الله عن الجميع! وكان من اعتقادهم ـ ونحن ننظر من الناحية النفسية ـ تكفير مرتكب الكبيرة لنفس الأسباب.
هذا النوع من النقد، وإن كان يقوم على ركيزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغلو فيه.. انتقل هو ليقع في منكرات مثل التي قام من أجل تغييرها، فكانت طبيعته تخريبية لا بنائية، استئصالية لا تراحمية، ظالمة لا عادلة؛ فخرج بذلك عن "الشرعية الربانية" التي قوامها (الرحمة والعدل).
ونرى نماذج من هذا النقد ـ أقل حدة بطبيعة الحال ـ في الشباب المتحمس الذي قد يستبد به الشعور، فينتقص من الجميع، ويرفض الجميع، ويتعالى على الجميع، ويقلل من شأن الجميع، ويوحي للآخرين أنه يقدم لهم طريق الخلاص بعد لعن كل من مروا على الطريق! وهي محاولة ـ في الغالب ـ تنتهي إلى الإفلاس والعدمية؛ لأن مشروع الأمة الراسخ هو استمرار عملية إحياءها لا قتلها، وتحريرها لا لعنها، ورحمتها لا القسوة عليها، وبث روح الأمل والتفاؤل والبشرى والتيسير كما جاء في كتاب الله، وتقدير كل جهد فيها مهما بدى بسيطاً تافهاً، فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" [صحيح مسلم/ 2629] وقوله عليه السلام: "إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ" [مسند الإمام أحمد/ 12569] عمل وبشرى وفعالية حتى اللحظة الأخيرة.
رابعاً: النقد النظري.
وهو النقد الذي يعتمد على مقررات الرسالة الإسلامية بصورة عامة، ويجعلها هي المعيار الذي إليه يتحاكم، ولكنه لا يتجاوز إلى الاحتكاك بالواقع السياسي الاجتماعي وظروفه الحضارية والمحلية والدولية.. وهذا النقد يصلح للإشارة العامة إلى مراد الله، ولكنه لا يصلح للمعالجة الواقعية لغياب احتكاكه بها، وتجربته مع إصلاح هذا الواقع تكاد تكون منعدمة!
ويجب في هذا النوع من النقد تجنب لغة التفيهق والتشدق والتصعيب.. كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشِرِارِ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ، أَوَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِهِمْ؟ أَحَاسِنُهُمْ أَخْلاقًا" [السنن الكبرى للبيهقي/ 10 : 193] والْمُتَفَيْهِقُونَ: هم المتكبرون بعلمهم وفصاحتهم.
وأفضل النقد هو الخارج من رحم التجربة والمعاناة، والذي يقوم خالصاً لله، راجياً صلاح الإنسانية، ونصرة الأمة الإسلامية..
وللأسف.. يجفل بعض من يخرج من رحم التجربة والمعاناة من النقد ظناً منه أن يدمر كيان طائفته، أو ينتقص من قدر تضحياته! ومن جانب آخر: يتعفف الناقد النظري عن النزول إلى ساحة العمل الواقعية أو عجزه عنها.. فتضيع التجربة ورصيدها بين عاجز وعاجز!
وأفضل النقد ما التزم منهج: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء (114)]
خامساً: النقد الإيجابي.
وهو النقد الذي يتوقف عند حدود الجدال والمراء والتشدق والتنطع، ولا يدخل هذه الدائرة.. فهو النقد الذي يهدف إلى تصحيح مفهوم خاطئ، أو مخالف لتوجيه الكتاب، أو تحقيق عمل صالح قائم على ركيزة من الإيمان الحق، فالإيجابية من أهم خصائص النقد بمفهومه الرباني..
يُصاب بعض المفكرين بانتفاخات عقلية، ويصابون بشهوة استخدام المصطلحات المعقدة، والتعبيرات الصعبة، ويجعلون من أنفسهم طبقة يحتاج عموم الناس سلماً للوصول إليها! وأحياناً تنتقل إليهم عدوى النقاد الغربيين ومدارسهم الفكرية، ومصطلحاتهم الفلسفية.. والتمادي والغلو في هذا الطريق يأتي بنتائج سلبية غير محمودة، حتى ولو كان هدف النقد الإصلاح.
وكما جاء في الحديث الشريف: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى" [مسند الإمام أحمد/ 21213] فعلى الناقد والمفكر أن يكون سهلاً قريباً من الناس، يوصل كلمته بأقرب عبارة، وأسهل أسلوب، وأحب بُشرى، وأيسر طريق.. ولا يتعمد التعقيد، ولا المراوغة، ويبث روح البشرى، والأمل والتفاؤل، ويُحذر قومه، ويفوض أمره إلى الله، فلا يَيأس من الناس وإصلاحهم، ولا يُيأس الناس من الصلاح والإصلاح.
ومن خصائص النقد الإيجابي تحقيق المثالية انطلاقاً من الواقع لا من الخيال أو الوهم.. فخلافة الإنسان، وأمانته، ورسالة الله إليه تجعله في صعود مستمر، وإيمان متجدد هو كائن حي.. وهذه الحركة والحياة، تعلو وتهبط.. فلا يبارك الهبوط لكن يعترف به، ولا يرفض العلو والمثالية ـ بحجة الواقعية ـ بل يدفع إليها بشكل مستمر، ويستشعر نعم الله وامتنانه ولطفه وحمده وشكره في كل الأحوال.. والنقد الإيجابي يظل يدفع إلى المثالية من آخر نقطة يقف فيها عند الواقعية؛ حتى تكون حركة الإنسانية نحو العلو لا الهبوط، والتسديد والتقريب والتحسين لا الاستسلام والسلبية، والمحاولة المستمرة لا الجمود.. فالجمود يعني التسافل والهبوط.
***
تأثير الميول النفسية في النقد.
للميول النفسية والفكرية أثر كبير على اختيارات الإنسان في كل شيء في الحياة.. فالإنسان ـ على صلاحه وتقواه ـ لا ينجح كثيراً في أن يخرج من تأثير النفس الذي يلح عليه، فما أن ينظر في شيء من الناحية العقلية، إلا ويجد النفس حاضرة.. تُبدي بميولها وطبيعتها ورغائبها واستعداداتها، وما أن يحاول أن يتم النظر حتى تسطو عليه ثقافته وتكوينه وطريقة تفكيره!
والمسلم يجاهد من أجل خلاص العمل لله طاهراً من كل تأثير نفسي أو فكري يؤثر في عملية النقد ـ أو غيرها ـ ودليل الإخلاص: التفتح للمعرفة، والتواضع وتحطيم صنم الكبْر في النفس، والدوران مع الحق متى بدت معالمه بلا عناد أو مراء، والانقلاب على كل باطل معلوم، والدوران المستمر مع الكتاب؛ وبهذه المجاهدة يخلص الإنسان لله، ويكون عمله خالصاً لوجه الله الكريم.
ويجب أن نشجع أبنائنا ـ خاصة ونحن ننشأ في بيئة استبدادية لا إنسانية ـ على النقد البناء الهادف، مع احترام الجميع دون انتقاص، والتأدب في الشعور، والقول، وحفظ الألفة، وإعلاء كلمة الحق ـ ولو على النفس والقربى والهوى ـ ولو كانت للأعداء.. ذلك أن كلمة الحق هي كلمة الله.
***