قبل الحديث عن فوائد البنوك، والعوائد على شهادات الاستثمار ـ وسنأخذ مصر مثالاً ـ هناك مقدمة تأسيسية يجب الحديث عنها، وهي: إنَّ (الجنيه المصري) الحالي عملة (غير شرعية) يقوم عليها سلطة فاسدة باغية فاجرة مجرمة، ليس لها شرعية إسلامية، ولا وطنية.. وهذا مفهوم لذوي الألباب، أما معنى أن الجنيه المصري عملة غير شرعية فيحتاج إلى مزيد من البيان:
الأصل في العملة ـ من وجهة النظر الشرعية، وكذلك النظرة الاقتصادية الراشدة ـ هي أنها تحفظ الجهد، والحقوق، وثابتة نسبياً، ومن ثم يحرم في الإسلام "تسليع العملة" أي جعلها سلعة مُعرضة لتقلبات السوق، والعرض والطلب، والمضاربة بها.. بل يجب أن تظل العملة محفوظة القيمة؛ فهي تعتبر "مرجعية مالية أو اقتصادية" ثابتة لا يعتريها النقص والانهيار؛ حتى يحصل "التداول العادل" لها، وحماية للقدرة الشرائية التي تحملها.. فالعملة الشرعية ـ بالمعنى الاقتصادي المعاصر ـ هي "الملاذ الآمن".
ما يجعل الجنيه المصري الحالي عملة "غير شرعية" هو أنه: عملة غير عادلة؛ تفقد قيمتها بسهولة، ويتم طباعتها بصورة عشوائية ـ بدون غطاء نقدي ـ عندما تنفد خزينة البنك المركزي.. كما صرّح محافظ البنك المركزي المصري في لقاء له؛ ومن ثم تصبح مجرد أوراق ملونة؛ تفقد قيمتها، وقدرتها الشرائية تباعاً، وتفقد أهم ميزة للعملة الشرعية وهي (ثباتها)، ويحصل ما يُسمى "التضخم" أي ارتفاع الأسعار، وانخفاض قيمة العملة، وهذا الحدث يمكن أن يُدخل ملايين الناس تحت خط الفقر.. ومع انهيار قيمة العملة؛ تنهار معها مدخرات الناس، وأقواتها، ومقدرات حياتها.
والنظرية الاقتصادية الإسلامية قائمة بالأساس على: حفظ حقوق الناس المالية.. والتشديد على حفظها، ومحاربة الربا؛ وتشجيع العمل والحركة الاقتصادية والإنتاج، والكسب الحلال من خلال العمل والتجارة؛ حتى يتم حفظ المال من الكنز، وحفظه من التلوث بالربا، وحفظه من السحت الناتج عن الاحتكار والضرائب الغير شرعية، والأنشطة الفاسدة الباطلة... إلخ، وحماية السلع الاستراتيجية التي تُشكل قوام حياة الناس؛ ومنع المضاربة بها، والاكتفاء الذاتي منها، وتحقيق الكفاية العادلة للناس منها.
***
قديماً كان الذهب والفضة هما العملة المتداولة عالمياً، والذهب هو الغطاء النقدي المتعارف عليه.. ثم حصل التخلي عن هذا النظام في أشهر عملية سرقة قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، وحلّت محلهما العملات الورقية، ولا بأس بها طالما أنها تحقق الشروط الشرعية للعملة؛ من ضمان قيمة الجهد، والثبات، وعدم انهيار قيمتها.
ولكن الذي حصل أن الدول الكبرى حاولت الحفاظ على عملتها، في مقابل الهيمنة الاقتصادية على الدول الضعيفة، وإضعاف اقتصادها وعملتها.. وأصبح الدولار الأمريكي يسيطر على الاقتصاد العالمي، وهو يحتفظ بقيمة "شبه ثابتة" مقارنة بعملة مثل الجنيه المصري. ويُعتبر الدولار والذهب من "الملاذات الآمنة"، وتسمى هكذا لأنها الملاذ الذي يلجأ إليه الناس لحفظ أصولهم المالية ومدخراتهم من تقلبات العملات الضعيفة.
وأصبح الاحتلال الاقتصادي من أشد وأخطر أنواع الاحتلال للبلدان الضعيفة ـ مثل بلدان العالم الإسلامي! ـ وليس فقط من خلال تدمير العملات المحلية، وإنما من خلال منظمات التجارة الدولية، والبنوك الدولية، والسياسيات الاقتصادية العولمية.. التي تضمن ضعف اقتصاد العالم الإسلامي؛ ومنعه من التحرر من الربا، والهيمنة، ومنعه من الاستقلالية والنهوض. كما تضمن وجود حكومات فاسدة تعمل على إفساد وإفقار الشعوب بصورة ممنهجة؛ وضمان التعامل الربوي، والهيمنة الاقتصادية الغربية على الحركة الاقتصادية برمتها، وعلى موارد وثروات الشعوب كلها!
هذا غير معاملات الغش الصريح المحلية التي يتم فيها الضحك على الناس، وإغرائهم بإيداع أموالهم في "شهادات استثمار" وغيرها.. مقابل فائدة ربوية، ثم تذهب هذه الأموال لصفقات مشبوهة بالتواطؤ مع النظام المجرم الجبار العنيد، ثم يخدعون الناس بأن أموالهم ستزيد وهي مضمونة، ثم يجد الناس أنفسهم وقد خسروا القيمة الفعلية للعملة بمرور الزمن، وبطباعة الكثير من الأوراق الملونة بدون غطاء نقدي؛ حتى يعطونهم قيمة الفائدة التي وعدوهم إياها! وسرقة الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية لحسابهم الخاص، وإقناع الناس ـ عن طريق وسائل الإعلام ـ أن ما يحدث هو "ضريبة" للإصلاح الاقتصادي؛ فيا لهم من دجاجلة!!
***
هذه المقدمة ضرورية لمعالجة موضوع الربا؛ حتى لا يتم اختزاله في فوائد البنوك، وهل تحل أم تحرم؟
ويتم الدخول إلى تحليل فوائد البنوك من خلال الحديث عن "معامل التضخم" باعتباره تعويضاً عن فقدان العملة لقيمتها ومن ثم فهو حلال!
ولنضرب لذلك مثالاً؛ لتوضيح معنى العملة الشرعية، ومعنى التضخم، والربا:
استلف (أحمد) مبلغ (1,000) دولار أمريكي بسعر كان فيه الدولار يساوي (15.75) جنيهاً مصرياً للدولار الواحد. وطلب (محمد) وهو المُقرض استرداد المبلغ بالدولار الأمريكي ـ كما دفعه ـ لأنه لا يضمن ثبات وقيمة العملة المصرية.
بعد فترة قصيرة: انهار الجنيه المصري بفعل فجور وطاغوتية النظام المجرم؛ فأصبح الدولار الواحد يساوي (18.20) جنيهاً مصرياً. (وكان الدولار من سنوات قليلة يساوي (6.5) جنيهاً مصرياً!)
في هذه الحالة يجب على أحمد تسديد مبلغ الـ (1,000) دولار لمحمد بسعر: (18,200) جنيهاً مصرياً، أي بزيادة قدرها: (18,200 – 15,750) = (2,450) جنيهاً مصرياً، بنسبة + (15.5%) هذه الزيادة ليست ربوية.. وهي بالأساس ليست زيادة إنما هي: "قيمة ونسبة انهيار العملة المحلية".. ولكن إن زادت النسبة عن هذا المقدار (15.5%) في مثالنا هذا، فهي لا شك ربا واضح؛ لأنها ستكون بالفعل زيادة على المبلغ الأصلي ـ وقيمته الحقيقية ـ الذي يجب سداده.
ويمكن ضرب هذا المثال باستخدام جرامات الذهب بدلاً عن الدولار.. فنقول: استلف أحمد (5 جرامات ذهب عيار 21)... إلخ. هذا المثال لمعاملات الأفراد البينية..
أما تعاملات البنوك، فإنها قائمة بالأساس على (الربا) وتسليع العملة، والإقراض بالربا، وهي تُحدد (نسبة ربوية)، وليس (نسبة تضخم).. وتحديد السياسات البنكية قائم على هذا الأساس، كما إن البنوك لا تقوم بأعمال تجارية تقوم على الربح والخسارة، ولا يقوم المُودع بالإتجار بأمواله.. إنما يريد زيادة على مبلغ الإيداع ثابتة.. والذي يحصل أن البنك يأخذ مثلاً: (10,000) جنيه من أحمد، مقابل أن يعطيه زيادة ربوية عليها بقيمة (5%) مثلاً مع ضمان أصل المبلغ، ثم يُقرض البنك لـ (فرد أو شركة) مبلغ أحمد الـ (10,000) جنيه بزيادة ربوية (فائدة) قدرها (10%) فيعطي أحمد الـ (5%) المتفق عليها، ويأخذ البنك الـ (5%) الأخرى..
وهذه عملية ربوية صريحة ليس فيها: تجارة، ولا تغطية عادلة محسوبة للتضخم (انهيار العملة)، وليس بالأساس متفق عليها لا مع البنك، ولا مع المُودع، ولا مع المُقترض، كما إن البنك لا يتحمل نتيجة التضخم، ولا يدفعها نيابة عن الدولة، وغير ملزم بها.. ولا يدفع البنك من جيبه لـ (أحمد) نسبة الـ (5%) إنما من المقترضين للمال، سواء حصل تضخم أو لم يحصل، سواء ربح المُقترض أو لم يربح، وهذه الطريقة تُشجع الناس على "الربا" بدلاً عن "التجارة والعمل"! لأن أصل المبلغ محفوظ، ويأتيه زيادة (ربا) مضمونة عليه..
وهذا ما تريده الدول الصناعية العظمى للدول الضعيفة.. والعجيب إن هذه الدول الصناعية تقترب فيها فوائد البنوك من الصفر! لتشجيع الصناعة والاستثمار.. بينما الدول الضعيفة التي فيها الفوائد الربوية عالية تدخل في دوامة من التضخم، وفقدان القيمة المحلية للعملة، والاعتماد على الاستيراد من الخارج؛ فلا هي في الحقيقة تكسب شيئاً من الناحية المادية، وقبل هذا ترتكب كبيرة من الكبائر المُغلظة.
ومما يؤكد ذلك خوف وترقب الدول الضعيفة القائمة على اقتصاد الربا والغش وخداع الناس.. ترقبها لأسعار فائدة البنك المركزي الأمريكي الذي يجعل الفائدة تحوم حول الصفر! فإذا رفع الفيدرالي الأمريكي الفائدة ـ لمعالجة آثار التضخم وفق رؤيتهم الاقتصادية ـ فإن المستثمرين في الدول الضعيفة الذي يطمحون إلى الفائدة السريعة والعالية، ينقلون أموالهم ـ التي تسمى الأموال الساخنة ـ إلى الدول الأخرى الأكثر قوة واستقراراً، مثلما حصل في مصر بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وهروب الأموال الأجنبية منها.. فخرج منها حوالي (3) مليارات دولار دفعة واحدة، في حين أن أغلب الاحتياطي المركزي بها ما هو إلا هذه الأموال، وأموال السندات والقروض، والودائع الأجنبية، ويبيعون أصول الدولة، وينهبون خيراتها من: قناة السويس، ومناجم الذهب، والمعادن والثروات والأراضي، والضرائب الباهظة المفروضة على الناس الذين يغرقون في الفقر كل يوم! رغم أنها من أغنى الدول في الموارد المادية والبشرية، وحباها الله بالخيرات والثروات من كل شكل ولون، وما يُقال عن مصر.. يُقال مثله عن بقية بلدان عالمنا الإسلامي ـ إلا قليلاً من بقايا الوطنية هنا أو هناك! ـ ولكن هذه هي النتيجة الطبيعية عندما يتسلط أئمة النفاق والفساد والبغي وشياطين الإنس على مقاليد الحكم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
***
ولعل سائل يسأل: وكيف يعمل الاقتصاد دون هذه الطريقة المتعارف عليها عالمياً، وهل نُغلق إذاً جميع البنوك؟
أولاً: إنه يجب أن يقوم على السياسة الاقتصادية أناس أمناء شرفاء أحرار، يريدون تحقيق الحق والعدل واتباع الشرع، وتحرير الأمة، وسيادتها، واستقلاليتها، لا فجرة ولا لصوص ولا طغاة ولا فسدة ولا مجرمون.
وثانياً: يجب حماية قيمة العملة، التي تضمن جهد وعرق ومدخرات الناس، ومقدرات حياتهم. (قد تلجأ بعض الدول عمداً لتخفيض عملتها للحفاظ على المنافسة التصديرية، ولكن ـ في كل الأحوال ـ يجب حماية حقوق الناس المالية أولاً وقبل كل شيء، فهذا أساس من ضمن أسس السياسة الاقتصادية الإسلامية).
ثالثاً: عمل البنوك: يمكن تقسيم عمل البنوك إلى (تنظيمي إيداعي وتجاري ربحي)..
أما التنظيمي: فهو الذي يُسهل حياة الناس والتعامل المعاصر في السحب والإيداع، وتحويل واستقبال الأموال، وحفظها.. ويمكن في هذه الحالة حصول البنك على مقابل مالي سنوي (مثلاً نسبة 0.01 %) من مبلغ الإيداع نظير جهده في: التنظيم، والإدارة، وحماية المال... إلخ. (نلحظ هنا أن البنك هو الذي يأخذ من المُودع نظير جهده، وليس هو الذي يُعطي الفوائد الربوية) ويمكن أن تقوم الدولة مجاناً بهذا الدور. وهنا المُودع يريد حفظ ماله الذي يمكن أن يسحبه في أي وقت.
في البنوك الربوية إذا قام المُودعين بسحب أموالهم دفعة واحدة؛ يتخلف البنك فوراً عن السداد، وربما ينهار النظام الاقتصادي كله؛ لأنه قائم على الربا.
وأما التجاري الربحي: فهو رغبة المُودع صاحب المال، في إنماء ماله ـ من خلال التجارة ـ ويجب أن تكون هناك تجارة: أي (بيع، شراء، إنتاج، تصنيع، خدمات... إلخ) وهي مُعرّضة للربح والخسارة.. ويمكن أن يتفق المُودع على نسبة من هذا الربح، ولتكن (5%) مثلاً، وكذلك طريقة توزيع الخسارة، من خلال (عقود تجارية) بين البنك الذي يمارس التجارة، وبين المُودع للأموال (المُتاجر بها).. تتحدد فيها النسب والشروط، والربح قد يزيد عن المتوقع فتزيد قيمة الربح، وكذلك الخسارة.. فهنا: {أحل الله البيع، وحرّم الربا}.. ودار المال بين أكبر عدد ممكن من الناس؛ وتم خلق فرص العمل التي تضمن عدم وجود بطالة، ومن ثم عدم وجود فقر.. ومع إقامة منظومة الزكاة الشرعية.. تتحقق العدالة والتكافل الاجتماعي والاقتصادي الذي يريده الإسلام.
ولا أعلم ـ حتى الآن ـ أن هناك بنوكاً تقوم بـ (عملية التجارة)، إنما تقوم فقط بـ (عملية الإقراض) وضمان الحصول على مبلغ الإقراض، والفوائد الربوية الخاصة به، وإلا حجزت على أصول المُقترض كلها.
وهذا الوضع يؤدي إلى أن يتحول المال دُولة بين الأغنياء، ويسقط العالم كله في يد الربويين ـ كما هو واقعنا ـ وتُستذل دول وشعوب للبنوك الدولية، وتسرق الأنظمة المجرمة من أقوات الشعوب لسداد لا أقول الديون، وإنما فوائد الديون فقط، ثم تكبر فقاعة الربا؛ فتحصل هزات اقتصادية عالمية لارتباط الاقتصاد ببعضه البعض وهيمنة الأقوياء على الضعفاء! ويزداد الفقراء فقراً، والأغنياء غنى، وهذه النتيجة هي التي أذن الله ـ تعالى ـ ورسوله فيها بالحرب على الربا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة (278،279)]
***