مثلّت "التجربة التركية" نموذجاً نهضوياً إسلامياً ملهماً للحركة الإسلامية في بلادنا العربية، خاصة بعد النجاحات الأولى التي حققها حزب "العدالة والتنمية" بقيادة الرئيس أردوغان، وتصاعد الإعجاب في ظل حالة الفشل والانحرافات التي تعاني منها "الحركة الإسلامية" في بلادنا، فكيف نقيم وننظر في هذه التجربة؟
قبل الحديث عن أوجه الفشل في هذه التجربة التركية؛ نذكر أوجه النجاح التي حققتها:
المكتسبات الإسلامية:
ـ حرية ارتداء الحجاب للمرأة المسلمة ـ ورفع الحظر عن الحجاب الذي تسبب في مشاكل طويلة الأمد للمحجبات في مجالات التعليم والعمل والحياة الاجتماعية ـ وهذا إنجاز عظيم في بلد مثل تركيا، مثلّت فيه "العلمانية الإلحادية المتوحشة" الركيزة التي تأسست عليها، وكان حجاب المرأة يُحارب بشدة.
ـ التوسع في إنشاء المدارس الإسلامية، وتدعيم حقها في الالتحاق بالتعليم الجامعي بعد أن كانت مغلقة، أو محاصرة.
ـ مواجهة بعض أنشطة التوجه العلماني، مثل: الإلحاد الصريح، ودعوات الشذوذ الجنسي.
ـ تشجيع مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وتخريج الحفظة منها، ورد الاعتبار للجماعات الإسلامية التاريخية في تركيا.
ـ إعادة "آيا صوفيا" ـ الذي يعدّ رمزا لفتح إسطنبول ـ مسجداً للعبادة، بعد أن تحول إلى متحف عام 1934.
المكتسبات السياسية:
ـ مواجهة الانقلاب العسكري في 2016م، بكل حزم، وتخفيف الوصاية العسكرية العلمانية على نظام الحكم.
ـ جعل نظام الحكم رئاسياً، بدلاً عن البرلماني.. وانتهاء عصر الحكومات الائتلافية الهشة، التي كانت تتفكك وتترك ورائها مشكلات كثيرة.
ـ تقوية دول البلقان في مواجهة التوحش عليهم.
ـ محاولة الاستقلال بتركيا عن الهيمنة الدولية، وجعلها دولة مستقلة ذات شأن.
المكتسبات الاقتصادية:
ـ بدأ أردوغان مشروعه السياسي من خلال خطة للرفاهية الاقتصادية لشعبه من خلال المشروعات العملاقة، التي تضع تركيا في مصاف الدول الصناعية، ومحاولة الاستقلال الاقتصادي والتخلص من تبعية الغرب.
ـ تبني مشروعات البنية التحتية في تنظيم المدن، والطرق، وتجميلها بحيث تسر الناظرين.
ـ توطين الصناعات الدفاعية، ومحاولة الاستقلال فيها عن الاستيراد من الخارج.
ـ الاهتمام بمنظومتي الصحة والتعليم.
هذه بعض المكتسبات التي حققها الحزب ـ وهي بناء على ما خطط له وبدأ في تنفيذه "نجم الدين أربكان" طوال فترات حكمه ـ ولكننا نرى أنها رغم أهميتها وقيمتها إلا أننا نراها "مكاسب هشة" خاصة في بلد متنازع الهوية، منقسم الطريق.. فلا هو بلد إسلامي خالص، ولا هو بلد علماني خالص، ولا تجربة حزب "العدالة والتنمية" تجربة إسلامية تامة! ففي تركيا كل شيء ونقيضه، بلد منقسم بين قبلتين، هل يُولي شطره إلى جذوره الإسلامية؟ أم يتخذ الغرب قِبلة جديدة؟ وليس الحديث هنا عن "الحداثة مع الأصالة" كأن نحافظ على الأصالة الإسلامية، وممارسة حياة بأدوات العصر.. وإنما حديث عن انقسام من الجذور، فقد عمل أتاتورك على سلخ تركيا من كل ما يمت لها صلة بالإسلام، بزعم التحرر من التخلف والاستبداد! ولم تكن مشكلته مع التخلف أو الاستبداد بل مع الإسلام ذاته، والهوية الإسلامية ذاتها، فقد كان شديد الإلحاد.. شديد العداء والبغض لكل ما يمت للإسلام بصلة، حتى جعلته يغير الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية ليقطع لتركيا أي صلة لها بالإسلام! وما زال إرث أتاتورك البغيض اللعين يعمل عمله في "هوية تركيا" وطريقها، وراسخ في كافة مؤسسات الدولة!
هذه المكتسبات ـ وغيرها من الإيجابيات ـ تظل مكتسبات هشة، لا تقف على أرضية راسخة، وذلك لعدة أمور:
ـ إنَّ حزب العدالة والتنمية يتعاطى مع العلمانية من منظور إيجابي! ويرى إمكانية التعايش بينها وبين الإسلام، أو لنقُل بينها وبين الشعائر الإسلامية دون النظام والشريعة الإسلامية، وهو لا يهتم للنظام ولا للشريعة الإسلامية أو عاجز عن ذلك.
ـ إنَّ الحزب يتعاطى مع "أتاتورك" من منظور وطني، فهو يمجده، ويشيد به، ويُعلي من شأنه.. دون حتى أدنى محاولة للتخفيف من غلواء صنمية أتاتورك في نفوس الأتراك، وهو فيروس خبيث غُرس في العقلية التركية، واجب أي مسلم أن يحاول علاجه أو على الأقل التخفيف من آثاره.. ينظر الحزب إلى أتاتورك باعتباره قائد حرب الاستقلال، ومؤسس الجمهورية، وأول رئيس للبرلمان التركي (وهو الذي لم يأخذ رأي شعبه في أي شيء، بل فرض عليهم فجوره وإلحاده بالحديد والنار!)؛ فيوافق العلمانيين في دعواهم.. رغم الآثار الخبيثة المدمرة التي تركها أتاتورك في تركيا، والتي ما زالت آثارها الإلحادية سارية إلى اليوم. فهل يتجنب الصدام معهم؟ وهل هم سيتجنبون الصدام إن فعل ذلك وأكثر منه؟!
ـ إنَّ كل مكتسب إسلامي ـ بمقياس الإسلام ـ لا يحميه أبناء الإسلام بالقوة القتالية فهو مكتسب هش، في مهب الريح، يمكن القضاء عليه من جذوره، وإنهاء وجود أصحابه.. كل مكتسب إسلامي راسخ لا بد من أن يكون له "القوة الاجتماعية" التي تحتضنه وتغذيه وترفده بالروافد اللازمة للحياة والنمو، و"القوة القتالية والأمنية" التي تحميه من عدوان المعتدين، وفجور الملحدين.. و"قوة العدل والأمانة والأخلاق الربانية" في الحكم والإدارة.. يُمثل هذه القوى أبناء الإسلام المخلصين، المحبين لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعباده المؤمنين، ينهضون "باسم الله" في سبيل الله، وليس باسم "الحرية الشخصية" ولا "الحقوق الوطنية" حيث هذه يمكن تفسيرها بأن القضاء على الإسلام والمكتسبات الإسلامية هو جوهر الحرية الشخصية.. مثلما تعتبر أمريكا ـ مثلاً ـ أن الدفاع المستميت والأبدي عن "دولة يهود" هو دفاع وترسيخ للديمقراطية، رغم المجازر وحرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها المسلمون في فلسطين! وقد كان عسكر تركيا ينقلبون على كل حكومات أربكان بدعوى تقويض المبادئ الأتاتوركية، وحماية الديمقراطية والعلمانية! ومازالت الانقلابات ممكنة، ولها صور مختلفة.
وإن كان للعلمانية حُرّاسها الذين يُدافعون عنها بكل قوة، ويحطمون كل منجز للدولة في سبيل حمايتها! فلماذا لا يكون للإسلام حُرّاسه الأوفياء، ورجاله الأقوياء؟
***
ووجب التأكيد على أن كل مكتسب إنما هو من فضل الله، وتوفيقه.. ولا يجوز للأمة الإسلامية ـ في كل مكان ـ أن تَمن على الله تحقيق إسلامها له.. فالله هو الذي يَمن عليها وله النعمة والفضل: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17] ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]
والمسلم إنما يؤدي طاعته وواجبه ويحقق إسلامه في واقع الحياة، ثم يقدم هذا الإيمان وهذا العمل مخلصاً دينه لله، وفي قلبه "الوجل والخشية" من الله.. سائلاً الله أن يتقبل عمله، ويغفر لتقصيره وضعفه: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ. وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: 60-62]
***
وقد كانت تركيا تتبنى سياسة الحزب الواحد (حزب أتاتورك)، ثم تغيرت هذه السياسة إلى "التعددية السياسية" وانتهاء سياسة الحزب الواحد منذ عام 1946 م بتشجيع من الغرب ـ رغم الانقلابات العسكرية ـ والاطمئنان لعدم عودة الإسلام من جديد ورسوخ العلمانية! والسماح بالديمقراطية ضمن المبادئ الأتاتوركية، ثم محاولة احتواء العاطفة الإسلامية في تركيا، وتعطش الجماهير للإسلام، والحد من النفوذ الشيوعي الماركسي الاشتراكي، والأمل في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي سببها الفساد المالي للأحزاب العلمانية.. كل ذلك ساهم في بروز وتأسيس الأحزاب التركية ذات التوجه الإسلامي.. وهذه التعددية لا وجود لها في عالمنا العربي.
وقبل الحديث عن "الفشل" قد يجادل البعض بأن هذا هو "المتاح".. وإن طبيعة الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا، في ظل الهيمنة العلمانية الراسخة، وفي ظل "التعددية السياسية والحزبية".. لا تسمح إلا بهذه الطريقة في المناورة والمراوغة، وضمن السقف المتاح.. وإن هناك تحديات داخلية تتمثل في: (رسوخ العلمانية وتجذرها، وقاعدتها الواسعة في: الجيش والاقتصاد والإعلام والجامعات والأحزاب... إلخ) ودعم خارجي (أمريكي وصهيوني وأوربي)، بينما لا يوجد هذا الدعم للحركة الإسلامية التي تتحرك في محيط شائك له حساباته الدقيقة، وتوازناته المعقدة، تجعل ما تم إنجازه يعتبر معجزة بكل المقاييس..
ولهذا القول وجاهة، ولكنه لا يُبرر مسألة تخوفنا من: (هشاشة المكتسبات، وانخفاض سقف التوقعات، والاستسلام للمتاح، وتحول الأمر إلى مساومات سياسية براجماتية، ستجعل من يطالب بالنظام الإسلامي المتكامل هو أصولي متطرف راديكالي يجب محاربته)..
إنَّ الله ـ جل جلاله ـ لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفي عالم السياسة من خلال التصور الإسلامي، يجب الدعوة والحفاظ على المبادئ الإسلامية، فهذه لا يمكن المساومة عليها، ولا المراوغة بها، ولا يحل لأحد التخلي عنها، بل يجب أن يكون الخطاب السياسي الإسلامي ربانياً كما أمر الله به.. أما عند "التطبيق" فهو حسب الوسع والطاقة، دون خداع للناس، أو استغلال المنصب في الاستئثار بالمال، وتجنب الفساد المالي والإداري، وتشجيع من يدعو إلى النظام الإسلامي والشريعة وليس مقاومته أو اتهامه..
وليعلم من يحاول ذلك أن المعسكر العلماني يرقب عن كثب كل هذه المحاولات ويرى فيها خطورة عليه، جاء في تقرير مؤسسة راند التابعة للمخابرات الأمريكية: "إن الإسلام السياسي الذي يُثبت وجوده في الجزائر ومصر وفي تركيا وفي غيرها من بلدان الشرق الأوسط هو في الحقيقة تهديد للديمقراطية الغربية وللمصالح الغربية" [نجم الدين أربكان، منال الصالح، ص203] وهذا المعسكر العلماني مستعد للانقلاب على كل الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية من أجل إزاحة الوجود الإسلامي في السياسة!
وجدير بالذكر أن قاعدة لا بأس بها من الأتراك كانت تنتخب الأحزاب الإسلامية، ليس من أجل الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما لمعالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وأملاً في التخلص من الفساد المالي والإداري الذي تجده في الأحزاب العلمانية.. وترى في الأحزاب الإسلامية نظافة اليد، وهذه القاعدة لا تعتبر قاعدة صلبة للحركة الإسلامية.. فهذه سيتغير ولاؤها فوراً مع أول أزمة اقتصادية تحدث في ظل حكم الأحزاب الإسلامية.
والأزمات الاقتصادية.. تتحول إلى (حرب اقتصادية) تستطيع الدول الكبرى شنها على من تشاء من خلال القروض الربوبية والعقوبات الاقتصادية، ومحاربة الدول التي تسعى إلى "الاستقلال الاقتصادي" والحماية الوطنية لمنتجاتها المحلية؛ لتظل أبداً تحت الهيمنة! وكل حزب سياسي يجد تركة مهولة من الفساد والنهب والديون والتكتلات التي تمتص ثروات البلاد، فيتمهد بذلك الطريق لأي حرب اقتصادية.
وإنَّ مخاطبة الناس من خلال علاج الأزمات فقط.. والوعد بحلها ليس هو الطريق الصحيح للدعوة، وإن كان الاهتمام بحاجات الناس هو بالأساس مطلب إسلامي، لكن لا بد من أن يكون "باسم الله".. وأن تكون الدعوة إلى بيان الدين الحق، ودوره في الحياة هي الدعوة الأصلية، والأساس الذي تتحرك منه الحركة الإسلامية. وإنَّ الغموض واللباس في بيان هذه الدعوة يُدخل المسلمين في إشكالية كبرى في تعريف من هو المعتدل؟ ومن هو المتشدد والمتطرف؟ وقد ينتهي الاعتدال (دعوياً وسياسياً) إلى المستعد لتقديم كل التنازلات، فلا يبقى له شيء! ولا تنازل في الخطاب الدعوي، إنما المرونة فقط في التطبيق، والمساحة الممكنة، دون خداع للناس.
***
ونجد أوجه الفشل في التجربة التركية، يأتي من "الخطوط الحمراء" في السياسة التركية (كما تحددها أمريكا والاتحاد الأوربي)، وهي:
ـ حماية مصالح واشنطن في تركيا.
ـ الحفاظ على التقاليد العلمانية، ومراعاة مبادئ الديمقراطية الليبرالية.
ـ حرية السوق. (تجنب محاولة الاستقلال الاقتصادي، أو تطبيق مبادئ الاقتصاد الإسلامي).
ـ المشاركة الكاملة والفاعلة في حلف الناتو.
ـ ربط تركيا بالمؤسسات الغربية، والامتثال لتوجيهات الاتحاد الأوربي.
ـ التعاون مع "دولة يهود".
وأما أوجه الفشل في التجربة التركية:
من ناحية الدين:
ـ يتعاطى الحزب مع الإسلام من خلال "الشعائر" فقط، وقد كان إنجازاً كبيراً في ظل العلمانية الملحدة المتوحشة، إظهار واحترام الشعائر الإسلامية، كالصلاة والحجاب والأذان... إلخ، لكن يبدو أن مسألة فهم الإسلام بشموله غير واضحة في تركيا، فلا حديث عن النظام والشرائع الإسلامية، فضلاً عن محاولة إقامتها وتطبيقها.
فعلى سبيل المثال:
۞ ما زالت تركيا تتحاكم إلى القانون المدني السويسري الذي استورده لهم أتاتورك، بعدما ألغى المحاكم الإسلامية، ولا نسمع عن أي محاولة لوجوب التحاكم إلى الشريعة الإسلامية.
۞ وفيه يعتبر "تعدد الزوجات" جريمة، وزواج غير معترف به! بينما "تعدد الخليلات" حق مشروع لا بأس به.
۞ وفيه كثرة محالّ بيع الخمور وتداولها بكثرة وبكل حرية بيعاً وتعاطياً في كل مكان بلا نكير. وهي أم الخبائث وداعي الفواحش.. ومن مقاصد الشريعة: حفظ العقل، وإقامة الصلاة وذكر الله.
۞ وفيه من يتعرض لإمام الملحدين والدجالين "أتاتورك" بالنقد أو الإهانة فهو معرض للسجن الطويل، بينما من يسخر من شعائر الإسلام، بل ومن الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكتابه كما يفعل بعض أعضاء "حزب أتاتورك الجمهوري" فهو في مأمن. والحق: إن بغض أتاتورك ـ وأمثاله ـ عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله، "فالحب في الله، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان"، كما جاء في الحديث الشريف.
۞ وفي بلد الغالبية العظمى (98%) منه مسلمون تكون العطلة يومي "السبت والأحد" بينما يعمل الجميع أثناء صلاة الجمعة! ولا أدنى حديث عن احترام شعائر هذا اليوم وجعله يوم عطلة! [وقد كان من لائحة الاتهام لأربكان من قِبل قادة الانقلاب العسكري عام 1980، السعي لجعل العطلة يوم الجمعة!]، وجدير بالذكر أن قادة هذا الانقلاب أرادوا استخدام الإسلام ذاته في مواجهة التيارات الشيوعية والماركسية والانفصالية المهددة للنظام، شريطة أن لا يكون للإسلام مشروع سياسي! فقاموا بزيادة عدد المدارس الدينية، ووظفوا أئمة جدداً، وسمحوا بوسائل الإعلام ذات الطابع الإسلامي!
ويبدو من ذلك أن هناك محاولات لتتريك الإسلام وعلمنته، وتطويعه للنظام العلماني، وجعله تحت سيطرة نظام الدولة العلماني.. واحتواء العاطفة الدينية للشعب التركي، وإفساح المجال لممارسة شعائرها، دون إدخال الإسلام في المجال السياسي. وقد بدأت هذه المحاولات منذ انقلاب 1960م.
وعندما يحاول أحد الخروج بالإسلام من الهيمنة العلمانية فهذا يعتبر مخالفاً للدستور، ويعمل على "أسلمة الدولة"، وما زال هذا التنازع موجوداً إلى الآن بين اتجاهات شتى، حول التعاطي مع الإسلام والعلمانية: هل المضي مع العلمانية المتطرفة الكمالية المحاربة للدين، والمخلصة لسياسة أتاتورك؟
أم مع العلمانية المعتدلة المتصالحة مع شعائر الدين؟
أم مع عدم فصل الدين عن الدولة، وأسلمة الدولة في كل مجال؟
أم مع محاولة العلمانيين ـ من منطلق براجماتي لكسب أصوات المحافظين ـ احتواء العاطفة والشعبية الإسلامية من خلال الظهور بمظهر معتدل (مثل اختتام رئيس بلدية إسطنبول عن حزب الشعب العلماني حملته الانتخابية بصلاة الفجر! وظهور مرشح الرئاسة عن الحزب بجوار امرأة محجبة في حملته الانتخابية)، وكذلك محاولة حزب العدالة الشيء نفسه مع العلمانية من منطلق براجماتي أيضاً لكسب أصوات العلمانيين؟!
هذا التنازع هو تقريباً ما يُشكل المشهد السياسي التركي.. (علمنة الإسلام، وأسلمة العلمانية!!)
ـ الوعظ على الطريقة المسيحية: فمن يستمع لخطب الجمعة هناك، يجدها ـ في أغلبها ـ مجرد حديث عن: البر، والإنفاق، والخلق الحسن، والصلاة، والدعاء.. مجرد حديث روحي يخاطب التدين الفردي.. دون بيان قاطع للحلال والحرام (في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي)، والحق والباطل، والولاء والبراء، وإخلاص الدين ـ نظام الحياة ـ كله لله. ويحضرها ـ في الغالب ـ الشيوخ، ويغيب عنها الشباب لأنهم في أوقات العمل والدراسة!
ـ والحزب يتجنب الاصطدام بالعلمانيين والقوميين: فمثلاً إهانة "اللغة العربية" في عاصمة الخلافة الإسلامية سابقاً "إسطنبول" ونزع اللافتات التي تحمل الحروف العربية من الشوارع، وترك كل اللغات الأخرى! لا يأبه له الحزب.. والحديث هنا ليس عن احترام "القومية العربية"، ولكنه حديث عن احترام "اللغة الإسلامية" واضطهاد هذه اللغة بالتحديد هو إهانة صريحة للإسلام ذاته، في الوقت الذي تحتوي فيه اللغة التركية على آلاف الكلمات العربية.. والغالبية العظمى من أسماء الأتراك هي أسماء عربية!! ويكون إنجاز الأحزاب العلمانية عندما تفوز هو: نزع اللافتات التي باللغة العربية، واضطهاد اللاجئين والجاليات المسلمة تحديداً دون غيرها من الجاليات.. تلك الجاليات التي فضلّت تركيا لأنه بلد إسلامي يُرفع فيه الأذان! وعلت اليوم أصوات بعضهم نادمة على مجيئها لتركيا، وكأن الغرب يريد أن لا يبقى للمسلمين مستقر إلا عنده؛ ليذبوا فيه! وليفسدوا العلاقات بين تركيا والعالم العربي الإسلامي.
ـ وحزب العدالة والتنمية لا يُقدم نفسه على أنه حزب إسلامي خالص التوجه، فكأنه يعمل على المصالحة بين "العلمانية والإسلام"! أو يُعيد تفسير العلمانية، وتنتهي هذه المصالحة إلى: احترام شعائر الإسلام، وحرية التدين الفردي.. بينما يبقى النظام والقانون والحكم علمانياً! والحزب يطالب اليوم أن يُكتب دستوراً جديداً بروح "ليبرالية" والمعنى (فيما يبدو): ضمان حرية التدين الفردي (مثل ارتداء الحجاب)، وضمان حرية الحياة العلمانية كذلك (على الطريقة الغربية).
والحزب يحوم حول المنطقة الوسط، فهو يحاول إرضاء القاعدة الجماهيرية الإسلامية المتدينة، وفي نفس الوقت يحاول إرضاء العلمانيين؛ ولذلك يحتار الناظر إليه! ومثال ذلك: بينما يحتفل رجال الحزب ووزرائه بزيارة ضريح أتاتورك في يوم الطفل كان أردوغان يشيع جنازة أكبر زعيم جماعة إسلامية صوفية في تركيا!
ـ التربية الإسلامية في مناهج التعليم: يغلب على التعليم في تركيا المنهج العلماني، من ناحية فلسفة العلوم، ومن ناحية المنهج التربوي.. والذين لا يلتحقون بالمدارس الدينية، لا يحصلون على كفايتهم من التربية الإسلامية، بل يخرجون علمانيين معتدلين، ولم تخفف مناهج التعليم ـ حتى في المدارس الدينية ـ من غلواء صنمية أتاتورك، الذي تجد صورته في الصفحة الأولى من كل كتاب ـ حتى الكتب الإسلامية ـ ومن صنمه المجسم الموجود في فناء كل مدرسة!! لم تصنع مناهج التعليم شخصية تعرف تاريخها المجيد، وجذورها الإسلامية العميقة، حيث أساس وجود تركيا كان هو الإسلام، لم تستخرج الرموز التركية الإسلامية من رحم التاريخ، ولم تربِ الأجيال التربية الإسلامية المتكاملة التي تُخرّج المسلم العالم بدينه ودنياه.. وقد دفع الحزب ثمن ذلك التقصير أو العجز؛ فخرجت أجيال الشباب تتنكر له، وتستهزأ به! وترى في الأحزاب العلمانية ـ التي ترفع صورة أتاتورك ـ تمثيلاً لها وتعبيراً عنها.. وأما جيل الشيوخ الذين لمسوا الإنجازات والآثار الإيجابية للحزب فقد رحلوا أو على وشك الرحيل!
ـ التراخي الدعوي: والحقيقة الحزب ليس مسؤولاً عنه وحده، بل مسؤولية المسلمين جميعاً.. فهناك حالة من التراخي الدعوي، وفقدان الأدوات الإعلامية المناسبة لجيل الشباب، وكذلك الرموز الإسلامية التي تستطيع أن تجذب الشباب وتتحدث بلغتهم، وتغشى مجالسهم.. وتقدم لهم الإسلام في صورته الصحيحة الشمولية، والتدين في صورته الربانية المتكاملة، وتعمل على تصحيح المفاهيم، وترسيخ الوعي، وتوسيع النشاط الاجتماعي الإسلامي، وزيادة القاعدة الشعبية الاجتماعية، وزيادة أنصار الإسلام ـ قبل أنصار الحزب ـ ودعوة الناس إلى دينها الحق الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة، ورد شبهات العلمانية وأمراضها بكل قوة وعزيمة وجلد وصبر وإخلاص وتمكن من المعرفة الصحيحة، حتى يتم جذب أصحاب القلوب الطيبة والمخدوعة والتي لا تحمل في قلبها نفاقاً ولا عداوة ولا بغضاء مع الإسلام، وما أكثرهم في تركيا وفي كل البلاد الإسلامية.
ـ مسألة الولاء والبراء: فالحزب رحب بعضوية السويد في "حلف الناتو"، وهو حلف ليس بإسلامي، يضمن أمن أوروبا، ولقد صرّح أردوغان بعد انطلاق معركة "طوفان الأقصى" ورؤية اصطفاف العالم الغربي كله نحو "دولة يهود" فقال ما معناه: إنه لو حصل شيء لتركيا فلن يدعمها أحد، وهو قول صحيح، فالدخول في هذه الأحلاف الكفرية لا يمت للإسلام بأي صلة، وليس هو من باب التعاون على البر والتقوى. وصحيح إن هناك تقاليد راسخة ورثها الحزب ولم يكن سبب فيها، إلا أن بقاء الحزب في الحكم لمدة أكثر من 23 عاماً أظنها مدة كفيلة لمعالجة كثير من المسائل من جذورها، أو خلق واقع جديد وتقاليد جديدة. وبالمقابل استطاع أتاتورك سلخ تركيا من خلافتها، ودينها، وتاريخها، وثقافتها في سنوات قليلة لأنه كان يملك القوة القتالية التي تقاتل عن إلحاده وعلمانيته!
ولذا نقول إن المكتسبات الإسلامية "مكتسبات هشة"، ونسأل الله التمكين الراسخ لدينه في تركيا، وفي كل بلدان المسلمين.
يقول نجم الدين أربكان ـ رحمه الله: ’’إن الصهيونية والماسونية حاولتا عزل تركيا عن العالم الإسلامي ولا زالت مؤامراتهما مستمرة، وذلك لأن المعركة بين الإسلام ـ في تركيا ـ والصهيونية قد اتخذت أشكالاً عدة، وهي حرب طويلة المدى ومستمرة منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، ولكن هذا الصراع في المئة سنة الأخيرة أخذ شكلاً مخططاً أعدّ له سلفاً، فقد استطاعت بعض القوى عام 1939 أن تؤثر في جسم الدولة الفكري، وتُدخل القوانين الوضعية البعيدة عن الإسلام بواسطة المنظمات اليهودية والماسونية، فقد قسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلاث مراحل مدتها (ثلاثون سنة) فالمرحلة الأولى (إسقاط الدولة الإسلامية في تركيا). والثانية (إبعاد تركيا عن الإسلام وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي تعني اضطهاد المسلمين بالتحديد)، أم المرحلة الثالثة فهي (محو الإسلام).‘‘ [كتاب: نجم الدين أربكان، ودوره في السياسة التركية، منال الصالح، ص 135]
لقد كانت خطة "أربكان" هي: إقامة أمم متحدة (اتحاد إسلامي) للأقطار الإسلامية، وإلغاء التأشيرات والجوازات والجمارك فيما بينها، وتكوين سوق إسلامية مشتركة، وإنشاء عملة إسلامية موحدة (الدينار الإسلامي)، وإنشاء قوة عسكرية مشتركة تدافع عن العالم الإسلامي "ناتو إسلامي"، والتصنيع المحلي للصناعات العسكرية لنيل الاستقلال الحقيقي، وإنشاء مؤسسات ثقافية تبني الوحدة الثقافية والفكرية على أساس المبادئ الإسلامية. فأين تركيا الآن من هذا كله؟!
***
من ناحية السياسة:
ـ صناعة الباطل الأوحد أردوغان: فلم يستطع الحزب ـ حتى الآن ـ تقديم وجوه شابة جديدة، فما زال أردوغان وحده هو البطل! وهذه مسألة خطيرة يمكن أن تؤدي إلى فراغ سياسي هائل في الحزب، ويمكن أن تجعله يتفتت وينقسم على نفسه، أو يخفت بريقه.. مسألة صناعة القادة مسؤولية جيل الشيوخ والآباء المؤسسين.. وكان يجب تقديمهم وصناعتهم من زمن طويل، وقد أوشك أردوغان على الرحيل، دون أن نسمع عن القيادات الشابة القوية ذات المشروع والروح والشخصية التي تجذب الأنظار، فلا يمكن أن نترك القيادات الشابة أن تصنع نفسها بنفسها وبجهدها الذاتي، فهذا مشوار طويل لا يتسع الواقع السياسي له، وواجب أي حزب يريد الاستمرار الدفع بأفضل أبنائه ليعدهم لقيادة المسيرة من بعده، ويعطي جزءاً من حضوره الإعلامي والسياسي لجيل الشباب ليتحدث وليجذب إليه الجماهير، بحيث يكون الحزب يملك العديد من الوجوه الشابة الحاضرة..
كما يجب التخلي عن بروباجاندا الفترات الانتخابية، وفض المولد بعد انتهائها.. بل يجب أن يكون هناك حضور سياسي وتوعوي وخدمي ودعوي مستمر يثبت الحرص على الجماهير، ويثبت الإخلاص في خدمتهم، على أن تكون هذه الخدمة "باسم الله" حتى يُجازي الله أصحابها خيراً.
ـ التخلف الإداري، وفوضى القوانين: رغم مكانة تركيا، وقاعدتها الصناعية، ونجاحها في مجالات عدة وصعبة.. إلا أن نظمها الإدارية ما زالت متخلفة، وبيروقراطية عقيمة.. وهي ممارسات قديمة راسخة! والفساد الإداري يأتي مع كثرة التعقيد وبطء الإجراءات.. وبغي الناس بعضها على بعض. ولم تستطع ـ رغم إمكانياتها الهائلة ـ أن تتحول إلى "الحكومة الرقمية الإلكترونية" وتبسيط الإجراءات، وقد سبقتها دول كثيرة في ذلك! وما قامت به من محاولات لا ترقى إلى الاحترافية! إضافة إلى كثرة وفوضى القوانين، وسلطة الموظف الذي يمكن أن يفسد حياة الناس حسب مزاجه وانتمائه الأيديولوجي دون رقيب أو حسيب، وكذلك ضعف النظام القضائي وصعوبة استخلاص الحقوق. وإن تسهيل حياة الناس، والرفق بهم، وحماية حقوقهم، وتقديم راحتهم على العقم الإداري وكثرة الموظفين هو من واجبات أي نظام سياسي حاكم.
ـ التحالفات السياسية: القاعدة الإسلامية والمحافظة في تركيا معرضة للانقسام، حيث فضل الحزب التحالف مع الأحزاب القومية، ولم ينجح في توحيد القاعدة الإسلامية تحت قيادته، وكانت أغلب ـ أو كل ـ حساباته براجماتية.. وقد حاول في الانتخابات المحلية الأخيرة إرضاء القاعدة الجماهيرية الإسلامية، ومخاطبة ود العلمانيين.. فلم يرض عنه أحد، وهُزم هزيمة كبيرة! تُعطي إشارة بمدى الخطر الذي يتهدد هذه التجربة كلها بكل مكتسباتها! وقد فرح لهذه الهزيمة "دولة يهود"، وفرح لها اليمين المتطرف في أوروبا باعتبارها "انتصاراً للعلمانية"! وحزب أتاتورك من أشد المؤيدين لدولة يهود تاريخياً وحالياً.
ـ مشكلة العنصرية، واللاجئين: والعنصرية ـ تجاه العرب والمسلمين غير الأتراك ـ هي ثمرة خبيثة من ثمار العلمانية، والشخصية التركية نتيجة النفخ القومي العلماني المستمر تشعر بالزهو والتفوق والتميز ـ إلا أهل الدين والعلم والثقافة الحقة ـ وهذا يعيق مشكلة الإصلاح والوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية.. لذا؛ تُعتبر العنصرية مشكلة راسخة تحتاج إلى علاج من جذورها العلمانية الخبيثة؛ وهذا ما يفسر البرنامج السياسي للأحزاب العلمانية الذي يتلخص في إظهار وتقوية وإبراز هذه العنصرية المقيتة.. ولم نجد الحزب يقف وقفة جادة في هذا الأمر الذي يهدد حتى: قطاع السياحة، والاستثمار، والتعليم الجامعي، وسمعة تركيا... إلخ. وسيُحمل الحزب العلماني أردوغان وحزبه كامل المسؤولية عن ضعف الاقتصاد وغيره باعتباره هو الذي في سدة الحكم.
وأما مشكلة اللاجئين: فتركيا وإن استضافت اللاجئين السوريين وغيرهم، وبذلت لهم الكثير.. فهذه الاستضافة لم تكن مجانية، وكان هناك منح كثيرة من الاتحاد الأوروبي الذي دفع لتركيا حتى لا يأتي ملايين اللاجئين إليه. وقد تعرض الكثير منهم لمظالم فجة واضحة، ومعاملة سيئة من كثير من العلمانيين، واضطهاد لكثير منهم في بعض الأحيان، وتفريق لأسرهم، وتدمير لتجارتهم، ووضعهم تحت الإقامة المؤقتة رغم مرور أكثر من عشر سنوات على تواجدهم في الأراضي التركية.. فلم تتعامل تركيا معهم لا من منظور إسلامي، ولا من منظور إنساني يضمن لهم حياة مستقرة كريمة. ولا ينكر أحداً ما بُذل لهم من جهود، وما حصل عليه بعضهم من جنسية تركية.. لكن لم يكن هذا هو المأمول أبداً.
ـ معركة طوفان الأقصى: ورغم إن موقف تركيا من حرب غزة أفضل من كل المواقف العربية (المتآمرة على فلسطين)، إلا إنه أيضاً كان دون المأمول، ويثبت أن نموذج "حزب العدالة والتنمية" ليس هو النموذج الذي نطمح إليه، وليس هو بقدوة.. وإنما هو تجربة نتعلم من أخطائها وفشلها، ونستفيد فيما نجحت فيه..
فلم تستطع تركيا أن ترسل المساعدات الإنسانية في حماية قواتها القتالية، وألقتها في مطار العريش تحت قيادة النظام الخائن في مصر! والواجب حتى لا يسحقنا سقف التوقعات.. الواجب (في أقل صوره) هو المساعدة العسكرية، وحقن دماء المسلمين هناك ـ وفي كل مكان ـ هذا هو الواجب البديهي، حتى لا ننسى. و(الواجب التام) هو القتال معهم لتحرير بيت المقدس، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]
***
من الناحية الاقتصادية:
ـ انهيار العملة: كانت الرفاهية الاقتصادية التي حققها حزب العدالة والتنمية في أول عهده هي مفخرة الحزب، فقد انطلق الحزب يحاول ـ بكل قوته ـ أن يحقق الوعود الاقتصادية، ويشجع الصناعة والتجارة والاستثمار والسياحة... إلخ، وقد تشجع الكثير من رجال الأعمال المسلمين للدخول للسوق التركية بقيادة أردوغان، وقد كانت نقلة كبيرة لتركيا، مهدت لها الطريق لكثير من الإصلاحات، كان أهمها دخول مجال الصناعات الدفاعية، ومحاولة الاستقلال فيها..
إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فبعد مواقف تركيا المشرفة في بداية الثورات العربية، وتبنيها لبعض القضايا الإسلامية، بدأ التضييق الاقتصادي عليها، وبعد فشل محاولة الانقلاب.. بدأت الحرب الاقتصادية، التي بدأت في التأثير على القوة الشرائية للعملة المحلية، ثم جاءت جائحة كورونا ثم الزلزال ليوجه ضربة ساحقة للعملة المحلية، ويجعلها تفقد أكثر من نصف قيمتها! مما أدى إلى تضخم هائل، وارتفاع الأسعار، والغلاء الفاحش.
ـ التضخم: احتار الحزب في كيفية مواجهة التضخم، وهي مسألة مركبة معقدة.. فبعد أن كان أردوغان يرى عدم رفع الفائدة باعتبارها ربا، تغير الأمر إلى العكس تماماً، وتغير الطاقم الاقتصادي كله، ورفع الفائدة إلى 50% هو دخول في التيه البعيد.. فرفع الفائدة لن يؤثر في التضخم كما حصل بالفعل، وزاد التضخم رغم الرفع الجنوني للفائدة. والذين درسوا الاقتصاد دراسة غربية علمانية لا يعرفون شيئاً سوى رفع الفائدة لمواجهة التضخم، فحصل الركود في كثير من المجالات بينما التضخم يزداد يوماً بعد يوم.. وإذا كان ينجح ذلك في أمريكا والدول الصناعية الكبرى، فالدولار الأمريكي يعتبر سلاحاً قبل أن يكون عُملة عالمية. والسوق الحر الرأسمالي إنما يخدم الدول الصناعية ولا يخدم الاقتصاديات الناشئة، كما أنه مرتبط ببعد مادي علماني قائم على نهم الاستهلاك، وزيادة الربح من أي طريق، على حساب المجتمع كله! وإن أول مواجهة حقيقية للتضخم هو: إيجاد "العملة الشرعية" الثابتة التي تحفظ الجهد والقيمة، وتحريم الربا، والنهي عنه، ومنع الاحتكار، والسحت، والفساد. وهذه حلول ثورية جذرية تتطلب الكثير من الجرأة والوعي والشجاعة والجهد.
واليوم لا يبدو شيء مبشر أمام مواجهة وحش التضخم سوى الوعود الجوفاء بخفض التضخم في المستقبل القريب دون عمل حقيقي جاد في هذا الشأن، والحزب يتخبط في طرق شتى، ولا يدري حقاً كيف يخرج من هذه المشكلة التي كانت أحد أسباب خسارته في الانتخابات المحلية الأخيرة. وإنَّ النجاح المؤقت في تخفيض التضخم عن طريق رفع الفائدة والتشديد النقدي لا يعني بالضرورة انخفاض الأسعار، ولا يعني كذلك تجنب عودته مرة أخرى، والاقتصاد المتين القوي هو الذي يقوم على أساس من منهج الله تعالى في الأرض، وإلا فالتخبط في مس الربا لن ينقطع ويظل يدور دورته.
***
هذه بعض صور الفشل في التجربة التركية، الأمر الذي نحزن له.. والمسلم لا يشعر بالشماتة ـ والعياذ بالله ـ فتركيا وشعبها ستظل دولة من دول العالم الإسلامي، وشعبها من الشعوب المسلمة.. نرجو له الخير والفلاح والنجاح، والمسلم يفرح لكل مكتسب للإسلام والمسلمين في تركيا ـ وفي كل مكان ـ فولاء المسلم للإسلام والمسلمين في أي زمان ومكان، وكل مكتسب لأي بلد إسلامي ينعكس إيجاباً على كافة المسلمين في كل مكان..
والأمور ليس بهذه الصورة السوداوية التي قد تظهر عند رصد مواطن الفشل؛ فينتقل إلى حس القارئ شعور بالقتامة واليأس، فما زال هناك فرص للإصلاح والتقويم، وما نرصد الفشل إلا لنبحث عن مواطن الإصلاح، وما زال في تركيا وأهلها الخير..
والله ـ جل جلاله ـ لا يُقدر إلا الخير، وإن من رحم الفشل يخرج النجاح، ويتعلم الإنسان. ففي كل فشل في الحياة فرصة عظيمة وقوية للنجاح والانطلاق من الأوهام والقيود، وفي كل محنة مِنحة بفضل الله.
وقد مرّ على تركيا ما هو أسوأ من ذلك بكثير؛ فامتن الله عليها وابتعثها من جديد، وعاد شعبها يبحث عن دينه وهويته بكل صدق ويقين، فالحديث عن الفشل لا يعني الانهزام، ولا اليأس، ولا التعميم.. بل يعني أننا نستبشر بالنجاح، وبالتمكين الراسخ للإسلام والمسلمين في تركيا وفي كل مكان مهما طال الزمان.
***
للمزيد.. راجع ـ إن شئت:
ـ مقال: أسلمة أتاتورك.
ـ مقال: فوز تركيا.. ولعبة الديمقراطية.
ـ مقال: المتدين العلماني.
ـ كتاب: الرجل الصنم.