قائمة المدونة محتويات المدونة

22‏/04‏/2024

كعب بن الأشرف.. درس في المواجهة

 

يناقش هذا المقال قصة قتل "كعب بن الأشرف" من رؤوس يهود بالمدينة المنورة، ولماذا تم قتله؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه القصة؟

كعب بن الأشرف من يهود بني النضير، ومن رؤوسهم بالمدينة المنورة وقَيّمُهم، إبان تشريف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها.

وكان الوضع الاجتماعي السياسي بالمدينة كالتالي: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلاطٌ، مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ وَمِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، وَمِنْهُمُ الْيَهُودُ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ وَهُمْ حُلَفَاءُ لِلْحَيَّيْنِ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلاحَهُمْ كُلَّهُمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَبُوهُ مُشْرِكٌ، وَالرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَخُوهُ مُشْرِكٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ  يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابَهُ أَشَدَّ الأَذَى، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصَّبِرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، فَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾...". [السنن الكبرى للبيهقي/ 9 : 181]

وجدها كعب فرصة لينفث سمومه في مجتمع المدينة الوليد، وزاد كيده وعدائه لشخص الرسول الكريم والإسلام والمسلمين درجة خطيرة خاصة بعد معركة الفرقان الكبرى. الأمر الذي كان يقتضي السرعة والكتمان في تحييده، وهذا يعتبر عملاً من أعمال الدولة.

وهذه لائحة الاتهام الثابتة على كعب:

ـ سب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإطلاق "الحرب الإعلامية" ضد شخصه الكريم، وضد الإسلام ذاته، والتمادي في ذلك.

ـ التشبيب (التغزل والفتنة) بنساء المسلمين.

ـ الذهاب لقريش (من المدينة إلى مكة) لتأليب قريش؛ وتشجيعها على حرب رسول الله ـ عليه السلام ـ وغزو المدينة، والتأكيد على صحة ما عليه قريش من شِرك!

ـ التدبير لمكيدة لقتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه من الصحابة.

وهذه بعض المصادر التاريخية المذكور فيها ذلك:

ـ "كَانَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ يَهْجُو النَّبِيَّ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ" [سنن أبي داود/ 3000]

ـ "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ أَتَوْهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَالسِّدَانَةِ، وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هَذَا الصُّنَيْبِيرُ الْمُنْبَتِرُ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا؟، فَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ، فَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ: "﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، وَنَزَلَتْ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا﴾" [صحيح ابن حبان/ 6572]

ـ " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ بَشِيرَيْنِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ، قَالَ: وَيْلَكَ أَحَقٌّ هَذَا؟ هَؤُلاءِ مُلُوكُ الْعَرَبِ وَسَادَةُ النَّاسِ، يَعْنِي قَتْلَى قُرَيْشٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلَ يَبْكِي عَلَى قَتْلَى قُرَيْشٍ وَيُحَرِّضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ" [السنن الكبرى للبيهقي/ 9: 182]

ـ "كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ عَاهَدَهُ أَنْ لا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَلا يُقَاتِلَهُ، وَلَحِقَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُعْلِنًا مُعَادَاةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ فَخَزَعَ مِنْهُ هِجَاؤُهُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ" [غريب الحديث للخطابي/ 1: 574]

ـ "عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: وَكَانَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ الْيَهُودِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي النَّضِيرِ وَقَيِّمُهُمْ، قَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ بِالْهِجَاءِ، وَرَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَاسْتَغْوَاهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أُنَاشِدُكَ اللَّهَ أَدِينُنَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ وَأَيُّنَا أَهْدَى فِي رَأْيِكَ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ؟ فَإِنَّا نُطْعِمُ الْجَزُورَ الْكَوْمَاءَ، وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَنُطْعِمُ مَا هَبَّتِ الشَّمَالُ، فَقَالَ ابْنُ الأَشْرَفِ: أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلا، ثُمَّ خَرَجَ مُقْبِلا قَدْ أَجْمَعَ رَأْيَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ مُعْلِنًا بِعَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ وَهِجَائِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ: "مَنْ لَنَا مِنِ ابْنِ الأَشْرَفِ قَدِ اسْتَعْلَنَ بِعَدَاوَتِنَا وَهِجَائِنَا، وَخَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَجْمَعَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا، قَدْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ جَل جَلاله بِذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى أَخْبَثِ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ قُرَيْشًا أَنْ يَقْدَمَ فَيُقَاتِلَنَا مَعَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا﴾، وَآيَاتٍ فِي قُرَيْشٍ مَعَهَا" [دلائل النبوة للبيهقي/ 3: 190]

ـ و"جَعَلَ [كعب] يُحَرِّضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ وَيُنْشِدُ الأَشْعَارَ وَيَبْكِي عَلَى أَصْحَابِ الْقَلِيبِ، الَّذِينَ أُصِيبُوا بِبَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَجَعَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَبَّبَ بِأُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ" [تاريخ الطبري/ 587]

ـ "وقَدِمَ قَوْمُهُمَا [بني عامر] إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ يَطْلُبُونَ الدِّيَةَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، حَتَّى دَخَلُوا إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ وَيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، فَاسْتَعَانَهُمْ فِي عَقْلِهِمَا. قَالَ: فَاجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ لَقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْتَلُّوا بِصَنِيعَةِ الطَّعَامِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ بِالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ يَهُودُ مِنَ الْغَدْرِ، فَخَرَجَ ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ: "لا تَبْرَحْ مَقَامَكَ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْكَ مِنْ أَصْحَابِي فَسَأَلَكَ عَنِّي، فَقُلْ: وَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَدْرِكُوهُ"، قَالَ: فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَى عَلِيٍّ، فَيَأْمُرُهُمْ بِالَّذِي أَمَرَهُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ آخِرُهُمْ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾." [جامع البيان للطبري/ ج  8 : ص  231 ]

وهنا أمر رسول الله بقتله؛ لحربه وعدائه على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإسلام والمسلمين.. ورغم أنه رسول الله، والقائد الاجتماعي والسياسي ـ إن صح التعبير ـ لمجتمع ودولة المدينة الفتية، إلا أنه أمر باستشارة سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ كبير الأنصار، احتراماً لمكانته، ومراعاة للروابط السابقة التي كانت تجمع بين الأنصار ويهود المدينة.. فذكر صاحب المستدرك على الصحيحين: "كَانَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ، يَقُولُ الشِّعْرَ وَيَخْذُلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَيَخْرُجُ فِي غَطَفَانَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لِي بِابْنِ الأَشْرَفِ؟ فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟"، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْحَارِثِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "ائْتِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَاسْتَشِرْهُ "، قَالَ: فَجِئْتُ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: امْضِ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَاذْهَبْ مَعَكَ بِابْنِ أَخِي الْحَارِثِ بْنِ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ" [المستدرك على الصحيحين/ 3 : 432]

***

وقد ذكرنا هذا التمهيد الهام لأن هناك من العلمانيين من بني جلدتنا من يبكي كعباً ـ مثلما بكاه أهل النفاق يومها ـ ويعتبرونه قُتل غدراً، وهو بريء!! بينما ما فعله يعتبر "خيانة عظمى" بتعريف اليوم.

ومن الشواهد في هذه القصة: "الاحتيال في قتله" فقد أذن النبي ـ عليه السلام ـ كما ورد في بعض الروايات ـ أن يستدرجه بعض الصحابة خارج حصنه، وذكر الصحابة  له رسول الله ـ عليه السلام ـ ببعض النقد! حتى يتمكنوا منه، وبالفعل نجحوا في قتله..: "فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ [يعني الرسول عليه السلام] قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ..." [صحيح البخاري/ 4037]

وقالوا له:

ـ "جِئْنَا وَأَصَابَتْنَا شِدَّةٌ مَعَ صَاحِبِنَا هَذَا [يقصدون الرسول عليه السلام]، فَجِئْتُكَ لأَتَحَدَّثَ مَعَكَ وَلأُرْهِنَكَ دِرْعِي  فِي شَعِيرٍ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: قَدْ حَدَّثْتُكَ أَنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ ذَلِكَ" [دلائل النبوة للبيهقي/ 3: 191]

ـ "إنما جئت أخبرك أن قدوم هذا الرجل [يعني الرسول الكريم] كَانَ علينا مِن البلاء، حاربتنا العرب ورمتنا عَن قوس واحدة ونحن نريد التنحي منه، ومعي رجال مِن قومي عَلَى مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاماً وتمراً ونرهنك ما يكون لك فِيهِ ثقة، فسكن إلى قوله" [الطبقات الكبرى لابن سعد/ [ ج  2 : ص  266 ]

وكان لقتل قائد الحرب الإعلامية والنفسية ضد الإسلام والمسلمين الأثر الإيجابي المطلوب؛ إذ فزع يهود من ردة الفعل على عدوان كعب، وطلبوا الصلح؛ ومن ثم كانت "صحيفة المدينة": .. "فَلَمَّا قَتَلُوهُ [أي: كعباً] فَزَعَتْ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ فَغَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ فَقَالُوا: طُرِقَ صَاحِبُنَا فَقُتِلَ، فَذَكَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: وَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ  إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إِلَى مَا فِيهِ، فَكَتَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ـ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً صَحِيفَةً" [سنن أبي داود/ 3000]

ومن ثم استقر أمر المسلمين في بداية عهدهم في المدينة، وأمِنوا المكونات الاجتماعية الأخرى مثل يهود وقبائلهم، ووضعوا حداً لتصرفاتهم، وكبحاً لعدوانهم..

وهذه الصحيفة ستستمر حتى غزوة الأحزاب تقريباً، وما صاحبها من خيانات، أخرجت يهود من المدينة، وتم إجلاؤهم عنها.

***

ونلحظ من هذه القصة:

ـ مواجهة الحرب الإعلامية والنفسية ضد الإسلام والمسلمين.

ـ مواجهة حرب التأليب والتحزب ضد الإسلام والمسلمين.

ـ استخدام الحيلة (عند الضرورة) بقدرها، بعد أخذ الإذن من القيادة العليا.

ـ القيادة العليا تراعي المكونات الاجتماعية المُخلصة، وإشراكها في الأحداث المهمة والخطيرة.

ـ وضع الخطة المناسبة للظرف الاجتماعي السياسي، فما كان مناسباً أول العهد بالمدينة، لم يكن مناسباً بعد غزوة الأحزاب لِما ظهر من خيانة القوم.

ـ الاستعداد لردة الفعل بعد العمليات الكبرى التي يتم فيها رد عدوان رؤوس الكفر.

ـ كون الحرب خُدعة لا يعني الخيانة، فكعب انتقل من خانة "المُسالم البريء" إلى "المُحارب المُعادي"، ومن حفظ الأمانة إلى الخيانة العظمى.. وحُق فيه التدبير بالخديعة والاغتيال.

فالتسامح مع غير المسلمين ـ والأقليات في الدولة المسلمة ـ لم يكن يعني الغفلة والسذاجة، واستباحة العدوان على الإسلام والمسلمين.. بل كل ذلك يعتبر من الخيانة للعهود، وإن مظاهرة العدو على المسلمين من أعمال الحرب، ومن ثم يجب مواجهته بكل وسيلة مشروعة ممكنة، حتى يأمن الإسلام والمسلمين.

 

***