لمَ هذه الحالة؟
لأن هناك - في أعماق النفس - حالة "التصاق بالذات" وهذه الذات عندما تعتنق فكرة ما تصبح الذات والفكرة مكوناً واحداً لا يتجزأ.. ويصبح الناقد لفكرها هو الطاعن في إنسانيتها وكرامتها بل ووجودها، لذا يأتي "الهجوم" أشد ما يكون.. ليس في الحقيقة دفاعاً عن "الفكرة" بل دفاعاً عن "الذات" الملتصقة بها الفكرة!
حقاً إنها صورة عجيبة في تكوين النفس الإنسانية، وفي النفس من الأعماق ما لا يصل إليه الإنسان!
إنني حين أتوجه بالنقد لأي نوع من الفكر المنزلق إلى الأيديولوجيا و"العصبية الذاتية والفكرية".. أقصد "الفكر" ذاته، أقصد الأفكار التي تحتاج إلى تغيير: {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11] أقصد المفاهيم والتصورات الناقصة أو المحدودة، أقصد الخروج من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة الرسالة.. لا أقصد "الإنسان" المعتنق الفكر، لا أقصد الحكم عليه وإدانته، لا أقصد كرامته، لا أقصد كيانه وذاته.. فإنني إن فعلت ذلك، وقصدت إلغاء وجوده، والاستهزاء به، فأكون - بذلك الفعل - قد انزلقت أيديولوجياً مثلهم! ووسعت الفرقة، وزاد الشقاق، واتسع الخرق!
وللأسف إن أسلوب التربية السلوكية والتربية الفكرية تتجه إلى هذا الأسلوب من الانغلاق في سجون "عصبية الذات والفكر - حمية الجاهلية" وإن أول هدف للتربية السلوكية والفكرية، هو الفطام عن الذات، والخروج منها! والرؤية من خارج الذات.
فيبقى الفكر في حدود عمله وإطاره: قابل للنقد، والتعديل، والتطوير، والتصحيح، والتكامل، والتوازن مع غيره، ومن المرونة.. للتجديد والتفاعل مع الحياة والواقع.
ومن الناحية الاجتماعية إن الأمة مرت بثلاثة أطوار:
الطور الأول: الرسالة، وهو "النبوة والخلافة الراشدة"، وبتعبير اجتماعي: "الدوران في فلك الرسالة" وفيه يدور الإنسان والأشياء في خدمة الرسالة.
والطور الثاني: الأشخاص، وهو "الملك العضوض"، وبتعبير اجتماعي: "الدوران في فلك الأشخاص" وفيه تدور الرسالة والأشياء في خدمة الأشخاص.
والطور الثالث: الأشياء، وهو "الغثاء والملك الجبري" وفيه يدور الإنسان في فلك الأشياء والمادة. وبتعبير اجتماعي: يتمحور الإنسان حول ذاته، وفيه تدور الرسالة والأشخاص من أجل خدمة ذاته.
وهذه هي حالة الأمة القائمة الآن.. وهذا ما يجب أن ينتبه إليه المربون والدعاة والعلماء، في العمل على تحرير الإنسان من "سجن الذات" والتمحور حول الرسالة كما جاء في الحديث الشريف: "فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ يَدُورُ" [ المطالب العالية لابن حجر / 4491] لأن بقاء الإنسان سجين الذات، يعني أن كل ما يمارسه من فكر، سيكون داخل سجن الذات، وفي خدمة الذات، وانتصار للذات؛ وسيتحول إلى:
- قالب جامد غير قابل للنقد، أو التغيير، أو التكامل، أو التوازن، أو الحركة.
- وغير قابل للاعتراف بالخطأ، وتقبل الخطأ، وتوقع الخطأ.. وبالتالي: العمل على تصحيح الخطأ.
- وغير قابل للاعتراف بغيره، والبناء مع غيره، والتفاعل مع غيره، والمشاركة مع غيره. فيعيش في جزر فكرية وحزبية منعزلة؛ تمنع - من حيث لا تدري - وحدة الأمة، ووحدة الرسالة !!
* * *
وإنني أشكر كل الذين توجهوا إليّ بالنقد، بل وبالسباب والشتائم؛ ذلك لأنهم منحوني فرصة عظيمة لمحاولة فهم البواعث والدوافع النفسية لذلك.. فالذي توجه لي بالسباب لم أشعر أبداً أنه يجرح كرامتي وذاتي، ولهذا اتسعت في نفسي فرصة لا للرد على السباب بمثله، ولكن للغوص في أعماق النفس نكتشف أبعدها، ونستبصر أحوالها.. ونتعالج إن كنا مرضى، ونتحصن إذا عافنا الله سبحانه وتعالى.
وأما الذين توجهوا بالنقد فالشكر موصول لهم أيضاً؛ لأنهم - على الحقيقة - منحوني فرصة لاكتشف آفاقاً جديدة في العلم والمعرفة، وإن الله ـ جل جلاله ـ رزقني بأبحاث ومقالات ما كنت لأكتبها لولا نقدهم، وتساؤلاتهم، ورفضهم.. وأحياناً تعنتهم!
وإنني لأذكر أنني كتبت مرة مقالاً أحسب أنني ضبطت قواعده بدقة، فكتُب لي تعليق يرفض الكلام ويتهمه بالنقص، ورغم وجود تعليقات التأييد.. لم أشعر بالاطمئنان والراحة، فأرسلته لأكثر من شخص، منهم من يحفظ كتب ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - عن ظهر قلب؛ لإبداء الرأي، فأيده.. لم أشعر أيضاً بالرضى، حتى اتصلت بصاحب التعليق شخصياً لأفهم النقد بصورة مختلفة؛ فأوضح لي مقصده.. والذي تبين حقاً صدق موقفه هو، وأضاف لي إضاءة جديدة، مثلت وتداً جديداً، وداعمة لما يأتي بعدها من فكر وأطروحات.. والشاهد هنا: إنه لم يحدث الشقاق والنزاع، وبقيت الألفة والمحبة، وتعلمت جديداً، ولن يُغلق باب التعلم والتصحيح !
وإنني حين أجمع حولي المشجعين، ويمطرونني بالإطراء والثناء والإعجاب.. وأرفض واحتقر كل ناقد ومعترض، وألقي عليه "سلسلة التهم الجاهزة" لا أصنع شيئاً كبيراً سوى البحث عن المشجعين على طريقة "الألتراس، ونجم الشباك، وما يطلبه المستمعون"، وعندما تمنع الناقدين من التواجد في محيطك وفضائك؛ فاعلم أن هذه ليست الرسالة..
إن الرسالة أن نغشى الناس، ونُعلم ونتعلم من الناس، ونناقش المعارضين قبل الفرح بأهل الموافقة والثناء! حتى نتحصن من حالة البحث عن "التطابق النفسي" وفقاً للأهواء، وإنما نبحث عن التكامل والتوازن والمرونة..
ونتحصن كذلك من محاولة العدو لتقسيمنا وتصنيفنا، فالعدو يُصنفنا.. ثم يُنشأ "إدارة" خاصة لمحاربة هذا التصنيف، ثم "تتعاون" الإدارات المختلفة مع تلك التصنيفات؛ لضربها ببعضها.. وأكثر ما يزعجه أن يكون هناك فكر بلا تصنيف، أو عمل بلا أيديولوجيا، أو حركة بلا تعصب وحزبية، فبذلك يعتقد أنه يحارب "مجهولاً" غير متوقع حركته، ولا رد فعله، ولا قادر على اختراقه، ولا متمكن من تحويره. وهكذا يجب أن تكون حركتنا.
* * *
وإنني حين أفكر وأعمل لنصرة الإسلام، فإنني أقصد نصرته "هو" لا انتصار فكرتي ولا عملي ولا ذاتي أنا، ويصبح بديهياً وإيمانياً:
- أنه إذا تقدم غيري بفكر أرقى، وعمل أصوب.. يجب أن أكون أنا أشد الفرحين به؛ لأنه "انتصار" للشيء الذي يُفترض أنني تحركت ابتداء لنصرته وهو "الإسلام" إنني لن أنظر لغيري على أنه منافس، أو مُعادٍ، فضلاً عن أن يكون عقبة في طريق الإسلام!
- وأن يكون له مكانة الحب والنصرة والتقدير في قلبي، لا الغل والبغض والحسد.
- وإنني اعتبر وأُقر النقص في فكري وحركتي، الأمر الذي يدفعني إلى توقع الخطأ، والبحث عن النقاد، وأهل التقييم والتقويم، واستعد نفسياً وعملياً للتغيير، وللعمل مع غيري.. أو على الأقل ترك غيري يعمل، ويتمم النقص.
- وإننا نشاهد بعين الفرح، والآخرين يأخذون عنا أفكارنا، ولا يُنسبونها لنا، بل يُنسبونها لأنفسهم.. ونعتبرها الغرس الذي يرعاه غيرنا، ويكون لنا صدقة جارية.
- وأننا إذا فشلنا في العمل بصورة متكاملة ومتوازنة ومرنة، فإن أضعف الإيمان هو بقاء الحب والنصح والنصرة، والوقوف - رغم اختلافنا - صفاً واحداً في مواجهة العدو المتربص، وأننا لن نسمح لأنفسنا يوماً أن نكون بفكرنا أو أفعالنا ثغرة يدخل منها العدو، أو نصبح -دون أن نشعر- جزءاً من خطته للإجهاز علينا جميعاً.
- وأننا حين نتوجه "بالنقد" نقصد تصحيح الفكر وتصويبه.. لا أن نمارس عملية "الرجم الفكري" للذات؛ التي تمزق أواصر المحبة، وتقطع وشائج العقيدة، وتطفئ بشاشة الإيمان!!
- وأن هناك إدراكاً لحدود طاقاتي وقدراتي واستعداداتي؛ التي حتماً ستقف عند حد، ولهذا عند اللحظة التي استفرغ فيها كل وسعي.. اعترف بوجود من هو أفضل مني، وأدفع به للأمام، وأترك له العمل.. سائلاً الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يتقبل مني عملي، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، كحال الراهب والغلام.. الراهب يقول لغلام: "إنك اليوم أفضل مني" هذا هو معنى حمل الرسالة.
والحقيقة هو أمر ليس بالهين، فإن تآلف القلوب لن يأتي إلا بالخروج من سجون العصبية الجاهلية، وسجون القبيلة والحزب والجماعة، وسجون العصبية الذاتية والفكرية.. وهذا أمر من عِظم شأنه قال تعالى فيه: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال : 63]
إن سنة الله بتأليف القلوب تأتي عندما:
- تَخلص القلوب له بلا شريك من "عصبية جاهلية" أياً كان نوعها.
- تتطهر القلوب من "حالقة الدين" الغل والحقد والحسد.
- تتسع القلوب لتحتوي إخوانها وأمتها بل والبشرية كلها.
وعندما ترتقي القلوب إلى مستوى حمل الرسالة، والتجرد لها وحدها، لا يشغلها حزب أو جماعة أو قبيلة أو أرض؛ عندها يصبح المجتمع بعضه "أولياء بعض" ويخرج من حالة "الفساد الكبير": {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال : 73]؛ فيتأهل لأن يكون قائماً بالحق والعدل الرباني.. الذي من أجله أرسل الله ـ جل جلاله ـ الرسل، وأنزل الكتب.
وهو أمر لو أنفقنا ما في الأرض من أجله.. لن يتحقق إلا بسنة الله في تأليف القلوب.
وعندما تتآلف القلوب؛ تعود الحياة للمجتمع، وينفض عن نفسه الغثاء والركام والزبد، ويستعد للخروج من التيه، ويعود إلى الكتاب؛ فيُرفع ذكره، ويُمكن له، ويعود خير أمة أخرجت للناس:
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف :43، 44]
{ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء : 10]
* * *