قائمة المدونة محتويات المدونة

16‏/06‏/2022

أَسلمة أتاتورك

هذا المقال أكتبه لتسجيل الفكرة، ولا أزعم أنني هضمتها جيداً، أو استوفيت ما يجب معرفته حولها، ولكن نظراً لأهميتها، وغرابتها كذلك أود مشاركة القراء ما أرى حولها، عسى في المستقبل تتضح بعض الرؤى والحقائق حولها، وكما جاء في الأثر: "الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" [سنن ابن ماجه/ 4169]

من المعلوم أن أتاتورك قائد الثورة ـ كما يزعمون ـ على الدولة العثمانية، لم تكن مشكلته مع عيوب هذه الدولة، ولا مع مظاهر التخلف التي أصابتها في مرحلة الاحتضار الأخيرة، ولا مع تخلف المسلمين بشكل عام.. مشكلة أتاتورك الأصلية كانت مع الإسلام ذاته، وكراهيته البغيضة لكل ما يمت للإسلام بصلة مهما كانت بسيطاً تافهاً، وكل ما يمت للعروبة بصلة مهما كان قاسماً مشتركاً، فمن شدة بغض أتاتورك وأتباعه حرّموا لبس الطربوش، ومنعوا الموسيقى التركية المتأثرة بالفن الشرقي!

أما ما يخص الإسلام، فقد حاول أتاتورك غاية جهده ـ ومن تبعه من بعده ـ على قطع أي صلة لهم مع الإسلام سواء من قريب أو من بعيد، فكانت "علمانية لائكية laïcité" شديدة التوحش، شديدة التطرف، شديدة الاستبداد، قِبلتها ووجهتها الغرب، ولا قِبلة لهم سواها، أما قِبلة المسلمين بمكة فهذه يتركونها للعجائز!

كان شخصية شديدة الكفر والإلحاد، لا تتسامح مع الإسلام، ولا تعاليمه، ولا مع من يعتنقه.. لقد جعل الدين الجديد لتركيا هو "القومية التركية" ودستورها هو "العلمانية".. وكرهت بشدة كل ما يتم للعرب والإسلام بصلة على وجه الخصوص. فكان لعنة على تركيا، مازالت تمتد آثارها إلى يومنا هذا.

ومن جرائمه: "إلغاء الخلافة التي أسماها هذا الورم من القرون الوسطى، وقد أجيز القرار الذي شمل نفي الخليفة في اليوم التالي دون مناقشة، وانطفأت على يد مصطفى كمال شعلة الخلافة التي كان المسلمون طيلة القرون يستمدون من بقائها رمز وحدتهم واستمرار كيانهم.

لقد كان مصطفى كمال ينفذ مخططاً مرسوماً له في المعاهدات التي عقدت مع الدول الغربية، فقد فرضت معاهدة لوزان سنة 1340هـ/1923م على تركيا فقبلت شروط الصلح والمعروفة بشروط كرزون الأربع "وهو رئيس الوفد الإنجليزي في مؤتمر لوزان" وهي:

1 - قطع كل صلة لتركيا بالإسلام.

2 - إلغاء الخلافة الإسلامية إلغاءً تاماً.

3 - إخراج الخليفة وأنصار الخلافة والإسلام من البلاد ومصادرة أموال الخليفة.

4 - اتخاذ دستور مدني بدلاً من دستور تركيا القديم.

لقد نفذ مصطفى كمال المخطط كاملاً وابتعد عن الخطوط الإسلامية ودخلت تركيا لعمليات التغريب البشعة؛ فألغيت وزارة الأوقاف سنة 1343هـ/1924م، وعهد بشؤونها إلى وزارة المعارف. وفي عام 1344هـ/1925م أغلقت المساجد وقضت الحكومة في قسوة بالغة على كل تيار ديني وواجهت كل نقد ديني لتدبيرها بالعنف. وفي عام (1350 - 1351هـ/1931 - 1932م) حددت عدد المساجد ولم تسمح بغير مسجد واحد في كل دائرة من الأرض يبلغ محيطها 500 متر وأعلن أن الروح الإسلامية تعوق التقدم.

وتمادى مصطفى كمال في تهجمه على المساجد فخفض عدد الواعظين الذين تدفع لهم الدولة أجورهم إلى ثلاثمائة واعظ، وأمرهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالاً واسعاً للتحدث على الشؤون الزراعية والصناعية وسياسة الدولة وكيل المديح له. وأغلق أشهر جامعين في إستانبول وحول أولهما وهو مسجد آيا صوفيا إلى متحف، وحول ثانيهما وهو مسجد الفاتح إلى مستودع.

أما الشريعة الإسلامية فقد استبدلت وحل محلها قانون مدني أخذته حكومة تركيا عن القانون السويسري عام 1345هـ/1926م. وغيرت التقويم الهجري واستخدمت التقويم الجريغوري الغربي، فأصبح عام 1342هـ ملغياً في كل أنحاء تركيا وحل محله عام 1926م.

وفي دستور عام 1347هـ/1928م أغفل النص على أن تركيا دولة إسلامية، وغير نص القسم الذي يقسمه رجال الدولة عند توليهم لمناصبهم، فأصبحوا يقسمون بشرفهم على تأدية الواجب بدلاً من أن يحلفوا بالله كما كان عليه الأمر من قبل.

وفي عام 1935م غيرت الحكومة العطلة الرسمية فلم يعد الجمعة، بل أصبحت العطلة الرسمية للدولة يوم الأحد.. ومازالت مستمرة إلى يومنا هذا!

وأمعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التغريب فأصدرت قراراً بإلغاء لبس الطربوش وأمرت بلبس القبعة تشبهاً بالدول الأوروبية.

وفي عام 1348هـ/1929م بدأت الحكومة تفرض إجبارياً استخدام الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلاً من الأحرف العربية. وبدأت الصحف والكتب تصدر بالأحرف اللاتينية وحذفت من الكليات التعليم باللغة العربية واللغة الفارسية، وحرم استعمال الحرف العربي لطبع المؤلفات التركية... وهكذا قطعت حكومة تركيا ما بين تركيا وماضيها الإسلامي من ناحية، وما بينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربية والإسلامية من ناحية أخرى.

وأخذ أتاتورك ينفخ في الشعب التركي روح القومية، واستغل ما نادى به بعض المؤرخين من أن لغة السومريين أصحاب الحضارة القديمة في بلاد ماب ين النهرين كانت ذات صلة باللغة التركية فقال: بأن الأتراك هم أصحاب أقدم حضارة في العالم ليعوضهم عما أفقدهم إياه من قيم بعد أن حارب كل نشاط إسلامي وخلع مصطفى كمال على نفسه (أتاتورك) ومعناه أبو الأتراك.

وأعلنت الدولة عزمها في التوجيه نحو أوروبا وانفصلت عن العالم الإسلامي والعربي، وأمعنت حكومتها من استدبار الإسلام حتى حاربت بقسوة أي محاولة ترمي إلى إحياء المبادئ الإسلامية.

وروجت الصحف ـ المدعومة النفوذ الغربي واليهودي والماسوني ـ تصرفات كمال أتاتورك ووافقت عما ابتدعه، ونشرت له أقوال: (ليس لتركيا الجديدة علاقة بالدين). وأنه - أي مصطفى كمال-: ألقى القرآن فقال: إن ارتقاء الشعوب لا يصلح أن ينفذ بقوانين وقواعد سنت في العصور الغابرة.

لقد كانت حكومة تركيا العلمانية الكمالية ـ هي كما وصفها الأمير شكيب أرسلان ـ ليست حكومة (لا) دينية من طراز فرنسا وإنكلترا فحسب، بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشفية في روسيا سواء بسواء، إذ أنه حتى الدول اللادينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في حروف الأناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغى الكنائس.

وكان للإعلام اليهودي دور كبير في الترويج لهذه الردة، مثلما كان له دوره البارز في تشجيع أتاتورك على البطش بأية معارضة إسلامية، وكانت تزين له أن ما يقوم به من المذابح والوحشية ضد المسلمين ليست سوى معارك بطولية، كما كانت منبراً لكل دعوات التشبه بالغرب الصليبي والمناداة بالحرية الفاجرة للمرأة التركية، والترويج لفنون الانحلال الخلقي معتبرة أن شرب الخمر والمقامرة والزنا ليست إلا مظاهر للتمدن والتحضر" [الدولة العثمانية عوامل النهوض، وأسباب السقوط، ص 472 : ص477، د. علي الصلابي]

وعمل على الغلو في القومية التركية (سياسة التتريك) وخرافة التفوق العرقي التي تُفسد أخلاق الشعوب، وقام بالاعتراف بالكيان الصهيوني في أرض فلسطين على الرغم من رفض الشعب التركي المسلم. "وعدل الدستور ليتم حذف كافة النصوص الدينية من المادة السادسة والعشرين من الدستور التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة.. بالإضافة إلى نزع كلمة الله من اليمين الجمهوري. وفي برنامج الحزب الشعبي الجمهوري لعام 1931م، تم إعلان ذلك كأحد العناصر الأساسية للحزب العلماني" [Wikipedia]، وحرّم تعدد الزوجات؛ ومازال هذا التحريم قائماً إلى يومنا هذا! بل وصل الأمر بهذه الكراهية العمياء، وهذا الإلحاد الصريح إلى حذف مفردات اللغة العربية من اللغة التركية، وتشويهها، وتغيير أحرفها إلى اللاتينية لا لشيئ إلا لقطع أي صلة مع الإسلام والعروبة، كل هذا استجابة لرغبة فرد مُستبد لعين لم يستشر شعبه في أي قرار اتخذه، بل فرض عليهم ذلك بالحديد والنار، وباسم الحرية والتنوير والتقدم والتمدين! وسُمي ذلك الكفر والإلحاد والفجور بـ "المبادئ الكمالية العلمانية" التي يحميها الجيش ـ في السابق ـ ومن اعترض عليها فكان مصيره الإعدام! 

وفي تقرير السفير الأمريكي تشازلز إتش. شيريل الذي خدم في أنقرة بين 1932 - 1933م حول رأي أتاتورك في الإسلام، فيقول شيريل: "يقول أتاتورك إن الشعب التركي سيُصاب بالاشمئزاز عندما يفهم المعنى الحقيقي لبعض الصلوات العربية، كما يعتقد أن الشعب التركي ليس متديناً حقاً، يل ينجذب فقط للصلاة الصاخبة، وقال إنه وجد أنه من الضروري إلغاء شيخ الإسلام والمدارس الدينية والمحكمة الشرعية وكافة رجال الدين، بما في ذلك القضاة والحجاج والعديد من الدراويش الذين ترأسوا هذه المحاكم. ما تبقى من هذا الهيكل الديني، الذي كان ساريًا في الدولة العثمانية، هو الأئمة الذين دعوا الناس للصلاة من المآذن كمؤذنين وأموا الصلاة في المساجد." [رأي أتاتورك في الإسلام

ويقول "ديفيد هوتمان" في كتابه "الأتراك": ’’لقد كان هدف أتاتورك والمحيطين به هو جعل الأتراك قطعة من الحضارة الغربية وجزءاً من أوروبا. ولقد أدركوا بشكل جيد أن أكبر عائق بين تركيا وأوروبا هو الدين، ومهما كتب المؤرخون فإن الأكثرية الساحقة من الشعب كانت تنظر إلى أوروبا باعتبارها عالماً للمسيحيين، أو كمركز للمسيحية في الماضي، وتنظر إلى العالم الإسلامي كشيء منفصل عن عالم الغرب وعن أوروبا.

لذلك فإن جميع "الانقلابات والإنجازات الثورية التي حققها أتاتورك في الفترة ما بين (1920 -1930) كانت تتعلق بالدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ وقد خطا أتاتورك خطوات واسعة جداً في سبيل إبعاد تركيا عن الإسلام. وعن القواعد الإسلامية. فقد ألغى مؤسسة الخلافة ورفع التدريس الديني في المدارس وسدّ التكايا التي كانت تحتل مكاناً بارزاً في حياة الأتراك في العهد العثماني.

كما منع الطربوش وأتى بالقبعة. وقد كان هذا في الحقيقة ثورة ضد الإسلام، ذلك لأن المسلم كان يستطيع السجود وعلى رأسه الطربوش، بينما كانت القبعة تعتبر لبساً مسيحياً. ولكن أتاتورك لم يكتفِ بهذا أيضاً، إذ قام بمنع الأحرف العربية التي كان الأتراك يكتبون بها لغتهم منذ ما يقرب من ألف عام، وأتى بالأحرف اللاتينية بدلاً منها... ولم يكتف أتاتورك بهذا أيضاً فقد ألغى الشريعة ووضع مكانها القوانين الغربية.

إن قبر أتاتورك بالنسبة لأنصاره من الكماليين يعتبر شبيهاً بـ "مكة" إنه مكة العلمانية.

إن لكل أمة عظماءها، ولكني لا أظن أن هناك حباً يماثل الحب الموجود لأتاتورك في تركيا الحديثة، فهو "الزعيم الأبدي" وعندما يتحدث عنه في تركيا يُرمز له بالحرف الكبير (هو) فكأن أتاتورك قد أُلِّه. وأطفال الأتراك يربون على أساس أن يكونوا أناساً لا يترددون من التضحية بأنفسهم في سبيله.

إن الكمالية تشبه ديناً توحيدياً. وأتاتورك مثله مثل الله واحد، إذ لا يمكن تشبيه أحد به (إن أحسن سيرة كُتبت في تركيا حول أتاتورك يحمل عنوان "الرجل الأوحد" وكأن أحداً غيره لم يوجد)...

إن المبدأ الرئيسي في الثورة التركية هو العلمانية في حقيقة الأمر. وقبل فهم معنى هذه الكلمة (أي العلمانية) فلا يمكن فهم تركيا الحديثة. إن العلمانية في الغرب تعني فصل الكنيسة عن سلطة الدولة. ولكن العلمانية في بلد مسلم تحمل مفهوماً أكثر حدة ذلك لأن الإسلام ممتزج بالدولة بشكل قوي، فالشريعة تحكم حياة الأفراد في كل نواحيها... ولذلك فإن تركيا أحدثت بموقفها هذا هزة شديدة في العالم الإسلامي‘‘ [الرجل الصنم، لضابط تركي سابق، ص 379]

 

***

ويقول الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ : "ولقد حاول اليهود ـ بمساعدة "الحمير" (على حد تعبير التلمود) الذين يستخدمونهم من الصليبيين ـ أن ينشروا موجة من الإلحاد في نفوس الأمم التي تعلن الإسلام عقيدة لها ودينا. ومع أن الإسلام كان قد بهت وذبل في هذه النفوس.. فإن الموجة التي أطلقوها عن طريق "البطل" أتاتورك في تركيا.. انحسرت على الرغم من كل ما بذلوه لها ـ وللبطل ـ من التمجيد والمساعدة. وعلى كل ما ألفوه من الكتب عن البطل والتجربة الرائدة التي قام بها.. ومن ثم استداروا في التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك، ألا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد. إنما يرفعون عليها راية الإسلام. كي لا تصدم الفطرة، كما صدمتها تجربة أتاتورك. ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والانحلال الخلقي، ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها في الرقعة الإسلامية." [في ظلال القرآن، سورة الأنعام، ص 1088]

***

ولقد نجح أتاتورك في جعل نفسه هو محور تركيا، وركنها الركين، فهو مؤسس الجمهورية، وتمثاله في كل مكان، وبطولاته المزعومة تملأ الأذهان، ومبادئه الثورية ـ زعموا ـ تُدرس للأطفال منذ نعومة أظفارهم، وتمجيده وصورته في كل مؤسسة حكومية، ومطبوعة بمناسبة وبدون مناسبة في كل مكان.

والتخلص من هذه اللعنة من جذورها كان يعني تحطيم تمثال ووثن أتاتورك في نفوس الأتراك، وإقامة ثورة جذرية، تقتلع كل آثار الأتاتوركية من تركيا.. ولكن يمضي الأمر كعادته على الطريقة التركية، الخالية من الحلول الثورية، ولكن الحلول التدريجية.

وجد المسلمون أنفسهم في تركيا أمام خطر يتهدد هويتهم، ودينهم، فحاولوا غاية جهدهم في الحفاظ على معتقداتهم وممارستهم الدينية.. وكما أسلفنا هذه الحركة لم تعتمد الحلول الثورية ـ إلا من بعض المحاولات الفاشلة ـ وتعرضت ـ كالعادة ـ لحملات قتل وتعذيب ومحاربة على كافة الأصعدة: العسكرية والقضائية والإعلامية والثقافية.. ولكنها كانت صبورة ومُتكيفة ومرنة لا تنكسر، وتحاول التعلم من تجاربها، ولا تيأس من المحاولة. [راجع ـ إن شئت ـ الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، د. أحمد النعيمي]

حتى وصلت أخيراً إلى صورة "حزب العدالة والتنمية" الذي يصف نفسه أنه (حزب يميني وسط محافظ) بالتعبير الغربي لتقسيمات الأحزاب ـ ونحن لا نُقر مثل هذه التقسيمات ـ وهو الحد الأدنى الذي وصلت إليه الحركة الإسلامية التركية.. فقد كانت آمالهم أكبر من ذلك فيما أرى.

وتولى الحزب رئاسة تركيا منذ عام 2002م إلى يومنا هذا، في ظروف دولية وإقليمية جعلته يفلت من كماشة العلمانية العسكرية حينها، ومن العلمانية الدولية.. والنظر بإيجابية وقتها إلى الديمقراطية الإسلامية، والإسلام المدني المتعايش مع العلمانية! وفلت بمعجزة من محاولة الانقلاب الأخيرة عام 2016م.

وبطبيعة الحال إن جميع الحلول المتوقعة لمعالجة آثار الأتاتوركية منهم لا بد وأن تكون حلول هادئة بطيئة بعيدة عن جميع أشكال الصدام.. وفعل الأتراك فيما أرى شيئاً عجيباً! وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال، لقد اخترعوا أتاتورك جديد، وأسلموه، وأطلقوا لحيته.. وأخرجوه من قعر الجحيم ـ إن شاء الله ـ ليدافع عن الإسلام!

كيف فعلها الأتراك؟!

إنهم ببساطة ـ فيما يبدو لي ـ عندما عجزوا عن مواجهته، اخترعوا له صفات جديدة، ولو كان حياً ورأى ما فعلوه به لأعدمهم في ميدان عام..

فمثلاً: يبني الأتراك مدارس "إمام خطيب" التي تُخرّج حفظة ودعاة لكتاب الله، يتم بناءها على أعلى مستوى من معايير الجودة والتعليم، وكأنها جامعات! ويشجعوا عليها، ويرصدوا لها الميزانيات الضخمة، ويوسعوا المناهج بحيث يسهل على الطلاب والطالبات الدخول لكافة أنواع الجامعات ولا تقتصر فقط على العلوم الدينية والشرعية.. وبعد كل هذا يضعون تمثال أتاتورك في قلب مدارس إمام خطيب، وصورته على الجدران! ويُدرسون مبادئه الثورية ضمن مناهجهم التعليمية، وكأن أتاتورك هذا هو شيخ الإسلام بتركيا!!

أتاتورك ـ الذي فرض بالجبر والقانون تعرية المرأة، ونشر الانحلال والإباحية، ومنع أتباعه في السابق دخول المحجبات الجامعات والمدارس ـ يجد طالبات مدارس إمام خطيب جميعهن محجبات، وبعضهن منتقبات! لذا أقول: لو كان حياً لقتل الطالبات والقائمين على أسلمته في ميدان عام!

فهو نوع من المناورة السياسية العجيبة، وعلاقة هشة اضطرارية ـ ربما فرضتها الظروف ـ ومحاولة التفاف بإعادة تفسير وتشكيل الأشياء التي لا تستطيع اقتلاعها من جذورها، وهذا ما حصل من بعض المستشرقين مع الإسلام، عندما عجزوا عن اقتلاعه من جذوره، حاولوا تفسيره تفسيراً علمانياً أمريكياً يتوافق مع ما يسمح به الغرب، فسمحوا فيه بالشعائر دون الشرائع، وبالعلاقة الروحية دون نظم الحياة الواقعية، وبأن يكون تابعاً لا مُهيمناً ولا حاكماً.

أما إن فعلوا ذلك عن قناعة بعظمة أتاتورك، فهم بذلك ضلوا ضلالاً بعيداً.

ولا ننسى جهود المجاهد الكبير نجم الدين أربكان وحزبه السلامة في مواجهة الأتاتوركية "فهاجمت الصحف الإسلامية ـ التابعة لحزبه ـ في تركيا كمال أتاتورك وأطلقت عليه اسم "الدجال" وضغط حزب السلامة الوطني على رئاسة الشؤون الدينية حتى أصدرت بياناً في حزيران 1973م أكدت فيه على دعوة المرأة التركية إلى الحجاب" [الدولة العثمانية، علي الصلابي، ص488] ومن ثم وقع الانقلاب العسكري العلماني عليه في 1980م، وقال قادة الجيش بكل وضوح سبب الانقلاب هو: "من أجل وقف المد الإسلامي".

كما لا ننسى جهود "حزب العدالة والتنمية" في عدم تجديد اسم "أتاتورك" مثلما فعلوا مع المطار الذي كان يحمل اسمه، فتم هدمه وتحويله إلى حديقة عامة لا تحمل اسمه، والمطار الجديد يحمل اسم "إسطنبول" وليس اسمه، فعسى أن يُعمم ذلك على كل مظاهر تواجده، وإرجاع القدوة المؤمنة الصالحة إلى نفوس الأتراك، وليس قدوة "دجال أثيم".

***

على إن الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ يتحدث عن محاولة "أسلمة أتاتورك" إلى ما قبل ذلك بكثير ولأسباب أخرى؛ من أجل خداع المسلمين، فيقول: "ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله. بعدما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك!.. لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجاً يؤثر في بقية المنطقة. لقد انخلعت من الدين، فأصبحت أجنبية عن الجميع، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم.. ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية، التي تستهدف نفس الهدف، أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية. فتضع على هذه التجارب ستاراً من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة، سواء بالدعاية المباشرة؛ أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين..

على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة، وبكل تضامنها وتجمعها، وبكل تجاربها وخبرتها، تحاول أن تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها (علمانية) تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلاً!

ويجهد المستشرقون (وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني) في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهداً كبيراً.. ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدوداً.. وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض.. ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر ـ الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة ـ من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية! ومن تبديل الدين باسم الدين! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصيلة باسم الدين أيضا. ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة؛ وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية.. الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام، من الكيد للإسلام!" [في ظلال القرآن، سورة الأنعام، ص 1222]

 ويقول أيضاً: ’’ولكن أولئك الأعداء الواعين ـ من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين! ـ لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة "أتاتورك" حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة "أتاتورك" في وجهتها الدينية، بستار الإسلام؛ ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع - وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة - ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً؛ ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية؛ وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة؛ ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها؛ لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً؛ يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين!

والسذج ممن يدعون أنفسهم "مسلمين" يخدعون في هذه اللافتة.. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض! فيتحرجون من إنزالها عن "الجاهلية " القائمة تحتها، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة.. صفة الشرك والكفر الصريحة.. ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة؛ لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة!

بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي؛ كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين .

هؤلاء السذج - من الدعاة إلى الإسلام - أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين، الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين!

إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة - في أي زمان وفي أي مكان - والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون؛ بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون، يتحرجون في غير تحرج؛ ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام؛ بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة!

إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذه الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف؛ وإظهارها على حقيقتها.. شركاً وكفراً.. ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم؛ كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة . بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم - وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير - عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم، ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون! 

  وكل تحرج في غير موضعه؛ وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات؛ هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً؛ وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة "أتاتورك" في التاريخ الحديث؛ وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة. نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح.. مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل "ولفرد كانتول سميث" في كتابه: "الإسلام في التاريخ الحديث" إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى، ونفي الإلحاد عنها، واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث "إسلامي" [كذا] في التاريخ الحديث!!!‘‘ [في ظلال القرآن، سورة التوبة، ص 1650]

وقد تتبع الأستاذ محمد قطب ـ رحمه الله ـ ما كتبه ولفرد كانتول سميث، وقال إن سميث يقول: "إن الكماليين الطورانيين ـ الذين فعلوا بالإسلام والمسلمين ما فعلوا ـ كانوا مسلمين، وإن التطور الذي حدث على أيديهم كان تطوراً إسلامياً، أو حركة في إطار الإسلام... وأنهم كانوا ينظرون إلى الممارسة الإسلامية للدولة العثمانية على أنها كانت مضيعة للدولة.. ويخلص [سميث] إلى أن الذين هدموا الدين واضطهدوا أصحابه ومنعوا كل مظاهره كانوا مسلمين... وكانوا يعملون بروح إسلامية لإحياء الإسلام، ولكن في صورة جديدة تغير الظاهر والباطن معاً!!" ويتساءل قطب: أي إسلام هذا يا ترى؟! إنه الإسلام الذي يرضى عنه الغرب، الذي يحمل اسم الإسلام، ولا يحمل شيئاً من حقيقة الإسلام!" [المستشرقون والإسلام، محمد قطب، ص243، 244]

فهناك محاولة سابقة لأسلمة أتاتورك لتغطية وجه حركته الإلحادية، ومحاولة تكييفها، وإعطاءها صفة الإسلامية لتعميمها على باقي الدول وليُكتب لها البقاء ـ كما حاول سميث ـ وهناك محاولة لأسلمة أتاتورك لتجاوز تاريخه، والعجز عن اقتلاعه من جذور الحياة التركية..

أتاتورك الذي جعل من نفسه "أبو الأتراك" وجعل هذا الاسم حصرياً له؛ ليجعلهم علمانيين (لا دينيين) بالانتماء والأصل، وما هو بذلك.. فأبو الأتراك الحقيقي هو الإسلام، وهو أصل وجودهم الحضاري والتاريخي.

***

ولكن هل محاولة أسلمة أتاتورك هذه محاولة مضمونة العواقب؟

الحقيقة إنَّ تركيا تعاني اضطراباً في الهوية، فهناك الهوية الإسلامية يدب فيها الحياة، وتعود من جديد، وهناك الهوية العلمانية تتميز من الغيظ والحنق، وتتحين الفرصة التي تنتقم ممن أهانها واستهزأ بربها الأعلى "أتاتورك"! وأنا أرى أنه لا يمكن التعايش بين الهويتين.. فالهوية الإسلامية مناقضة للهوية العلمانية، والإسلامية تريد السيادة والقيادة، والعلمانية تريد السيادة والقيادة، ولا أتحدث عن التدافع السياسي فحسب، إنما على المستوى الاجتماعي والأخلاقي والثقافي، وحتى الاقتصادي..

ومن جانب آخر: تبدو المكتسبات الإسلامية هناك مازالت هشة، وتحتاج إلى رسوخ، وتَجذر، وصفاء في الهوية.. لأن "الانقلاب العلماني" مازال ممكناً، وكثير من الشعب لا يُدرك عمق المشكلة، ومدى خطورتها.. لأنه ربما فقط يهتم بالجانب الاقتصادي، والرفاهية، ويظن أنه في مأمن من الانقلابات.

والدرس المستفاد هنا: هو المحاولة المستمرة، مهما كانت الظروف صعبة، ومهما كانت العقبات مستحيلة، فأسلمة أتاتورك بالنسبة لي من العجائب! وما وصلت إليه الحركة الإسلامية التركية ـ على كثير من المآخذ عليها ـ لهو عمل عظيم، وأجره عند الله كبير لو خلصت له النوايا.. وما أحب التأكيد عليه هو عدم الاطمئنان، واستمرار شعور اليقظة من هجمة الوحوش العلمانية الضارية التي هي مستعدة أن تحرق البلد كلها في سبيل العودة مرة ثانية إلى عهد الأتاتوركية الملحدة، وتقضي على المظاهر الشاذة في موازينهم مثل: حجاب المرأة والمدارس الدينية وكافة المظاهر الإسلامية؛ فهذا بالنسبة لها دين.. تَهون من أجله التضحيات، ولا ننسى من يقف ورائهم ـ من يهود وصليبيين ـ من أجل تزكية الحرب على الإسلام والمسلمين التي لم يخب أوارها يوما.

والإصلاح الاقتصادي والرفاه ليس به أي ضمانات.. فالتعثر والتضخم والحرب الاقتصادية والأزمات العالمية، تُسخط أي شعب طالما كانت الصفقة هي مجرد المتاع الدنيوي..

والديمقراطية ليس بها أي ضمانات.. فيمكن تأويلها بأنها "العلمانية الحصرية" التي تنتزع وتُخلص نفسها من "الرجعية الدينية" ومن الذين يستغلون الدين في السياسة، وستقوم بتطهير نفسها بكل وحشية منهم، وستقفز فوق اختيار الشعب كله، ورغباته.. لأنه لا يفهم الديمقراطية، ولا يستحقها، وسنرغمه قهراً وجبراً على الديمقراطية التي نريدها، ومبادئها العلمانية التي نحددها، والوسائل والأدوات التي نقرها، والفلسفات والأفكار التي نؤمن بها فقط، وسنحمي ذلك بالقوة العسكرية الغاشمة، وعلى الشعب أن يرضخ لهذه "الديمقراطية العلمانية" رغم أنفه! ويؤمن بها كما هي، ويمارسها كما نحددها له، فلا يخرج عن إطارها ومحدداتها ومبادئها، وهذا بالفعل ما حصل مع كل انقلاب في بلادنا!

إنما الضمانات ـ بعد عناية الله وحفظه ـ هو في بناء القوة الخالصة القائمة على رجال تحب الله ورسوله ودينه وكتابه..

ولا يحسبن أحد أننا بهذا المقال نُمجد حزب العدالة والتنمية ـ فعليه الكثير من المآخذ العظيمة والعريضة ـ ولكن موقفنا منه، هو نفس موقفنا من الأحزاب التي تجعل الإسلام أو الثقافة الإسلامية مرجعية لها، دون أن تتجاوز هذا الحد، وهو:

ـ إننا ندعم حزب العدالة ـ وأمثاله ـ عندما يكون البديل هو حزب أتاتوركي علماني مُلحد.

ـ إننا لا ندعم حزب العدالة ـ وأمثاله ـ عندما يكون البديل إسلامياً خالصاً، جاعلاً المرجعية العليا لكتاب الله، وله مظنة تحقيق هدفه.

ـ إن عدم وجود الحزب الإسلامي الخالص لا يعني إجازة مفتوحة، بل يعني العمل المستمر على كافة الأصعدة، من أجل ليس الانتصار السياسي المحدود، بل الهدف الأسمى هو رد الناس أولاً لدينها رداً جميلاً، وإفهامها مسؤوليتها الفردية والاجتماعية والسياسية تجاه رسالة الإسلام،  وإقامة شريعة الله، وجعل المرجعية العليا كتاب الله، وليس مجرد حزب يتنافس على رضى الناس، التي سرعان ما تسخط إن تأثرت الرفاهية الاقتصادية.

والعمل الدعوي المستمر، والإصلاح الفكري الراقي؛ يُخرج الأجيال من الظلمات إلى النور، وكل فرد صالح ينجو من وحل (الإلحاد والإباحية) هو نواة أسرة صالحة، والأسرة الصالحة نواة المجتمع الصالح.

وعلى من يهتم بشأن تركيا، ويريد لها الخير والقوة والازدهار.. أن يضع خطة راشدة مستمرة ومتنوعة وبأنشطة مختلفة لمسيرة العمل الدعوي والإصلاحي الإسلامي، ولا يدخر مالاً ولا وسعاً في سبيل ذلك.

وصلاح أي دولة من بلدان العالم الإسلامي ـ مهما كانت صغيرة ـ لينعكس أثره إيجابياً على جميع المسلمين في كل مكان، فما بالنا ببلد عظيم مثل تركيا كانت هي دولة الخلافة قبل سقوطها، فضلاً عما تملكه من قوة جيوسياسية، واقتصادية، وعسكرية.. ومن جانب آخر: فالجغرافيا السياسية لتركيا جغرافيا معادية محاطة بالأعداء من كل جانب، وعند ضعفها لن ينفعها أحلاف ولا معاهدات ولا حقوق ولا اتفاقيات، والجغرافيا الآمنة لتركيا هو توحدها مع جذورها الإسلامية، ولكن وقف النظام العلوي اللعين في سوريا وملاحدة الكرد حجر عثرة في هذا الطريق!

وإن ما تم خطوة على طريق طويل، وأكبر ضمانة للحفاظ على المكتسبات هو وجود شعب خالص الهوية الإسلامية، عارف بدينه وربه وكتابه ورسوله.

ولا ننسى أن العنصر القومي التركي لم يكن له أثر ولا حياة ولا وجود ولم يَتكّون كأمة إلا بهذا الدين العظيم، فالذي رفع ذكرهم كان هو الإسلام ولا شيء غيره، وأحبهم أهل الإسلام لجهادهم باسم الإسلام.. ولو أردناها "قومية تركية" بحق فليس لها إلا وجه واحد كان هو "الإسلام"، وما دخلوا الأناضول وإسطنبول وباقي البلاد إلا براية الإسلام والجهاد، فوجودهم القومي والتاريخي والجغرافي والديموجرافي كان إسلامياً تحت راية الإسلام.

ولعله يأتي اليوم الذي تتطهر فيه تركيا من آثار هذا الدجال اللعين "أتاتورك"، وتمحو ذكره، وأثره ـ اللهم إلا تأريخاً حقيقياً لجرائمه ومفاسده ـ وتستعيد هويتها الإسلامية وقوتها؛ فيكون اعتزازها فقط بدينها وكتابها ورسولها، ونسأل الله العظيم أن يهديهم سبيلاً رشدا لذلك، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.

***

ولعلني أكون مخطئاً في مسألة "أسلمة أتاتورك"؛ فليُصحح لي إخواني المسلمين ـ الأتراك والعرب وغيرهم ـ وإذا أصبت، فمن الله الفضل، وليَزيدوا الفكرة كتابة وإثراءً، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

***

راجع  إن شئت: 

أ. مقالات "مجلة المنار" التالية:

ـ ‌‌الانقلاب الديني السياسي في الجمهورية التركية. (المجلد 25، عدد رمضان 1342 هـ).

ـ ‌‌الدين والسياسة وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم. (المجلد 26، عدد رمضان 1343 هـ).

ـ ‌‌فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر. (المجلد 27، عدد رمضان 1344 هـ).

ـ ‌‌الجهر بالإلحاد ودعايته باسم التجديد. (المجلد 29، عدد ذو الحجة 1346).

ـ خطر هجوم الكماليين على الإسلام. (المجلد 29، عدد ربيع الآخر 1347 هـ).

ـ حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام. (المجلد 29، عدد ربيع الآخر 1347 هـ).

ـ الحكومات اللادينية للشعوب الإسلامية الأعجمية. (المجلد 29، عدد جمادى الآخر 1347 هـ).

ـ مقال: ‌‌"أياصوفيا"، للشيخ علي الطنطاوي من كتاب "نور وهداية".

ب. [الرجل الصنم، لضابط تركي سابق، ص 379].

***