نُبارك لتركيا فوز الرئيس أرودوغان، والحمد لله رب العالمين. ونشارك المسلمين فرحتهم التي تدل على وحدة الشعور، والنبض الإسلامي الحي، فأوروبا ـ مثلاً ـ على وحدتها السياسية لا تجد فيها من يفرح لفوز رئيس في غير بلده، وإنْ كان هذا الفرح لدليل "عجزنا" عن التمكين الحقيقي للإسلام! فنسأل الله أن يوفقنا للعمل الراشد بما يعز به الإسلام والمسلمين.
ولئِن كان هذا الفوز أسعد الكثير من المسلمين في العالم الإسلامي عامة، والعالم العربي خاصة، آملين أن يكون فيه عزة للإسلام والمسلمين، وقمع للعلمانيين؛ فإنه وضعهم أمام تحديات كبرى.
ففوز الرجل بهذه الصورة، سيُعزز ـ فيما نتوقع ـ من القبضة والهيمنة الغربية والسيطرة على العالم العربي خاصة، ولن يسمح (أهل الكتاب والمنافقين) بالوقوع في "الخطأ التاريخي" الذي وقعوا فيه ـ في السابق ـ في تركيا؛ وحاولوا استدراكه بالانقلاب العسكري الفاشل في 2016م، وما تلاه من حرب اقتصادية، ورغم الحشد للمعارضة والدعم الأمريكي والغربي السخي لها في هذه الانتخابات، إلا إنها فشلت أيضاً.
ففوز أرودوغان بالنسبة للغرب سيظل "تجربة مريرة" سيعمل بكل قوته أن لا تتكرر مرة ثانية، مهما بلغت الأثمان؛ فالغرب ـ وكلاب حراسته ـ حريص على أمرين:
الأول: علو العلمانية الغربية باعتبارها هي "المرجعية العليا" وإلغاء أي مرجعية للإسلام على كل المستويات بما فيها الأخلاقية والتعبدية والفكرية والثقافية، فضلاً عن التشريعية والحُكمية، وهذا ما يفسر اعتبار "الشذوذ الجنسي" (عقيدة) يجب الدفاع عنها! وليس مجرد حرية شخصية بالنسبة له، بل أصبح يعاقب ويحاكم من يرفض الشذوذ، ويعتبر "الفضيلة الفطرية" جريمة ومرضاً نفسياً! ويفرض على الأطفال تعلم الشذوذ في سن صغيرة جدا ضماناً لانتكاس فطرتهم! ويُهدد بالعقوبات الدول التي لا تقوم بتطبيع "فاحشة قوم لوط" في وقاحة منقطعة النظير، وجرأة شيطانية عجيبة!
والثاني: عدم الاستقلال الوطني، وتفريغ بلاد المسلمين من كل مقومات القوة والسيادة والاستقلال، والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها، وجعلها ذيل ذليل تابع للغرب في كل منتجاته الفكرية والاستهلاكية والحضارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والسياسية.
وقد كان هذا باختصار "مشروع المعارضة التركية" والذي لم يغفل أيضاً موضوع "الشذوذ الجنسي" ودعمه له! إضافة إلى تحقيق الخطة الأمريكية القديمة بإقامة الدولة الكردية.
ويجب أن نُبين
أن المسلم لا يرتضي حكم هؤلاء ولو كانوا أغلبية، ولا يرتضي شرعية وجودهم السياسي
ابتداء كمعارضة، إلا أن يكونوا ممثلين عن طوائفهم غير المسلمة. وشرط مسالمة الإسلام والمسلمين، والخضوع لنظامه.
فهذه المعارضة ليس لها شرعية ابتداء؛ فالاجتماع يجب أن يكون باسم الله، وعلى أساس الانتساب للإسلام. وليس على أساس محاربته في شعائره وشرائعه! فهو بذلك في وضع "المحاربة لله ورسوله" وليس في وضع "الحق السياسي الديمقراطي". حسبما تقرر "قواعد الشورى" في الإسلام، والمخالفة للفكر الديمقراطي، وإن التقت معه في بعض الممارسات. [راجع مقال: الفرق بين الشورى والديمقراطية، وصور المعارضة السياسية]
***
كما وجد الغرب ارتباط المشروع الإسلامي بالاستقلال الوطني وقوة الدولة، ووجد في المتنفس الديمقراطي خطورة كبيرة! ولن تكف مراكز أبحاثه عن إصدار التحليلات والدراسات والتقارير التي توضح أسباب الوقوع في هذا الخطأ التاريخي، وكيف تتجنبه لاحقاً.
وهذا سيجعل الغرب يزيد من الاستثمار في الأنظمة العسكرية والملكية الفاسدة، ويستثمر في الطغاة والبغاة والمنافقين، ويدعمهم بكل قوة، وربما يتراجع دعمه لفكرة الترويج للديمقراطية ودعم الأحزاب العلمانية في بلادنا؛ لأنه لو حصلت انتخابات نزيهة ولو مرة سيكتسح التيار الإسلامي، مهما دعم الغرب الأحزاب العلمانية. وهو لا يهتم ابتداء للديمقراطية ولا يدعو إليها في بلادنا إلا من أجل "الفقر، والفحشاء".
وهذه التحديات يجب أن تشغل بال كوادر المسلمين، وقيادات المستقبل ـ إن شاء الله ـ في إيجاد الحلول والبدائل، ولا يغرّنهم كلام الغرب عن "العرس الديمقراطي" فهذا دجل يترفع عنه عقلاء المسلمين! فهم قد اعتبروا أرودوغان ـ رغم نزاهة الانتخابات ـ "ديكتاتوراً مستبداً"؛ لأنه لا يروق لهم، وليس على هواهم، وليس هو تابع لهم!
فيجب قراءة "التجربة التركية" في سياقاتها الصحيحة، وملابساتها التاريخية، دون غلو أو شطط أو غرور، والنظر في الضربات التي تعرضت لها، وكادت أن تقضي عليها من قواعدها، لولا لطف الله ورحمته بالمستضعفين، لكان أرودوغان وحزبه مُعلقين على أعواد المشانق! كما حصل من قبل.
ومن شدة تعقيد الواقع التركي والتحديات وطبيعة التركيبة السياسية، وترسخ وتجذر العلمانية بها، فإن أرودوغان وحزبه حاولوا أكثر من عشرين عاماً من أجل بناء مسجد تقسيم، ويحكي أرودوغان ويقول: لم نكن قادرين على تعيين موظف واحد في فترة من الفترات رغم وجودهم على رأس السلطة، وغير ذلك أمثلة كثيرة!! ولا ينفي ذلك "تحفظنا الشديد" على كثير من القضايا والمسائل التي يمارسها أرودوغان وحزبه وننكرها بكل شدة ووضوح، فنحن هنا لا ندافع عنه، ولا نبخسه حقه.. إنما نحاول الاستفادة والتعلم من التجربة، دون الغرور بالأوهام والأماني.
و"كيد الغرب، وكلاب حراسته" ليس قدر الله ـ والعياذ بالله ـ كل ما هنالك.. إن الله يُمد هؤلاء وهؤلاء، ويبتلي الجميع، وتمضي الحياة وفق سنن الله في أرضه، وهناك دوماً منح إلهية، وفرص تحول ولحظات فارقة من يدركها فقد نال شرف الإصلاح، وإنقاذ الأمة.
والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وكلما كانت "النفس الاجتماعية" متماسكة واسعة واحدة يشد بعضها بعضاً، كلما كان "وسعِها" عظيم الأثر، والأمر بسيط: التمسك بالمبادئ الإسلامية ـ دون تلون ـ والعمل بالحديث الشريف: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ".
فالمسلم يُفرق بين (الصواب) و(الممكن)، فالصواب: هو الصورة المثالية التي ندعو إليها، ونؤمن بها، ولا نتنازل عنها، ولا نساوم عليها، وإليها نسعى ونجهد.
و(الممكن): هو خطة العمل المتاحة ضمن الظروف والأدوات والملابسات. فلا يقعدن بنا "الصواب" عن العمل الممكن، ولا "العمل الممكن" ينحرف بنا عن الصواب، ويُنسينا إياه، فلا نصل إليه أبداً.
والصواب: هو إعلاء الإسلام، وجعله هو المرجعية العليا التي تَعلو ولا يُعلى عليها، وهو الشريعة الحاكمة، وهو أساس الاجتماع والانتساب والهوية والثقافة والفكر والحضارة.
والممكن: هو كل ما يؤدي إلى هذا الطريق، وكل ما يحمي للمسلمين دينهم وأمنهم، وحياتهم ومقدراتهم وثرواتهم، ويدفع عدواً يكره ليس الإسلام وشريعته فحسب، ولا الإسلام وشعائره فحسب، بل يكره اسم الإسلام، وأسماء المسلمين.. وما تخفي صدورهم أكبر ـ بل يكره كل من يريد القوة والسيادة لبلاده أياً كانت ملته؛ لضمان الهيمنة العالمية ـ وهم في تَدافع مستمر لردة المسلمين عن دينهم ـ واستعبادهم هم وكل المستضعفين في الأرض ـ وكل صد لهذا الهجوم، وكل جهد يُحيد هذا العدو، وكل متنفس، وكل ملجأ، وكل خطوة على الطريق.. لهو عمل عظيم وجهاد كبير إذا كان خالصاً لوجه الله الكريم.
***
راجع إن شئت:
ـ مقال: أسلمة أتاتورك.
ـ مقال: صور المعارضة السياسية.
ـ بحث: الشورى وآلياتها ومعالم الدولة المسلمة.
ـ بحث: الثابت والمتغير في العمل السياسي الإسلامي.
ـ تلخيص: كتاب الحكومة الإسلامية.
***