قائمة المدونة محتويات المدونة

14‏/02‏/2023

الزلازل.. والابتلاء الإلهي

كل ما يقع في هذه الحياة الدنيا هو في حقيقته ومظهر، شكله، ورسمه "ابتلاء" حددته الآية المباركة: {كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِ ‌وَنَبۡلُوكُم ‌بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ} [الأنبياء: 35] هذه الآية تلخص الحياة الدنيا، حيث الموت والرجعى إلى الله، والابتلاء بالسراء والضراء، يكشف حقيقة الإنسان، وإيمانه، وعمله.

مشكلة الإنسانية في الحياة الدنيا هي: الغفلة والنسيان، والبطر والطغيان.. يحسب الإنسان أنه سارد في هذه الحياة في ميكانيكية ثابتة، وحتميات من عند نفسه، فتقع الابتلاءات الإلهية؛ لتزلزل الإنسان زلزلة عسى أن يستفيق.

والزلازل والأوبئة وغيرها من الكوارث التي يُسمونها "طبيعية" ـ أي أن الطبيعة هي التي أحدثتها! ورغم شيوع هذا اللفظ، فأين هي إرادة هذه الطبيعة حتى تقرر، وتقضي؟! ـ هي من ضمن هذا الابتلاء المقدور على الإنسانية..

إنَّ كل ما يقع في الوجود من أحداث هو من تدبير الله ـ جل جلاله ـ القَيم على هذا الوجود، والمُدبر لكل صغيرة وكبيرة فيه، هيمنة كلية مطلقة، ومشيئة حرة مطلقة لا تعترضها مشيئة..

وقد يكون في الزلازل والمحن والشدائد المنح والفيض والرحمة والمغفرة، وقد يكون في المسرات والعطاءات والحياة الزاهرة العقوبة والغضب واللعنة!

كيف يكون ذلك؟!

عندما نعرف معنى الحياة، وامتدادها يتكشف لنا معنى الابتلاء، ونعرف أن الحياة الدنيا مجرد مرحلة عابرة سريعة في رحلة الإنسان الكبرى، بعدها تبدأ الحياة، فيقول الإنسان عندما ينكشف عنه ستار الغفلة: {لَّقَدۡ ‌كُنتَ ‌فِي غَفۡلَةٖ مِّنۡ هَٰذَا فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡيَوۡمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] ويقول الإنسان بعدها: {يَٰلَيۡتَنِي ‌قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أما الدنيا.. فهي مجرد "مدة من الحياة للاختبار" فالكل في النهاية سيموت، وإلى الله الرجعى.

إنَّ البأساء والضراء واقعة حتماً في هذه الحياة الدنيا، ليتم الابتلاء ـ الاختبار ـ ولأن الدنيا "دار عمل" لا "دار جزاء"، وكُتب عليها النقص، فلا يكاد تتم نعمة فيها إلا ويأخذ النقص منها؛ حتى لا يَركن أهلها إليها، ولا يكاد تتم مصيبة فيها إلا ويدب إليها دبيب الرحمة؛ حتى لا يقع اليأس والقنوط.. ولا يدرك ذلك إلا قلب المؤمن.

هذه الابتلاءات تقع على الإنسانية كلها، ولا رد لها، ولا حيلة لها أمامها، والقضية ليس في ردها، إنما في كيفية مواجهتها، هذه هي الغاية منها.. فالعلم الإنساني على تطوره المذهل، وعلى تراكمه المعرفي، أقصى ما يستطيع عمله أمام مصيبة مثل الزلازل أن يرصد، ويُحلل، ويُفسر، ويتابع.. لا يستطيع شيئاً أكثر من ذلك، ولو تضاعف علمه أضعافاً مضاعفة ما استطاع أكثر من ذلك، وفي هذا لبيان بضعف الإنسان، وبحاجته إلى الله، إلا أن الغفلة والاستكبار، وكيد شياطين الإنس والجن، تقعد له على صراط الله المستقيم.

وإذا كانت الابتلاءات واقعة لا محالة، والعبرة في كيفية مواجهتها، فما هي المواجهة الصحيحة لها؟

يُبين لنا القرآن الكريم أحوال المؤمنين، وأحوال غير المؤمنين:

فأما غير المؤمنين، فحالهم:

* الطغيان: {وَمَا ‌نُرۡسِلُ ‌بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا} {وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا طُغۡيَٰنًا كَبِيرًا} [الإسراء:59، 60] 

* قسوة القلوب: {فَلَوۡلَآ ‌إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} [الأنعام: 43] 

غير المؤمنين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر (الإيمان الاعتقادي بإنكار الغيب) أو (الإيمان العملي الصادق باليوم الآخر) هؤلاء يُفسرون الحياة الدنيا، بأنها هي كل شيء، وليس من ورائها شيء، فيحاولون أن يركضون فيها بكل "وحشية" فيكون متاعهم فيها يصحبه: البَطر والسرف والطغيان، وتكون مصيبتهم فيها: اليأس والجحود والإنكار، وقسوة القلوب..

فمثل الزلازل من الآيات التي يُخوف الله بها عباده؛ لعلهم يتضرعون، ويلجؤون إلى الله، فهي لهم منحة، وتذكرة، قبل أن يشاهدوا الزلزلة العظيمة التي تخر فيها الجبال هدا، وتنشق الأرض شقا، ويُبعث فيها الخلائق.. إنهم ينظرون إلى كل ذلك باستخفاف، ويبحثون قديماً في لعنة الآلهة، وتقديم القرابين للأصنام والأوثان، وحديثاً في التفسيرات العلمية، والنظرية تأليهاً للعلم!! هذا "الطغيان الكبير" هو الكارثة الحقيقية وليس الزلازل ولا ما شابهها من كوارث..

فليست الزلازل هي التي تقتل! بل الله ـ جل جلاله ـ وحده لا شريك له هو الذي يُحيي ويُميت، ولو كان الزلزال قاتلاً لكان أول المقتولين هم الأطفال الرضع الذين خرجوا أحياء بعد أيام من تحت الأنقاض!! ـ كما رأينا في زلزال تركيا وسوريا ـ الزلازل مجرد أسباب تقع بأمر الله، ويُدبر أمرها الله سبحانه وتعالى. فسبحان الذي: {يُخۡرِجُ ‌ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ} [الأنعام: 95]، فمن مات فقد انتهى أجله: {لِكُلِّ ‌أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]  {فَإِذَا ‌جَآءَ ‌أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ} [النحل: 61] 

وبدون الزلازل فالإنسان ميت.. ميت، سيدركه الموت أينما كان: {أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].. وليس منه مهرب، ولو هرب منه الإنسان كل مهرب: {قُل ‌لَّوۡ ‌كُنتُمۡ ‌فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} [آل عمران: 154]﴿وَمَا ‌كَانَ ‌لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا[آل عمران: 145] {قُلۡ ‌إِنَّ ‌ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} [الجمعة: 8] 

وإذا أراد الله بأسه فلا راد له: {أَفَأَمِنَ ‌أَهۡلُ ‌ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا بَيَٰتًا وَهُمۡ نَآئِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا ضُحًى وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ} [الأعراف: 97-98] 

الطغيان الكبير هو أكبر مصيبة تحل على الإنسان، فتورده الخسارة الكبرى.. خسارة الآخرة، وتأتي الآيات البيّنات المسطورة في الكتاب، والمنظورة في صفحات الكون، فتصادف قلباً قاسياً، لا يرجو لله وقارا.. ولا يعرف للإيمان طريقاً، رانت عليه الذنوب حتى أظلمته فصار كالحجارة أو أشد قسوة.. وصار كل كفره وفسوقه وعصيانه ونفاقه، يرتدي قناعاً من الزينة، والحكمة، والعلم، والفهم، والضرورة: {وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ}..

هؤلاء هم الهلكى حقاً، وهؤلاء هم الخاسرون أبداً.. فماذا بعد ذلك من آية وتخويف وقدرة مطلقة أن تتزلزل الأرض لثوان معدودات، فينتهي كل شيء في لحظات.. {هَلۡ ‌يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَةً وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} [الزخرف: 66] إنهم يلجون في العناد والطغيان والكفران والقسوة! ولا تهز هذه الآية فيهم شيئاً، فالقلوب حجارة قاسية ـ والعياذ بالله ـ بل وصل الأمر إلى صورة لا يمكن تخيلها، عندما يموت غير المؤمن، وينكشف له عالم الغيب، والبرزخ، ويشاهد مشاهد الآخرة حتى وصولاً إلى النار، ويطلبون محاولة ثانية بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، فيقول تعالى في ذلك: {وَلَوۡ ‌رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} [الأنعام: 28]  فيا سبحان الله!! هذا ما يجب أن يشغل بال كل إنسان أن يتحول قلبه إلى هذه الحجارة القاسية الطاغية الصلدة العنيدة التي تكفر كل شيء، وتتنكر لكل إيمان، وتُعرض عن كل آية، ولا يكون مصيرها إلا النار.. هذه هي الخسارة الكبرى العظيمة، والخزي الأبدي الدائم.

***

وأما الذين آمنوا، فحالهم:

* التسليم والرضا: {وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٍ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ. ‌ٱلَّذِينَ ‌إِذَآ ‌أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ. أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٌ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ} [البقرة: 155-157] 

* التوكل على الله: {قُل ‌لَّن ‌يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} [التوبة: 51] 

* الاعتدال: {مَآ ‌أَصَابَ ‌مِن ‌مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ.  لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23] 

فالمؤمنون في حالة من الرضى والتسليم والبشرى، فطالما قلوبهم موصلة بالله، فأمرهم كله خير، كما جاء في الحديث الشريف: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" [صحيح مسلم/ 3001]

إنَّ المؤمن يؤمن بقدرة الله، ويرضى بقضائه وقدره، ويعرف أن هذه الدنيا هي ورقة امتحان، ومدة امتحان، وما يجد فيها من ضراء وسراء كله ابتلاء.. وقد يكون ابتلاء الضراء أخف من ابتلاء السراء، ففي الضراء قد لا يكون حيلة أمام تماسك الإنسان وثباته إلا الصبر، وأما ابتلاء السراء فهو المُنسي، والمُخدر، والساحب للإنسان من طرف ما يشتهي. لذا فالمؤمن لا ييأس عند المصيبة (عندما ما يفوته متاع وزينة)، ولا يتبطر ويطغى (عندما يدرك المتاع والزينة والقوة).

والملحد عندما ينظر إلى الحياة الدنيا نظرة نهائية لا حياة بعدها فإنه يعترض على قضاء الله وقدره، وعدله وحكمته.. ويتساءل: لماذا يموت الأطفال والصغار والأبرياء؟ وعندما يعجز عن التفسير فإنه يتجه إلى الإلحاد.. بينما المؤمن يستقيم على الصراط المستقيم حيث: التسليم والرضى والصبر والاحتساب والتوبة والمغفرة والإيجابية والحركة الدؤوب.. بلا يأس ولا قنوط ولا تكبر ولا طغيان.

فالمؤمن: {يَحۡذَرُ ‌ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].. يحذرها بعمله الصالح، ويرجو رحمة ربه تسليماً له، ولا يهاب الموت، ولا الفقد، ولا الحرمان، فهو يعرف أن كل ذلك فيه منحة إلهية: من مغفرة الذنوب، ورفع الدرجات، وعوامل تساعده على أن لا يطغى: الطغيان الكبير، أو يقسو قلبه فيكون كالحجارة، وعندها يخسر الخسران المبين، ويسقط في الخزي العظيم، كما هو حال غير المؤمنين.

المؤمن: في حالة من التسليم المطلق، فهو يتخذ الله ولياً، ونصيراً، وعندما تقع المصيبة ـ التي يكرهها، وقد تحمل في طياتها الخير كله ـ فإنه يقول: {لَّآ ‌إِلَٰهَ ‌إِلَّآ ‌أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ} [الأنبياء: 87] فيَعتمل في قلبه "حساسية التقوى" والوجل من الله.. ويخشى أن يكون قد أُصاب بذنبه، فهو لا يثق في نفسه وعمله الصالح، إنما يثق في عفو الله، ورحمة الله.

هنا يُنزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ رحمته، وينشر فضله، تنزل السكينة والطمأنينة، والصلوات، والرحمات التي تعصم المؤمن من اليأس من رحمة الله، وتحميه من الجزع، والفزع، والأسى الذي قد يدفع غير المؤمنين إلى الاكتئاب والانتحار والأمراض النفسية الموحشة، وما ينعكس من آثارها القاتلة على الأجساد من أمراض عضوية.

هنا ـ عند التسليم المطلق لقضاء الله وقدره ـ تتضاعف الحسنات، وكل شوكة يُشاكها المؤمن تكون له حسنة! جاء في الحديث الشريف: "مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا" [صحيح البخاري/ 5640] وفي رواية: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" [صحيح البخاري/ 5642]

بل تكون مثل هذه الأهوال من هدم وغرق ومرض، في منزلة أجر الشهداء عند الله، إذا تلقها المؤمن بالعمل الصالح، والإيمان الراسخ: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [صحيح البخاري/ 2829]

ومع نعمة الصبر عند البأساء والضراء، فإن الله يدخر لعباده المؤمنين نعمة من أعظم النعم، نعمة دخول الجنة بغير حساب ـ ومن نُوقش الحساب عُذب، مجرد مناقشة وتحقيق، كما جاء في الحديث الشريف ـ وجعل هذه الصفة ـ صفة الصبر ـ من صفات المؤمنين الصادقين المتقين: {... وَٱلصَّٰبِرِينَ ‌فِي ‌ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ولذلك: {إِنَّمَا ‌يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] 

ومع كل هذا التسليم والرضى وصدق اللجوء إلى الله، ونداوة القلب بذكره، وتواضع العمل لعظمته، يكون التوكل على الله، وهو "مجال العمل، وحركة الإرادة الإنسانية".. إنها الخلافة الراشدة على الأرض، فليس معنى التسليم والرضى، وتذكر الدار الآخرة، وإدراك لحقيقة الموت الشاخص أمامنا كل لحظة، والذي يتحسس أنفسنا مع كل نبضة.. ليس معناه الانقطاع عن الحياة الدنيا، ولا الانعزال في زواياها، ولا اليأس من الإصلاح والبناء، فليس ذاك بمؤمن.. إنما هو يائس يلبس لباس الإيمان!

وقد منح الله ـ جل جلاله ـ الإنسان القدرة على التكيف والتجاوز، فمن أخذها برضى فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط.

فالإيمان ـ بعد المصيبة ـ هو النهوض بكل جد، وقوة، وعزيمة، وثقة في الله، ليكون العمل ـ في مثل هذا الموقف ـ من:

ـ إغاثة الملهوف، وجبر العاجز، وعلاج المريض، ومساعدة المحتاج والفقير. وكفالة ورعاية اليتيم والضعيف والمسكين والمُشرد والمُطارد والمريض والمكروب وذا الحاجة، انطلاقاً من الإيمان بالله، والرحمة بأخوة الإسلام، فهذا هو الأساس، ودونه حبوط الأعمال! الرحمة.. فهي أمة واحدة، وبنيان واحد، وجسد واحد لا فرق فيه بين أحد لبناته إلا بالتقوى، فالإسلام لا يعرف القومية، ولا العنصرية، ولا التفرقة الجنسية، ولا يُفرّق بين الناس على أساس سوى موقفهم من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

ـ ولتكون الدراسة العلمية الدقيقة التي تحول دون مضاعفة آثار هذه الكوارث، من حيث دراسة الأرض، ودراسة وسائل البناء المتينة. والإجراءات الرقابية والتنظيمية في البناء، ومحاسبة المُقصرين والمفسدين. والتأمين التعاوني لا الربوي ولا السحتي، ولا أكل أموال الناس بالباطل، والتكافل الذي يحقق العدالة الاجتماعية الربانية.

ـ وليكون فهم هذه الظواهر فهماً صحيحاً وعلمياً، إيماناً بالله الذي أمرنا أن نسير في الأرض، وننظر كيف بدأ الخلق.

وبذلك تتكامل الشخصية المسلمة ـ المؤمنة ـ التي تُسلم الروح لله رب العالمين، فلا ترى سواه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تسأل إلا رحمته وفضله، وفي نفس اللحظة تُطلق اليد والعقل ـ باسم الله على شريعة الله ـ تعود لتبني من جديد، وتستأنف الحياة، فهي فرصة عظيمة، ووقت إضافي يمكن فيه تحسين الدرجات، وإصلاح الأخطاء، ومعالجة الخلل، والغفلة، والضعف، والزلل.

***

إنَّ كارثة الإنسانية الكبرى، الكارثة التي لا يُعوضها شيء، ولا يقوم لها شيء، الخسارة المُبِينة، والخزي العظيم، هي: الطغيان الكبير، وقسوة القلوب. فهذه تؤدي بالإنسانية إلى عذاب النار الأبدي وبأس المصير.

والله ـ جل جلاله ـ قد يسخط على قوم، فيُعطيهم من كل شيء: {فَلَمَّا ‌نَسُواْ ‌مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةً فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} [الأنعام: 44] فقد كان فتح الله عليهم من النعم والمسرات والعطاءات كلها لهم عقوبة، وعاجلة لهم في الدنيا، وإملاء للظالمين! وقد يكون المرض، والسجن، والعذاب، والإلقاء في النار ـ كما تعرض لذلك رسل الله وأنبياءه ـ رحمة منه وفضلاً، وعوضاً عظيماً في الآخرة.. جاء في الحديث الشريف: "يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ فِي النَّارِ غَمْسَةً، فَيُغْمَسُ فِيهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلَانُ، هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ، فَيَقُولُ: لَا مَا أَصَابَنِي نَعِيمٌ قَطُّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلَاءً، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ: فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً، فَيُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلَانُ، هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ أَوْ بَلَاءٌ، فَيَقُولُ: مَا أَصَابَنِي قَطُّ ضُرٌّ وَلَا بَلَاءٌ" [سنن ابن ماجه/ 4321، وصحيح مسلم]

إنَّ قدر الله ـ جل جلاله ـ لا يُمكننا إدراك كنهه بالكلية، فالله ـ سبحانه ـ يدبر أمر الوجود كله ـ غيبه وشهوده أوله وآخره ظاهره وباطنه ـ والله ـ رحمة بنا ـ يكشف لنا عن بعض حكمته، فيما يخص قضية الإيمان واليوم الآخر أهم قضية للإنسانية كلها، ونحن نؤمن بذلك بالجملة وعلى الغيب، سواء أدركنا الحكمة من قضاءه وقدره أم لم ندرك في عمرنا المحدود وأجلنا المقدور، ورؤيتنا القاصرة، وعقولنا البسيطة! ولا يُقاس التدبير والقدر الإلهي، بالفعل والنظر الإنساني أبداً، ومطلقاً من كل وجه؛ فالله ليس كمثله شيء.. جل جلاله.

ولقد كان في قصة موسى ـ عليه السلام ـ مع العبد الصالح بياناً لشيء من القدر والحكمة الإلهية، فما قد يبدو شراً ـ بالقياس الإنساني ـ كان يحمل في طياته الرحمة. وما قد يبدو خيراً قد يحمل في طياته النقمة والعذاب.

والمؤمن إلى تسليم ورضى، وبشرى ورحمة، عينه على "الدار الآخرة"، ينظر في صحيفة أعماله في الدنيا، ويراجع أجوبة جميع الأسئلة، يستغفر، ويرجع، ويتوب، ويُنيب.. وينطلق (يعمل صالحاً) بكل فاعلية وحركة لخلافة الأرض الخلافة الراشدة، وإعلاء كلمة الله في أرضه.

***

«اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن ‌تحول ‌عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن جميع سخطك»

«اللهم إنا نسألك ‌عيشة ‌هنية، وميتة سوية، ومرداً إليك غير مخز ولا فاضح»

«اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، اللهم استر عورتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين يدينا ومن خلفنا، وعن يميننا وعن شمالنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن ‌نغتال ‌من ‌تحتنا»

{رَبَّنَا ‌لَا ‌تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} [الممتحنة: 5]

***