هذا المقال هو تلخيص لكتاب الحكومة الإسلامية للشيخ عبد المجيد الشاذلي (رحمه الله)، والذي يتناول هذه المحاور: (النظام السياسي الإسلامي، خصائص دولة الإسلام، ضوابط حاكم الولاية القُطرية أو رئيس الدولة، الحكومة الإسلامية في ظل الدولة القُطرية، دور الأحزاب في الحكومة الإسلامية).
لتنزيل مُلخص الكتاب نسخة PDF.. لطفاً (اضغط هنا).
توطئة
يُقدّم هذا الكتاب رؤية شرعية وواقعية لشكل الحكومة الإسلامية المعاصر، وبصورة قابلة للتطبيق، قائمة على مبدأ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن (16)] و"سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا"(1)، و"مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَدَعُوهُ أَوْ ذَرُوهُ"(2) وقاعدة: "ما لا يُدرك كله، لا يُترك كله".. وانطلق الشيخ ـ رحمه الله، وتقبل عنه أحسن ما عمل ـ من مبدأ إعلاء كلمة الله، وحاكمية الشريعة؛ حيث السيادة لكتاب الله، والسلطة والشورى للأمة، وانطلق من الشعور بآلام أمته، ومحاولته ـ غاية جهده ـ لخروجها من النفق المظلم.
وفيما يلي تلخيص للخطوط العريضة التي حوت هذا الكتاب القيم، ولا يُغني التلخيص عن مطالعة الكتاب، وقد وصلتُ بعض الفقرات بإضافات قليلة من عندي ليستقيم المعنى، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
***
مقدمة
هذا بحث شرعي لرؤية تطبيقية معاصرة للنظام السياسي الإسلامي، وبيان شكل الحكومة الإسلامية بطريقة عصرية، وكيفية تطبيق الأصول الإسلامية ومبادئ الشريعة، ومن أهمها (حاكمية الشريعة) دون الوقوع في حكم رجال الدين بالمفهوم الغربي.
وقد نظرنا في الخلافة الراشدة وأصولها، وحددنا كذلك الانحراف الذي طرأ بعد ذلك، عبر التاريخ الإسلامي، فأرجعنا الأمر إلى أصوله الشرعية والممارسة الراشدة، ومن ثم عرضنا نظرتنا الشرعية لشكل النظام السياسي المعاصر، وللحكومة الإسلامية، وأن لهذا النظام السياسي سلطات أربع.
1- السلطة التشريعية أو أهل النظر والاجتهاد، ودورهم: الاستنباط والاجتهاد.
2- السلطة الرقابية أو أهل الحل والعقد، ودورهم: الترشيح والعزل، والشورى والحسبة (الرقابة).
3- السلطة القضائية: وهي المسؤولة عن القضاء والمحاكم في الدولة، ومسؤولة عن تحقيق العدالة.
4- السلطة التنفيذية: وهي المسؤولة عن تنفيذ السياسات والقواعد التي يضعها الحاكم المسلم، وجهازه التنفيذي وموافقة المجلس النيابي.
فهذه السلطات الأربع التي يقوم عليها نظام الحكم في الحكومة الإسلامية، والقائم على حاكمية الشريعة في كل كبيرة وصغيرة من مناحي الحياة، وكما يقوم على الفصل التام بين السلطات الأربع، والاستقلال التام للقضاء، والذي أخذناه من الشرع، ومن التاريخ الإسلامي.. لا من الأوضاع الغربية، فرئيس الدولة منتخب من قِبل الشعب (مالِك السلطة) ومصدرها، في انتخابات حقيقية ونزيهة، ويرأس رئيس الدولة الحكومة ويمارس سلطاته بنفسه، وهو الذي يختار وزراءه الذين يقومون بتنفيذ السياسة العامة التي يتم إقرارها.
***
النظام السياسي الإسلامي
يقوم النظام السياسي المعاصر وفق المنهج الإسلامي على مشاركة الأمة من خلال:
1- الإمام أو الحاكم ومعاونيه، وهو رئيس السلطة التنفيذية.
2- أهل الحل والعقد وهم من لهم صفة:
ـ التمثيل.
ـ العدالة.
ـ الكفاءة.
ويتلخص دورهم في:
أـ الشورى: وشوراهم ملزمة: "حتى أستأمر السعود"(3)، والشورى في السياسات العامة، وليست في الأمور التنفيذية التفصيلية، وليست في موضوع النصوص، ولا في الأمور الشخصية.
والاستشارة حق للإمام كحق أي مسلم على غيره من المسلمين، وله أن يأخذ بها أو لا يأخذ، والشورى حق للأمة، وعلى الإمام أن يلتزم بها ولا يحيد عنها.
ب ـ الحسبة (الرقابة): وهم قوام على الإمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترشيد سياسته ومحاسبته كما أنه قائم على الأمة بالمحتسبين.
ج ـ الترشيح والعزل: فبإجماعهم أو غالبيتهم يقع الترشيح والعزل.
3- أهل النظر والاجتهاد: وهم السلطة التشريعية، ودورهم: الاستنباط والاجتهاد.
والإمام إذا كان مجتهداً كان واحداً منهم، وإن لم يكن مجتهداً ليس له أن يدخل مجلسهم، ويجب عليه العمل برأي غالبيتهم التي ينتهي إليها مجلسهم.
وبيعة الإمام تتم بمشورة أهل الحل والعقد، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ :"ألا من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنه لا يُبايَع لا هو ولا من بويع له تَغِرَّة أن يقتل"(4).
وبهذا أسقط سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ شرعية التغلب، وأما الذين انحرفوا عن الهدي النبوي، وسنة الراشدين، قالوا: من تَغلب علينا وجبت طاعته وحرمت مخالفته، فكأنهم قالوا: ملّكوه، وقاتلوا من خالفه!!
وقد حدث انحراف تدريجي في المفاهيم ـ السياسية الإسلامية ـ تبعاً لانحراف الواقع، ويتجسد هذا الانحراف في المراحل السبع التالية:
1- تم إهدار قاعدة الشورى.
2- إقرار شرعية التغلب.
3- إقرار شرعية التفرق.
4- اختزال الجماعة في السلطة.
5- الصبر في مقابل الكذب والفجور والنفاق والظلم والجور والفسق والاستبداد والطغيان واستحلال الدماء والأموال.
6- تحويل الخطاب الجماعي للأمة للقيام بدورها إلى خطاب فردي كل على حده، وإسقاط الخطاب الجماعي للهيئة الاجتماعية للأمة.
7- تهميش دور الأمة.
والمآل الطبيعي لتراكم هذا الانحراف هو الوقوع في قبضة العدو، وتعثر الفيء إلى ما كنا عليه من الريادة والتمكين، وبطء الكرّ بعد الفر، والعز بعد الانكسار، وبداية الإصلاح: العودة إلى قاعدة الشورى.
وفي عهد الخلفاء الأربعة ـ وطرق اختيارهم ـ نجد قاسماً مشتركاً بينها جميعاً، يتمثل في:
الأول: توافر شروط استحقاق الخلافة في الشخص المختار لذلك.
الثاني: موافقة أهل الاختيار "الحل والعقد" عليه (البيعة الخاصة).
الثالث: موافقة عامة الأمة (البيعة العامة).
وعلى ذلك فكل طريقة للاختيار يتحقق فيها هذه الأمور ـ من غير مخالفات شرعية ـ فهي طريقة مقبولة شرعاً.
***
خصائص دولة الإسلام
1ـ حاكمية الشريعة.
2ـ وحدة ديار المسلمين (الخلافة).
3ـ الطرف الثالث.
4- التعددية السياسية الإسلامية.
1ـ حاكمية الشريعة:
"إنها طبيعة هذا الدين، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية، عن المشاعر القلبية، عن التشريعات التنظيمية، ولا يستقيم إلا بأن يشمل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وشؤون القلب، وشؤون العلاقات الاجتماعية والدولية، وإلا أن يشرف على الحياة كلها، فيصرفها وفق تصور واحد متكامل، ومنهج واحد متناسق، ونظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشؤون"(5)
و"عندما عدلت تشريعاتنا من الأخذ عن الشريعة الإسلامية إلى الأخذ عن القوانين الغربية والأوربية، فرنسية أو إنجليزية أو غيرها، لم يكن قصد النفوذ الغربي ـ من ذلك ـ استبدال أحكام محددة في القانون المدني أو التجاري بأخرى، فقد كان ذلك ممكناً في إطار حاكمية الشريعة الإسلامية بما تسع من تعدد وتنوع في الاجتهادات والمذاهب والآراء، ولم يظهر أن المسعى من ذلك جرت محاولته قبل إدخال القوانين الأجنبية، ولا أن هذه القوانين الغربية أدخلت بعد اليأس من محاولات تجديد الشريعة الإسلامية.. لم يظهر أي من ذلك..
إنما كان القصد ـ في ظني ـ هو العدول عن الإطار المرجعي الشرعي إلى إطار مرجعي آخذ عن الغرب وقوانينه، بما يقضي على استقلالنا التشريعي ويكرس التبعية للغرب في نظمنا التشريعية واجتهادات قضائنا ومفتينا وشراح القوانين عندنا.
وهذا ما حدث، فقد صرنا بعد أن نقول قال الله وقال الرسول، صرنا نقول قال قانون نابليون وقال القانون الروماني من قبله، وبدل أن نستدل بمالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل، صرنا نستدل بـ "بلاتيول" "دوجي" "اسمان" "كابيتان".. إلخ، وبدل أن نلجأ لفتاوى الهندية ومبسوط السرخسي، صرنا نلجأ لـ "داللوز" وأحكام النقص الفرنسية"(6).
***
2ـ وحدة ديار المسلمين:
الأمة الإسلامية مهما تعددت أجناسها، واختلفت لغاتها، وتنوعت ألوانها، وتناءت ديارها، وتتابعت أجيالها، هي أمة واحدة يربط بين أفرادها جميعاً رابط العبودية الحقة الخالصة لله الواحد القهار، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92].
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس".
ويترتب على ذلك أمور منها:
ـ لا يجوز تفريق الأمة أو تمزيقها تحت أي من المسميات.
ـ مناصرة المسلمين في كل مكان.
ـ حرمة إعانة الكفار على المسلمين.
وهناك طريقان للحفاظ على وحدة الأمة من تكالب الأعداء عليها:
الأول: صيغة الدولة المركزية، وفيها لا بد من حدوث توازن شديد بين الحاضرة والثغور، ودولة المركز ودول الأطراف عن طريق توزيع عادل للأعباء والقوى والمصالح فيما بينها؛ حتى لا تنهك أو تنهار دولة المركز إذا قامت بجميع الأعباء التي تستنفذ قواها، وتجعلها في حالة من الضعف الشديد نتيجة لاعتماد الجميع عليها، ونتيجة لكون الحرب على حساب قوة اقتصادها، وليست دعماً له.. فتصاب بالترهل والضعف ثم السقوط كما حدث للدولة العثمانية.
الثاني: صيغة تحالف مجموعة من الدول أو اتحاد مجموعة من الدول يجمعها عوامل مشتركة مثل الاتحاد الأوروبي، وتقوم بتوزيع: القوى والأعباء والمصالح توزيعاً حقيقياً وعادلاً فيما بينها، كي تحافظ على قوتها وأمنها وسلامة أراضيها من اعتداء الدول الكبرى، وهذا البديل هو الأفضل للمسلمين في الوضع المعاصر ولا ينفي هذا وجود خلافة واحدة.
هذا التحالف يكون له من القوة ما يقوم بوظيفة الخلافة، ويكون بديلاً عنها في حالة تعذرها.. طالما وجدت صيغة للوحدة الحقيقية والحفاظ على مصالح الأمة.
***
كما يجب العمل على بكل وسيلة شرعية ممكنة على:
ـ إعادة السيادة إلى كتاب الله، وجعله هو المرجعية العليا التي تَعلو، ولا يُعلى عليها.
ـ وحدة الأمة، وتوحيد جبهتها الداخلية، كما فعل صلاح الدين في الحروب الصليبية لتوحيد الجبهة ضد الأعداء.
ـ رد الأمر إلى شورى المسلمين، وممارسة أهل الحل والعقد لواجبهم في: الترشيح والعزل والشورى والحسبة (الرقابة).
ـ إزاحة أنظمة فاسدة خائنة؛ لوقف تدهور سريع، وفساد مرعب، وفراغ من القوة كارثي، وسيطرة مطردة للعدو.
ـ مقاومة المحتل ومن يُعينه كائناً من كان ـ تيقناً ـ وليس توهماً بافتراضات ساذجة سطحية أو بتعميمات فاسدة يدفع إليها الجهل والاستخفاف بالدماء.
كما يحرم العمل على:
ـ الثورة على سلطة راشدة وولاة صالحين، لأهواء أوباش أرادوا أن يفرضوا إرادتهم على الأمة.
ـ القتال على الملك بدعوى حق مقدس فيه، أو استرداد ملك الآباء والأجداد.
ـ أصحاب النزعات الانفصالية. والرايات العمية من طائفية ومذهبية وقومية ووطنية وعرقية وقبلية وجهوية وفئوية وطبقية وحزبية وشخصية وأيديولوجية أو غير ذلك سواء بين بلدان المسلمين أو داخل البلد الواحد.
ـ أصحاب الأهواء والأطماع الخفية، والقتال للتغلب ولتحويل السلطة الشرعية إلى سلطة اسمية ثم القضاء عليها، والتحول إلى ملوك الطوائف يتقاتلون على الملك، ويستعينون بالكفار على المسلمين، ويمكنون الكفار من بلاد المسلمين، والقتال على المروق والفتنة، والقتال على الكفر، والنزاع مع سلطة شرعية كثورة أتاتورك على الدولة العثمانية، وغيرها من الثورات العلمانية لفصل الدين عن الدولة.
***
3ـ الطرف الثالث:
الطرف الثالث: هو من ينوب عن الأمة من: الأمناء والخبراء والحكماء والمرجعيات، وأهل الثقة والرشد والشرف، والمؤسسات المحايدة، فهؤلاء جميعاً يمثلون الطرف الثالث للأمة بين الراعي والرعية، وهم القوة الصامتة المحايدة الخارجة عن الانتماء الحربي والغير خاضعة للسلطة أو لأهواء الرعية، ولها من القوة والاستقلال ما لا يجعلها تميل مع طرف من الأطراف.
وهذا الطرف الثالث هو الذي يمنع من استعار الصراعات بين الأطياف المختلفة، ويحفظ توازن الأمة، ويؤكد وحدتها وتماسكها الاجتماعي، ويحافظ على الأمن القومي، ويمثل قوة محايدة مستمرة لا تنحاز إلى أي من الأطياف المتصارعة. وهو يمثل الجمهور والسواد الأعظم من الناس من غير المنتمين لتجمعات أو أحزاب سياسية، وفي نفس القوت يحافظ على ثوابت الأمة من : إعلاء كلمة الله، وإظهار الدين، وحفظ البيضة، وتطبيق الشريعة، والأمة القومي للمسلمين، والامتلاء بالقوة وامتلاكها، والتنمية، والرعاية الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية، وغيرها من الثوابت التي لا تقبل المساومة أو النقاش.
مهام الطرف الثالث:
ـ الصلح بين طرفي النزاع والفصل فيها، أو الانتصار من الفئة الباغية، أو عزل من ينبغي عزله إذا كان في بقائه خطر على الأمن القومي للأمة.. فهو يقوم بعملية تصالح في المجتمع، والوقوف في قضايا الرأي العام المصيرية "كالفساد والاستبداد والتعتيم الإعلامي، والحلول العادلة لسياسة الأجور، وغيرها من مطالب الأمة المشروعة".
ـ امتلاك سلطة الترشيد للراعي والرعية:
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُواۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء (135)]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰۖ وَاتَّقُوا اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة (8)]
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِۖ﴾ [الحديد (25)]
{ليقوم الناس بالقسط}: وهو الغرض من الرسالة، من الشهادة لله، والقيام بالقسط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة الضعيف، والأخذ على يد المخالف، ولمنع أن يبغي أحدٌ على أحدٍ، ويصبح هناك قبول للآخر، ووقف النزعة الديكتاتورية الإقصائية، وتأكيد التعايش بين الأطياف المختلفة.
***
4ـ التعددية والنظام السياسي
لقد أخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير أمة، من خلال:
1- هوية واحدة متميزة: فقد عصم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ اليوم الأول لدعوته.. هوية هذه الأمة أن تمتزج مع غيرها من محاور الاستقطاب، وعناصر الجذب رغم وجود الدواعي الملحة والظروف المُهيئة لتلك المحاور أن تستقطب الناس، بأن أوضح للناس منذ الوهلة الأولى أنه جاءهم ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وفهموا هم ذلك عنه حتى قال قائلهم مستنكراً: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص (5)].
2- تجريد هذه الهوية: من الالتباسات التي يمكن أن تحدث من تبني القضايا الرائجة عند الناس وقت الدعوة، وبذلك امتنع أن يصير الإسلام بعد ذلك مقوماً من مقومات هويات أخرى عربية أو فارسية أو تركية، اجتماعية أو سياسية، وامتنع أن يتعدد الإسلام بتعدد الالتباسات؛ وأصبح للإسلام بذلك أمته الواحدة المتميزة عن غيرها من الأمم، فأبطل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك شرعية التعدد في الهويات بامتزاج الهوية الإسلامية بغيرها من خارجها، وأصبح للإسلام هوية واحدة متميزة هي: "الاجتماع على الإسلام، والانتساب إلى الشرع"، وهي شرعية واحدة لا تتعدد، تقوم عليها أمة واحدة لا تتعدد ولا تتفرق بدعاوى الجاهلية.
3ـ أقام الهوية على التوحيد الخالص: من إفراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالعبادة والنسك والحكم والولاء ـ بعد إفراده تبارك وتعالى بالربوبية ـ يقول الله جل وعلا: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام (162)].
وقوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ [الأنعام (114)].
وقوله سبحانه: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ [الأنعام (14)].
وقوله جل جلاله: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾ [الأنعام (164)].
وبذلك أسقط شرعية أي وضع يقوم على التمرد على سلطان الله ـ عز وجل ـ بإشراك غيره معه في الولاء أو الحكم أو النسك أو الربوبية؛ وبذلك لا يكون لأي وضع علماني أو قومي ـ يقوم على أساس الاجتماع على غير الإسلام والانتساب إلى غير الشرع ـ شرعية إسلامية يستند إليها بدعوى أن القائمين عليها مسلمون!
كما أسقط شرعية الافتراق الديني والدنيوي، وأبطل ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعدد الهويات من داخل الدين، كما أبطلها من خارجه.
4- تحقيق مشاركة الأمة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إدارة شؤونها وحكمها، وذلك من خلال الأطر المختلفة كمشاركة السعود الخمسة(7) بوصفهم ممثلين عن أحياء الأنصار، وأبو بكر وعمر بوصفهما ممثلين عن المهاجرين، ومشاركة غيرهم من ممثلي القبائل..
فبذلك حقق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشاركة الأمة له من خلال ممثليها عن أطرها المختلفة التي أبقى عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسواء كانت أطر ولاءات خاصة أو أطر عمل إسلامي ولكن داخل ولاء الإسلام العام، وعقيدته الواحدة، وشريعته الواحدة، وهويته الواحدة.. سواء كانت الأطر عرقية أو وظائف شرعية أو مصالح مشتركة؛ فالمهاجرون والأنصار مثال لأطر الوظائف الشرعية، وغفار وأسلم وجهينة أمثلة لأطر قبليات عرقية ورحم.
5- صبغ ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الأمة بصبغة الإسلام، وأقام التماسك الاجتماعي على أساس التمسك الفردي بالقيم، ولأهمية الصبغة الإسلامية وتزكية الفرد بتمسكه بالقيم الإسلامية يدعو خليل الرحمن ربه تبارك وتعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة (129)].
فكانت تزكيتهم بطاعة الله ـ عز وجل ـ وإخلاصهم له وتطهيرهم من الدنايا، فاستجاب الله تعالى له، وامتن على المؤمنين بذلك، فقال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة (151)].
فمجموعة القيم الإسلامية التي قال الله ـ عز وجل ـ عنها: ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًاۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام (161)]. ترفع من فاعليات الفرد وروحه المعنوية وتعمق من إسهاماته في مجتمعه وتفاعله مع بيئته وتجعله فرداً متماسكاً: قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف (170)]، لا متهوكاً، ولا حيراناً، فلا تتفرق النفس داخل كيان الفرد مشدودة إلى أهواء شتى تتجاذبها أو تمزقها: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ [الأنعام (71)].
فكان الإسلام هو هوية هذه الأمة، ومحور استقطابها.. الذي صنعها أمة عظمى من قبائل متفرقة متناحرة كان يحكمها في أفضل بلادها ولاة من قِبل فارس والروم. ونرى أثر ذلك عندما كان الإسلام هوية الأمة، فقد كان الفرد المسلم من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء وأنه وحده رابطة الولاء، ولذلك لم تكن لديه قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش على أرضه ـ بل ويحكمه ـ مسلم من بلد آخر، فصفة الإسلام تجُبُّ ما عداها، ورابطة الدين تُغني عما سواه.
***
والنظام السياسي الإسلامي يسمح ويرسخ لمفاهيم التعددية من خلال قواعد شعبية إسلامية راسخة البنيان، تغطي مساحتها مجمل الأمة، وكذلك تحقق الحفاظ على الثوابت، وتعمل على توزيع القوى ـ حتى لا يستبد بها أحد ـ وتحقق التداول السلمي للسلطة، والتعاون الدائم بين من هو في السلطة، ومن هو خارجها، وليست كنظام المعارضة الغربي، بل الكل يد واحدة لا تناحر فيها، ولا تآمر، ولا خداع.. ويحافظ على الحريات والعدل وحقوق الإنسان، وتحقيق التوازن بين السلطة والأمة والأجهزة، فطغيان السلطة لا يُؤمن معه الاختراق والخيانة وتعطيل الشرع وضياع الحقوق، وقوة الأجهزة وضعف السلطة يؤدي إلى اختلال التوازن والتمثيل الحقيقي للحكم، وشيوع الفتن في الأمة نتيجة لضعف السلطة والأجهزة ويعود بنا إلى عهد ما قبل الدولة، وقيام الدولة وقوتها أمر مهم جداً في التعاليم الإسلامية.
***
ضوابط حاكم الولاية القُطرية أو رئيس الدولة
1ـ وضع الضوابط التي تمنع الاستغلال السيء للسلطة، وتحولها إلى مغنم، وجاه، وشهوة، وجمع للثروة والقوة، وذلك من خلال الرقابة على مُخصصات الحاكم، ومنع مظاهر التبطر، والسرف، والخيلاء.
2ـ ليس له إلا من خُصص له:
"عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ لَهُ: "أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا"، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ، بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ"(8)
"عَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(9)
وقد شرحه ابن حجر العسقلاني بقوله: "وفي هذا الحديث ردع للولاة أن يأخذوا من المال شيئاً بغير حقه أو يمنعونه عن أهله"(10)
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة اليتيم إن استغنيت عنه استعففت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف"(11)
وقال أيضاً في جواب ما يحله له من مال الله فقال: "أنا أخبركم بما أستحل منه، يحل لي حلتان في الشتاء، وحلة في القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش.. ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم."(12)
3ـ ليس له أن يعقد أحلافاً أو اتفاقات مع غير المسلمين تضر بغيره من المسلمين في أقطار أخرى.
4ـ للأمة حق توليته وعزله وتحديد صلاحياته ومدد حكمه.
***
الحكومة الإسلامية في ظل الدولة القُطرية
الحكومة الإسلامية: هي الإدارة السياسية التي تتكون متى توفرت شروط قيام الدولة من: أمة وأرض ونظام تخضع له "دستور"، واستقلال سياسي. وإسلامية لأنها تخضع لحاكمية الشريعة في جميع المجالات من سياسية اقتصادية واجتماعية وثقافية.
فالحكومة الإسلامية يترأسها سياسي، وهو رئيس الدولة الإسلامية، ويُختار من خلال انتخابات حرة مباشرة.. ومدة ولايته خمس سنوات، وله حق الترشح لمدتين فقط(13)؛ حتى لا يحدث استبداد للسلطة وتبديد الثروة.
وأقرب النظم السياسية المعاصرة للنظام الإسلامي هو النظام الرئاسي، حيث توزيع السلطات بين: السلطات التنفيذية، والنيابية، والرقابية "مجلس النواب"، والتشريعية "مجلس الشيوخ"، والقضائية "القضاء"، ويضع الهيئة التنفيذية بيد رئيس الدولة، وهو رئيس الصفوة الحاكمة، يعاونه مجموعة وزراء يعدون بمثابة مستشارين "وأحياناً يطلق عليهم اسم (سكرتير) كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية" ويكون رئيس الدولة هو رئيس الحكومة بالوقت نفسه، ويُختار رئيس الدولة "الحكومة" من قِبل الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر.
***
أنواع السلطات في الحكومة الإسلامية للدولة القُطرية
أولاً: السلطة التنفيذية
وهي المسؤولة عن تنفيذ السياسات والقواعد التي يضعها المجلس النيابي، وهكذا فإنها تضم في عضويتها رئيس الحكومة "رئيس الوزراء أو المستشار أو رئيس الجمهورية في النظم الرئاسية" وزملاء ذلك الرئيس من الوزراء والإدارة السياسية الدائمة أو المعينة سياسياً والدوائر مثل الشرطة والقوات المسلحة.
رئيس الجمهورية الإسلامية هو رئيس السلطة التنفيذية ويعاونه ثمانية تخصصات لها أشكال مختلفة إما في شكل نواب أو مساعدين أو أعضاء هيئة مكتب أو مستشارين أو هيئات قومية متخصصة، وهؤلاء المعاونون:
1ـ معاون اقتصادي.
2ـ معان عسكري.
3ـ معاون أمن قومي ويشمل:
أ ـ الأمن الداخلي.
ب ـ الأمن الخارجي الإقليمي.
ج ـ الأمن الخارجي الدولي.
4ـ معاون شرعي، بحيث يكون مجتهداً، عالماً بنصوص الكتاب والسنة، وبفقههما، وكذلك فقه المذاهب، والفقه المقارن، ومواضع الإجماع، وكتب الاختلاف.
كما يتملك المعاون الشرعي القدرة على تنزيل الشريعة على مناطاتها، أو يجتهد عليها بطرق الاجتهاد المنضبطة، وهي: القياس والإجماع والمصالح المرسلة والاستحسان، والاستصحاب والعرف... إلخ.
5ـ معاون استراتيجي متخصص في كل من: الجغرافيا السياسية، والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية "من حيث نظرية السكان وتركيبتهم".
6ـ معاون في شؤون التنمية.
7ـ معاون في الخدمات والبنية التحتية والبيئية.
8ـ معاون متخصص في نقل التقنية وصناعة القوة والتقدم، لنقل البلد إلى الصناعة المدنية والعسكرية، والدخول في عصر الصناعة، وعصر القوة، والتقدم التقني، "وتحقيق الاكتفاء الذاتي من مقومات الدولة بالمفهوم المعاصر مثل الاكتفاء الذاتي من: (الغذاء، والدواء، والعلوم المادية المتطورة، والسلاح، والتقنية)".
هؤلاء المعاونون ليسوا مجرد أفراد، بل مكاتب متخصصة قائمة على دراسات جادة، وينوب عنهم ذلك المعاون.
رئيس الجمهورية هو من يختار ويُشكل الحكومة:
فالحكومة لا تُنتخب كما في النظام البرلماني، منعاً للاستبداد البرلماني الذي يسمح ببقاء رئيس الحكومة باختصاصات رئيس الجمهورية لمدد متطاولة، ويسمح بتمرير المشاريع بطريقة "موافقون" دون دراسة حقيقية، وذلك لأن الحزب الفائز بالأغلبية في النظام البرلماني هو الذي يقوم بتشكيل الحكومة، ويكون رئيس الحكومة من نفس الحزب، وقد يبقى مدداً متطاولة طالما أن الحزب يختاره لرئاسة حكومته، وبالتالي فالأغلبية البرلمانية المنوط بها الرقابة على سياسات الحكومة هي التي تشكل الحكومة، ومن هنا تكون الرقابة شكلية، ويبقى الاستبداد البرلماني سمة لازمة لهذا النظام، بل ويكون هذا الاستبداد مقنناً.
ويبقى كذلك رئيس الحكومة مدداً متطاولة، ولا يمكن تحديدها بمدد زمنية معينة، فطالما أن حزبه هو الفائز بالأغلبية البرلمانية فمن حقه تشكيل الحكومة، وطالما أن حزبه يختاره في انتخاباته الداخلية لرئاسة الحزب فيبقى كذلك رئيساً للوزراء، والذي بدوره له صلاحيات رئيس الجمهورية في النظام الجمهوري، وهذا يقنن الاستبداد.
وقد يصل الأمر إلى توريث رئاسة الحزب، ومن ثم رئاسة الوزراء، وتصبح عائلات حاكمة كما حدث في الهند (أنديرا غاندي بعد والدها ثم ابنها بعدها)، وكما في الباكستان (بناظير بوتو بعد والدها ثم زوجها من بعدها).
ويبقى عيب آخر في النظام البرلماني في حالة عدم الحصول حزب ما على أغلبية كافية، وفي هذه الحالة يلجأون إلى الحكومة الائتلافية، وهي حكومة ضعيفة تسقط بانسحاب وزير أو أكثر (النموذج اللبناني)، وتصبح الحكومة هشة وضعيفة ومرهونة بابتزازات سياسية، ومواقف حزبية أو شخصية تغيب بها عن مصالح الأمة، ولا يوفر للحكومة لا القوة، ولا الاستقرار اللازم لتنفيذ مشاريع وبرامج استراتيجية.
أما النظام الرئاسي فيمكن تحديد مدة الرئيس بمدة أو اثنتين، وكذلك لا يرتبط فيه منصب الرئاسة بالأغلبية البرلمانية، فانتخابات الرئاسة منفصلة عن الانتخابات البرلمانية، وقد تكون أغلبية البرلمان من حزب الرئيس، والرئيس من حزب مختلف، وهنا تكون رقابة جادة وموضوعية.. وفصل واستقلال حقيقي للسلطات.
ونائب الرئيس ـ في النظام الرئاسي ـ يكمل جوانب الضعف عن الرئيس، فقد يكون الرئيس متقناً للأمور الخارجية، وتركيزه فيها أعظم، ويُخشى أن يأتي هذا على حساب اهتماماته الداخلية، فيأتي دور النائب "الذي يمكن انتخابه أيضاً.. ويكون دوره عملية ملء الفراغ إن حدث، في حالة غياب الرئيس أو مرضه أو فقدانه الأهلية.. ولا يتدخل في سير الانتخابات حتى لا يتم استغلال السلطة لمصالح شخصية".
***
ثانياً: السلطة الرقابية
وتُشكل من خلال انتخابات أخرى مستقلة سواء سُمي مجلس شعب أو مجلس نيابي أو مجلس رقابي.
وشروط النواب:
ـ التمثيل لمن ينوب عنهم.
ـ الكفاءة.
ـ العدالة.
وظائف المجلس الرقابي:
1ـ الشورى الملزمة للإمام أو الرئيس.
2ـ الرقابة (الحسبة) على الإمام أو الرئيس، ومنها الرقابة المالية ومراقبة سياساته.
3ـ الترشيح والعزل بالنسبة للإمام أو الرئيس، ولهم حق ترشيح الأشخاص المؤهلين لمنصب الإمامة، لتُطرح أسماؤهم على الأمة لتختار من يحكمها، ولهم حق عزله عند انحرافه واستحقاقه للعزل بالشروط الشرعية.
والأمة تشارك الحكومة في الحكم من خلال الشورى الملزمة والرقابة (الحسبة) والمشاركة في السياسات بالموافقة أو الرفض والتعديل. (من خلال ممثليها أو من خلال التصويت العام المباشر في القضايا المصيرية).
والعمل الرئيس للسلطة التنفيذية والرقابية هو رعاية المصالح في إطار الشريعة، وسياسة أمور الأمة، وليس لهم دور في العمل التشريعي، منعاً لتسيس الدين، أو خضوعه للأهواء والرغبات الشخصية.
***
ثالثاً: السلطة التشريعية
مجلس أهل النظر الشرعي والاجتهاد
التشريع حق خالص لله تعالى.
يقصد بالسلطة التشريعية: تلك الهيئة التي لها حق إصدار القواعد العامة الملزمة التي تحكم تصرفات الناس، استناداً إلى حاكمية الشريعة..
وتقوم هذه الهيئة باستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة، وإيجاد تشريعات (بطرق الاجتهاد المنضبطة) لما يستجد من الأمور نتيجة للتطور الحضاري الذي تصل البلاد إليه، وتنظيم العلاقات سواء كانت داخلية أو دولية ـ فيما لا يوجد دليل عليه من كتاب أو سنة ـ فتمنع العبث بالقوانين، كما هو الحال بالقوانين الوضعية فيما يسمى بترزية القوانين، نتيجة لجدية أحكام الشريعة وانضباط أصول اجتهاداتها.
والسلطة التشريعية في الوضع الإسلامي تتمثل في مجلس أهل النظر الشرعي والاجتهاد، وهو عبارة عن:
1ـ علماء مجتهدون للنظر الشرعي: ويكونون مستقلين عن أي أحزاب، ويمكن أن يُنتخبوا من خلال هيئاتهم الشرعية التي ينتمون إليها، ويؤخذ منهم المتخصصون في علم الفقه والشريعة.
2ـ علماء قانون (للصياغة القانونية)، ينتخبوا من هيئاتهم القانونية.
3ـ علماء وخبراء وأمناء من الأمة لهم قبول عندها لصياغة المصالح والاحتياجات والمشاكل وتوصيفها كمتخصصين؛ ليقدموا للعلماء المجتهدين الرؤية الكاملة.
وظيفة السلطة التشريعية:
1ـ صياغة القوانين الشرعية للأمة (تقنين الشريعة).
2ـ الاجتهاد عند النوازل، وذلك بأن يَعرِض عليهم المجلس النيابي اقتراحات قوانين، وهو يستخرج الأحكام الشرعية، والتي تصاغ صياغة شرعية قانونية من خلال رجال القانون المنتمين للمجلس.
***
رابعاً: السلطة القضائية
هي سلطة الفصل في المنازعات المعروضة أمامها، وهي فرع الدولة المسؤول عن التفسير الرسمي للقوانين التي تسنها السلطة التشريعية في الأوضاع العلمانية، أو مجلس أهل النظر الشرعي والاجتهاد في النظام الإسلامي، وتنفذها الحكومة.. وهي المسؤولة عن القضاء والمحاكم في الدولة، ومسؤولة عن تحقيق العدالة، كما أنها مسؤولة عن مسيرة وتقاليد القضاء في الدولة ومصداقية القوانين التي تطبقها، ويكون لهذه السلطة مجلس أعلى، ومحكمة دستورية، ولهم هيئة تُمثلهم ولهم انتخاباتهم الخاصة، ويجب أن يكون القضاء مستقلاً، وألا يكون مُسيساً.
هذه هي السلطات الأربع التي يقوم عليها نظام الحكم في الحكومة الإسلامية، والقائم على حاكمية الشريعة في كل كبيرة وصغيرة من مناحي الحياة، كما يقوم على الفصل التام بين السلطات الأربع.
***
ويجب على الحاكم أن يكون له إطلاع شرعي، بل وأن يصل إلى درجة عالية من العلم الشرعي يصل لدرجة الاجتهاد إن أمكن، لكن ليس معنى هذا ـ بل ليس من حقه ـ أن يحتكر تفسير النصوص، ولا ينفرد بالمرجعية الدينية، بل وظيفته الأساسية وظيفة سياسية، وعليه التزام وتنفيذ أحكام الشريعة.
أما الذي يفسر الشريعة فهو الأمة كلها ممثلة في أهل النظر والاجتهاد الذين تختارهم الأمة سواء من خلال انتخاب مباشر أو من خلال انتخابهم داخل دائرة العلماء المجتهدين.. وهم مستقلون لا ينتمون لأحزاب سياسية، ولا يعملون بالسياسة، وتصاغ الشريعة كقانون.. لكنه قانون رباني بعيد عن الأهواء، وهذا ما تلزمه عقيدة التوحيد.
هذه الصيغة من نظام الحكم تقبل تعدد الأحزاب، وهي تعددية بقواعد شعبية، تحت حاكمية الشريعة، ولا بد من تداول سلمي للسلطة.
***
دور الأحزاب في الحكومة الإسلامية
تنطلق الأحزاب الإسلامية من "عقيدة التوحيد"؛ التي تقوم على الحاكمية والسيادة لله، وذلك يتمثل في سيادة الشريعة الإسلامية المعتمدة على القرآن والسنة... واعتماد الشورى الملزِمة كآلية للحكم واتخاذ القرارات.
ويتمثل دور الأحزاب في الحكومة الإسلامية في عدة مهام:
1ـ الحفاظ على ثوابت الأمة:
ومنها: إعلاء كلمة الله، وإظهار الدين، وحفظ البيضة، وتطبيق الشريعة، والأمن القومي للمسلمين، والامتلاء بالقوة وامتلاكها، والتنمية، والرعاية الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية، وغيرها من الثوابت التي لا تقبل المساومة أو النقاش.
2ـ الدور السياسي:
ويتمثل في تقديم المرشح للرئاسة، وتقديم مرشحين للحكومة كأشخاص لهم خبرات واسعة ومعمقة، وتقديم مرشحين للمجلس الرقابي "النيابي".
كذلك يكون للحزب دوره ونشاطه السياسي كمدرسة سياسية تُخرّج المتخصصين في العمل العام، فيكون كحكومة ظل جاهزة لتقديم من يستفاد بهم للمسلمين حتى في حال المعارضة.
3ـ الدور الاقتصادي:
وذلك بأن يكون للحزب من البرامج والخطط والكوادر ما يجعله بيت خبرة اقتصادي، يُساهم في تقديم المقترحات بل والحلول لما تواجهه الأمة من أزمات وعقبات، وحتى ضع الأمة قدمها على طريق التنمية والنهضة.
4ـ الدور الاجتماعي:
وذلك عن طريق:
ـ تربية الأجيال، وتوفير وسائل الرعاية المناسبة للشباب للاستفادة من طاقاتهم.
ـ العمل من أجل إحداث التغيرات الاجتماعية المرغوبة في إطار القيم الإسلامية.
ـ تحقيق الاستقرار الاجتماعي للأسرة عن طريق توفير الخدمات المختلفة؛ تعليمية وصحية واجتماعية وغيرها.
ـ المعاونة في نشر التعليم والقضاء على الأمية.
وفي ظل هذه الأدوار نجد أن الحزب لا يمارس عملاً تشريعياً، بل عمله تنفيذي، وفي مجال الشريعة يُقدم اجتهادات فقهية، ودراسات شرعية.. لكن مع عدم احتكار تفسير الشريعة، ولا فرض مذهب بعينه، ولا إقصاء وتهميش الآخرين، وكذلك لا يكون دور الحزب فقط دور المعارض المحترف المعارضة، بل يثبت وجوده بعمله وبرامجه العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهناك أمور ينبغي التنبيه عليها:
ـ الحفاظ على التعددية وتداول السلطة، وأن يكون الوضع المدني ومؤسساته فوق العسكري.
ـ منع التأميم المطلق، والرأسمالية المتوحشة.. و"التزام منهج الاقتصاد الإسلامي العادل والمنتج".
ـ تحقيق التوازن بين السلطة والأمة وأجهزة الدولة.
ـ الفصل بين السلطات الأربع والتنسيق بينها. وتحديد الصلاحيات لكل سلطة حتى لا تتغول سلطة على أخرى أو تلغي دورها.
ـ الشفافية والمساءلة، وعدم التراخي في مواجهة أي ظاهرة للفساد أو الاستبداد.
ـ الحفاظ على العدالة بكل أطيافها سواء كانت سياسية، وقضائية، واقتصادية، واجتماعية.
ـ الحفاظ على الحريات في نطاق الشريعة الإسلامية.
ـ الحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه، وعدم التسامح في إهدارها لأي سبب.
ـ التماسك الاجتماعي، والحفاظ على قوة الدولة، وهيبة السلطة، وإعمال قواعد الشورى، والمشاركة لا تعني التناحر والمزايدات الزائفة وتعطيل أعمال الدولة، وإضعاف الأمة، بل العكس هو المطلوب، وهو التعاون على بناء قوة الدولة والأمة والمجتمع، والخروج من نطاق دول العالم الثالث المضروب علينا من القوى الخارجية المعادية للإسلام.
ـ توسيع نطاق المشاركة خارج التمثيل النيابي مثل الاتحادات: طلابية، وعمالية، ونسائية، والنقابات المهنية والغرف التجارية، ومراكز البحوث.. علمية وتقنية واستراتيجية واجتماعية، وكذلك منابر الرأي ورؤساء العشائر والمناطق النائية والأقليات الدينية، وشخصيات لها قبول لدى الأمة، ومؤسسات رقابية.
***
والنقاط الخمس التي نؤكد عليها:
ـ حاكمية الشريعة لمنع العبث.
ـ استقلالية التشريع "التقنين والاجتهاد".
ـ البعد عن النظام البرلماني لما يسببه من استبداد برلماني، يخرجنا من دور الرقابة الجادة ويحولها أمراً صورياً.
ـ توسيع نطاق المشاركة خارج نطاق التمثيل النيابي؛ لتشارك الأمة في مناقشة وتقرير قضايا الرأي العام بطريقة أكثر انطباقاً مع الواقع، وهذا ما يسمى بالديمقراطية التشاركية.
***
وضع الأقليات
وأما الأقليات.. فلا بد أولاً من حسم هوية البلد بأنه بلد مسلم، ومن حسم هذه الهوية، نؤكد على أن هذه الأقليات جزء من هذه الحضارة، لهم احترامهم، ودورهم المعترف به في بناء الأمة.
ولهم حق المواطنة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" فلهم حقوقهم المالية والاجتماعية وحرمة الدماء والأموال والأعراض كالمسلمين، ولهم حرية المعتقد وحرية ممارسة عباداتهم وشعائرهم وحماية دُور عبادتهم، مع تحاكمهم في أمورهم الشخصية لشرائعهم.
ما عدا بعض المناصب العليا التي تخص الأغلبية المسلمة الموجِهة لدفة البلاد، والمحددة لهويتها ولثقافتها والتي هي ثقافة الجميع.. المسلمين وغير المسلمين.
***
(1) [صحيح البخاري/ 6464].
(2) [مسند الإمام أحمد/ 9577].
(3) مجمع الزوائد، ج6، ص191، وهو قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مشاورة ممثلي أهل المدينة.
(4) مسند البزار، ج1، ص48.
(5) في ظلال القرآن، ج1، ص 151.
(6) كتاب الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ص123، للمستشار طارق البشري.
(7) سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن خيثمة، وسعد بن الربيع، وسعد بن مسعود. والفرق بين القباء والسعود أن: النقاء يمثلون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الأمة، والسعود يمثلون الأمة عنده.
(8) صحيح البخاري/ 6636.
(9) صحيح البخاري/ 3118.
(10) صحيح البخاري، ج10، ص 360، رقم: 2886.
(11) تغليق التعليق على صحيح البخاري، ج5، ص 294.
(12) الطبقات الكبرى، ص275، ج3.
(13) والتحديد بولايتين فيما أرى أنا ـ كاتب هذا التلخيص ـ إنما يكون في الأنظمة الشرعية المستقرة، أما في حالة التأسيس، والتغيير الكلي، يجب ضمانة متانة هذا التأسيس، واستمرار الولاية للمؤسسين طالما هم صالحين، وفي كل الأحوال سواء ولايتين أو أكثر (للآباء المؤسسين، أو قادة التغيير).. يجب أن تكون الانتخابات حرة، ليس فيها غش، ولا خداع، ولا تآمر.