بقلم «سيد قطب» [«مجلة الرسالة» (عدد 991) بتاريخ: 30 – 06 – 1952]
الأمريكان وحلفاؤهم مهتمون بالإسلام في هذه الأيام، إنهم في حاجة إليه ليكافح لهم الشيوعية في الشرق الأوسط، بعد ما ظلوا هم يكافحونه تسعة قرون أو تزيد، منذ أيام الحروب الصليبية!
إنهم في حاجة إليه، كحاجتهم إلى الألمان واليابان والطليان، الذين حطَّموهم في الحرب الماضية، ثم يحاولون اليوم بكل الوسائل أن يقيموهم على أقدامهم، كي يقفوا لهم في وجه الغول الشيوعي. وقد يعودون غداً لتحطيمهم مرة أخرى إذا استطاعوا!
والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية! إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم؛ لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلّم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء. فكلاهما عدو، وكلاهما اعتداء!
الأمريكان وحلفائهم إذن؛ يريدون للشرق الأوسط إسلامًا أمريكانيًا. ومن ثم تنطلق موجة إسلام في كل مكان.. فالكلام عن الإسلام ينطلق في صحافة مصر هنا وهناك. والمناقشات الدينية تغرق صفحات بأكملها، في صحف لم يعرف عنها في يوم ما حب الإسلام ولا معرفة الإسلام. ودور النشر ـ ومنها ما هو أمريكاني معروف ـ تكتشف فجأة أن الإسلام يجب أن يكون موضوع كتبها الشهرية. وكتّاب معروفون ذوو ماضٍ معروف في الدعاية للحلفاء، يعودون إلى الكتابة عن الإسلام، بعد ما اهتموا بهذا الإسلام في أيام الحرب الماضية، ثم سكتوا عنه بعد انتصار الحلفاء! والمحترفون من رجال الدين يصبح لهم هيل وهيلمان، وجاه وسلطان، والمسابقات عن الإسلام والشيوعية تخصص لها المكافآت الضخام.
أمّا الإسلام الذي يكافح الاستعمار ـ كما يكافح الشيوعية ـ فلا يجد أحدًا يتحدث عنه من هؤلاء جميعًا، وأمّا الإسلام الذي يحكم الحياة ويُصّرفها فلا يشير إليه أحد من هؤلاء جميعًا..
إنَّ الإسلام يجوز أن يُستفتى في منع الحمل، ويجوز أن يُستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يُستفتي في أمر الصيام في المناطق القطبية، ويجوز أن يُستفتى في نواقض الوضوء. ولكنه لا يستفتى أبدًا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي، ولا يستفتى أبدًا في أوضاعنا السياسية والقومية، وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات.
والديمقراطية في الإسلام، والبر في الإسلام، والعدل في الإسلام.. من الجائز أن يتناولها كتاب أو مقال، ولكن الحكم بالإسلام، والتشريع بالإسلام، والانتصار للإسلام … لا يجوز أن يمسها قلم ولا حديث ولا استفتاء!
وبعد، فقد حدث أن هذا الإسلام الأمريكاني، قد عرف أن في الإسلام شيئًا يقال له "الزكاة". وعرف أن هذه الزكاة قد تقاوم التيار الشيوعي لو أخذ بها في الشرق من جديد. ومن هنا اهتمت "حلقة الدراسات الاجتماعية" التي عقدت في مصر في العام الماضي بدراسة حكاية "الزكاة" هذه، أو بدراسة مسألة "التكافل الاجتماعي في الإسلام".
ولما كانت أمريكا من وراء حلقة الدراسات الاجتماعية، فإن ذوي الشأن في مصر لم يروا أن يقفوا في وجه حكاية الزكاة؛ كما وقفوا في وجهها يوم فكّر فيها عبد الحميد عبد الحق باشا وهو وزير للشؤون الاجتماعية! إن ذوي الشأن يستطيعون الوقوف في وجه الزكاة يوم يكون الآمر بها هو الله. أما يوم يكون الآمرون هم الأمريكان، فليس أمامهم إلا الخضوع والإذعان!
وعلى ذلك ألفت في مصر لجنة من بعض أساتذة الشريعة في الجامعة، وبعض رجال الأزهر، وبعض الباشوات، لدراسة مسألة "التكافل الاجتماعي في الإسلام"، وبخاصة حكاية الزكاة، لا لوجه الله، ولا لحساب الوطن، ولكن لوجه الأمريكان، ولحساب حلقة الدراسات الاجتماعية.
وهنا بدا وجه الخطر.. إن الأمريكان لو عرفوا حقيقة التكافل الاجتماعي في الإسلام لفرضوه فرضًا على الشرق الأوسط، لأنهم لن يجدوا سدًا أقوى منه في وجه الشيوعية. والتكافل الاجتماعي في الإسلام يفرض على الأموال تكاليف، ويفرض عليها حقوقًا، ويعترف للملايين بحق الحياة. ودون هذا تتقطع الأعناق..
وإذن فلا مفرَّ من تخبئة الأمر على الأمريكان! ولا مفر من الاحتيال على النصوص، ولا مفر من تخفيف الأعباء التي يفرضها الإسلام على الأموال؛ ولا مفر من أن تخرج اللجنة من الزكاة نفسها بظل باهت لا يتناول إلا التافه، ولا يمس الأموال إلا بقفاز من حرير.
إنه لو كان الأمر أمر الله والدين لهان، ولكنه أمر الأمريكان! إن ما تقرره الشريعة الإسلامية شيء، وما تقرره حلقة الدراسات الاجتماعية شيء آخر! إن حلقة الدراسات الاجتماعية لا يجوز أن تعرف سر الإسلام الذي لا تعرفه، وإلا فرضته على أهل الإسلام! ولكن بعض أعضاء اللجنة من المعاندين المكابرين الذين لا يعرفون كيف يكتمون النصوص؛ ولا يعرفون كيف يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولا يعرفون كيف يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا.
هؤلاء الأعضاء ما يزالون متشبثين بأن يطلعوا الأمريكان على السر الخطير، وما يزال الأعضاء الآخرون يلاقون من تشبثهم عنتًا، ولا يدري إلا الله كيف تسير الأمور!
إنها مهزلة. بل إنها لمأساة.. ولكن العزاء عنها أن للإسلام أولياءه، أولياءه الذين يعملون له وحده، ويواجهون به الاستعمار والطغيان والشيوعية سواء، أولياءه الذين يعرفون أن الإسلام يجب أن يحكم كي يؤتي ثماره كاملة. أولياءه الذين لا تخدعهم صداقة الصليبيين المدخولة للإسلام، وقد كانوا حرباً عليه تسعمائة عام .
إن أولياء الإسلام لا يطلبون باسمه برًا وإحسانًا، ولكن يطلبون باسمه عدالة اجتماعية شاملة كاملة؛ ولا يجعلون منه أداة لخدمة الاستعمار والطغيان. ولكن يريدون به عدلًا وعزةً وكرامةً؛ ولا يتخذون منه ستارًا للدعاية، ولكن يتخذونه درعًا للكفاح في سبيل الحق والاستعلاء.
أما دور العلن الذي يعلن بالإسلام في هذه الأيام؛ وأمّا المتاجرون بالدين في ربوع الشرق الأوسط، وأما الذين يسترزقون من اللعب به على طريقة الحواة، أما هؤلاء جميعاً فهم الزبد الذي يذهب جفاء عندما يأخذ المدُّ طريقه، وسيأخذ المد طريقه سريعًا، أسرع مما يظن الكثيرون، إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55]
***