قائمة المدونة محتويات المدونة

27‏/04‏/2012

115- مقالات: العبيد.. وضريبة الذل - سيد قطب

‌‌مجموعة من المقالات للأستاذ سيد قطب (رحمه الله) نُشرت في مجلة الرسالة عام 1952م، تناولت: التحليل النفسي لحالة "الاستعباد الذاتي والاجتماعي"، و"ضريبة الذل" التي تدفعها الشعوب عندما ترضى بالقهر والذلة، وبيان لخطورة "الاستعمار الروحي" الذي يُطبق به الغرب على عقولنا، وأخيراً: إشارة إلى "طريق الحرية".

العبيد..

[مجلة الرسالة: عدد 997، بتاريخ: 11 – 08 – 1952م.]

 

’’ليس العبيد هم الذين تقهرهم الأوضاع الاجتماعية، والظروف الاقتصادية، على أن يكونوا رقيقاً، يتصرف فيهم السادة كما يتصرفون في السلع والحيوان، إنما العبيد الذين تعفيهم الأوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية من الرق، ولكنهم يتهافتون عليه طائعين!

العبيد هم الذي يملكون القصور والضياع، وعندهم كفايتهم من المال، ولديهم وسائلهم للعمل والإنتاج، ولا سلطان لأحد عليهم في أموالهم أو أرواحهم. . وهم مع ذلك يتزاحمون على أبواب السادة، ويتهافتون على الرق والخدمة، ويضعون بأنفسهم الأغلال في أعناقهم، والسلاسل في أقدامهم، ويلبسون شارة العبودية في مباهاة واختيال!

العبيد هم الذين يقفون بباب السادة يتزاحمون وهم يرون بأعينهم كيف يركل السيد عبيده الأذلاء في الداخل بكعب حذائه. كيف يطردهم من خدمته دون إنذار أو إخطار. كيف يطأطئون هاماتهم له فيصفع أقفيتهم باستهانة، ويأمر بإلقائهم خراج الأعتاب، ولكنهم بعد هذا كله يظلون يتزاحمون على الأبواب، يعرضون خدماتهم بدل الخدم المطرودين، وكلما أمعن السيد في احتقارهم زادوا تهافتاً كالذباب!

العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية. لأن لهم حاسة سادسة.. أو سابعة، حاسة الذل.. لابد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحست نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب، يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع السيد، ليخروا ساجدين!

العبيد هم الذين إذا أعتقوا وأطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم، والكرامة تثقل كواهلهم، لأن حزام الخدمة في أوساطهم هو شارة الفخر التي يعتزون بها، ولأن القصب الذي يرصع ثياب الخدمة هو أبهى الأزياء التي يتعشقونها!

العبيد هم الذين يحسون النير لا في الأعناق ولكن في الأرواح، الذين لا تلهب جلودهم سياط الجلد، ولكن تلهب نفوسهم سياط الذل، الذين لا يقودهم النخاس من حلقات في آذانهم، ولكنهم يقادون بلا نخاس، لأن النخاس كامن في دمائهم.

العبيد هم الذين لا يجدون أنفسهم إلا في سلاسل الرقيق، وفي حظائر النخاسين، فإذا انطلقوا تاهوا في خضم الحياة وضلوا في زحمة المجتمع، وفزعوا من مواجهة النور، وعادوا طائعين يدقون أبواب الحظيرة، ويتضرعون للحراس أن يفتحوا لهم الأبواب!

***

والعبيد ـ مع هذا ـ جبارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتنكيل بهم، ويلتذون إيذاءهم وتعذيبهم، ويتشوفون فيهم تشفي الجلادين العتاة!

إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، فيحسبون التحرر تمرداً، والاستعلاء شذوذاً، والعزة جريمة، ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الأحرار المعتزين، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق!

إنهم يتسابقون إلى ابتكار وسائل التنكيل بالأحرار، تسابقهم إلى إرضاء السادة، ولكن السادة مع هذا يملونهم ويطردونهم من الخدمة؛ لأن مزاج السادة يدركه السأم من تكرار اللعبة، فيغيرون اللاعبين ويستبدلون بهم بعض الواقفين على الأبواب.

***

ومع ذلك كله فالمستقبل للأحرار. المستقبل للأحرار لا للعبيد ولا للسادة الذين يتمرغ على أقدامهم العبيد. المستقبل للأحرار لأن كفاح الإنسانية كلها في سبيل الحرية لن يضيع. لأن حظائر الرقيق التي هدمت لن تقام، ولأن سلاسل الرقيق التي حطمت لن يعاد سبكها من جديد!

إن العبيد يتكاثرون نعم؛ ولكن نسبة الأحرار تتضاعف والشعوب بكاملها تنضم إلى مواكب الحرية، وتنفر من قوافل الرقيق؛ ولو شاء العبيد لانضموا إلى مواكب الحرية؛ لأن قبضة الجلادين لم تعد من القوة بحيث تمسك بالزمام، ولأن خطام العبودية لم يعد من القوة بحيث يقود القافلة؛ لولا أن العبيد كما قلت هم الذين يدقون باب الحظيرة، ليضعوا في أنوفهم الخطام!

ولكن مواكب الحرية تسير؛ وفي الطريق تنضم إليها الألوف والملايين.. وعبثاً يحاول الجلادون أن يعطلوا هذه المواكب أو يشتتوها بإطلاق العبيد عليها. عبثاً تفلح سياط العبيد ولو مزقت جلود الأحرار. عبثاً ترتد مواكب الحرية بعدما حطمت السدود؛ ورفعت الصخور، ولم يبق في طريقها إلا الأشواك!

إنما هي جولة بعد جولة. وقد دلت التجارب الماضية على أن النصر كان للحرية في كل معركة نشبت بينها وبين العبودية. لقد تدمى قبضة الحرية ولكن الضربة القاضية دائما تكون لها. وتلك سنة الله في الأرض، لأن الحرية هي الغاية البعيدة في قمة المستقبل، والعبودية هي النكسة الشاذة إلى حضيض الماضي!

إن قافلة الرقيق تحاول دائماً أن تعترض موكب الحرية.. ولكن هذه القافلة لم تملك أن تمزق المواكب يوم كانت تضم القطيع كله، والموكب ليس فيه إلا الطلائع؛ فهل تملك اليوم وهي لا تضم إلا بقايا من الأرقاء أن تعترض الموكب الذي يشمل البشرية جميعا؟

وعلى الرغم من ثبوت هذه الحقيقة، فإن هنالك حقيقة أخرى لا تقل عنها ثبوتاً؛ إنه لابد لموكب الحريات من ضحايا.. لابد أن تمزق قافلة الرقيق بعض جوانب الموكب. لابد أن تصيب سياط العبيد بعض ظهور الأحرار. لابد للحرية من تكاليف. إن للعبودية ضحاياها وهي عبودية، أفلا يكون للحرية ضحاياها وهي الحرية؟

هذه حقيقة وتلك حقيقة. ولكن النهاية معروفة والغاية واضحة والطريق مكشوف والتجارب كثيرة، فلندع قافلة الرقيق وما فيها من عبيد تزين أوساطهم الأحزمة ويحلي صدورهم القصب، ولنتطلع إلى موكب الأحرار وما فيه من رؤوس تزين هاماتها مياسم التضحية، وتحلي صدورها أوسمة الكرامة. ولنتابع خطوات الموكب الوئيدة في الدرب المفروش بالشوك، ونحن على يقين من العاقبة، والعاقبة للصابرين.‘‘

 

***

‌‌ضريبة الذل..

[مجلة الرسالة: عدد 989، بتاريخ: 16 – 06 – 1952م.]

 

’’بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار ‌الذل والمهانة، هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة!

هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة ‌الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.

وإنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة ‌الذل وهم صاغرون. ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله.

كم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به أو ناطها الناس.. ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هين هين، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل؛ السادة الذي لهث في إثرهم، ووصوص بذنبه لهم، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء!

كم من رجل كان يملك أن يكون شريفاً، وأن يكون كريماً، وأن يصون أمانة الله بين يديه، ويحافظ على كرامة الحق وكرامة الإنسانية، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئاً، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، وأن يحرس الحق، وأن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه، وضعف عن تكاليف الكرامة، وتجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه؛ ورخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نُبذ كما تنبذ الجيفة، وركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يَعدونه ويمنونه، يوم كان له من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة، ومن الأمانة ملاذ.

 كثير هم الذين يهوون من القمة إلى السفح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد. ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في سبيلهم هووا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مهاوي الضلال.

ومع تكاثر العظات والتجارب. فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية. ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة. ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطامع والمطامح، وتلهث وراء الوعود والسراب.. ثم تهوى، وتنزوي هنالك في السفح خانعة مهينة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار.

لقد شاهدت في عمري المحدود ـ وما زلت أشاهد ـ عشرات من الرجال الكبار يحنون الرءوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم وتنكس رؤوسهم.. ثم يطردون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين: في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!

لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أنت يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة.. شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهماً، وهم يؤدون للذل ديناراً أو قنطاراً.. شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان!

لا بل شاهدت شعوباً بأسرها تشفق من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات. خرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية. ولا تبلغ عشر معشارها. وقديما قالت يهود لنبيها: (يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها، فأذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون)... فأدت ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة، أربعين سنة تتيه في الصحراء تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف.. وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعز والنصر في عالم الرجال!

إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية! والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولا فكاك.

فإلى الذين يفرقون من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرغون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم، وبذلتها الإنسانية لتتحرر وتتخلص.

إلى هؤلاء جميعا أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت تُوهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يرهبون الجاه والسلطان يرهبهم الجاه والسلطان.

ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأذلاء الذين باعوا الضمائر وخانوا الأمانات وخذلوا الحق وتمرغوا في التراب، ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله! ملعونين من الناس. وأمثلة كذلك ـ ولو أنها قليلة ـ على الذين يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا، ويأبون أن يبيعوا رجولتهم بيع السماح. وقد عاش من عاش منهم كريماً، ومات من مات منهم كريماً.

﴿‌مِنَ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23]‘‘

 

***

مُقتطفات من مقال "مبادئ العالم الحر "

[مجلة الرسالة عدد 1018، بتاريخ: 05 -01 – 1953م]

 

’’(العالم الحر) يرتكب من الجرائم ما يقشعر له ضمير البشرية. وذلك رغبة في نقل مبادئ الحضارة الغربية إلى القارة المظلمة. وإذا كانت هذه القارة لا تريد أن تتحضر على يد البعثات التبشيرية فلتتحضر إذن بالسيف والمدفع والطيارة والدبابة؛ وهي أقدر ولا شك على نقل مبادئ الحضارة إلى الشعوب المتخلفة!

و(العالم الحر) يشرد الشعوب من ديارها ـ على نحو ما فعل في فلسطين ـ وذلك رغبة منه في إيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء. فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهم في هذه الأرض المعذبة!

وأنا لا أعيب على (العالم الحر) أن يمزق إهاب الحرية ويمثل بجثث الضحايا من الأحرار، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ في القرى الآمنة، ويرتكب الجرائم الوحشية التي يرتكبها بلا تحرج.. فإن هدفه السامي من وراء ذلك كله واضح... وهو نقل مبادئ الحضارة الغربية بطريقة عملية إلى الشعوب المتأخرة، التي لا يجوز أن تظل متأخرة!

إنني لا أعيب على هذا (العالم الحر) حريته هذه. حرية وحوش الغابة في أنت صنع في الغابة ما يؤهلها له الظفر والناب. فمبادئ الحضارة الغربية هي هذه كما كانت وكما هي كائنة، وما ستكون حتى يأذن الله لها بالفناء.

كلا! إنما أنا أتلفت إلى شعوبنا وحكوماتنا ومفكرينا وكتابنا وشعرائنا وجماعاتنا وجمعياتنا.. أتلفت إليهم لأرى هل سكتت الأبواق التي تهتف بحمد الحضارة الغربية؟ هل خرست الألسنة التي تتحدث عن الصداقة الأمريكية والصداقة الإنجليزية والصداقة الفرنسية؟ هل انزوت الجماعات والجمعيات التي تحمل ألوية الصداقة مع (العالم الحر) وتشيد بجهوده في الخدمات الاجتماعية والتعليم الأساسي واليونسكو؟

إنَّ (العالم الحر) لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة؛ ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي، وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة؛ ويحاربنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة في بلادنا... وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام، وتشتري الهيئات والجماعات.

وواجبنا نحن أن نكافح، واجبنا أن نكافح الوسائل الاستعمارية الحديثة، ونكافح الهيئات والجماعات والمؤسسات التي تيسر العمل لهذه الوسائل: مهما كانت أسمائها بريئة.

إنَّ الاستعمار الروحي والفكري هو الاستعمار الخطير حقاً. فاستعمار الحديد والنار يثير المقاومة بطبيعته، ويؤرث الأحقاد القومية التي تقتلع الاستعمار من أساسه. أما الاستعمار الروحي والفكري فهو استعمار ناعم لين، مخدر، ينوم الشعوب ويستل أحقادها المقدسة التي يجب أن تتأجج، وتستحيل ناراً وشواظاً يحرق ويدمر الاستعمار وعملاءه في يوم من الأيام...

إنَّ الحرب المقدسة مع الاستعمار اليوم تقتضي تخليص ضمائر الشعوب أولاً من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الأجهزة التي تقوم بعملية التخدير، والحذر من كل لسان ومن كل قلم، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن معسكراً من معسكرات الاستعمار، التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ واحدة. مبادئ العالم الحر ومصالح العالم الحر!

***

في الغرب يقوم (العالم الحر) وفي الشرق تقوم (الديمقراطية الشعبية) ونصيب هذه الديمقراطية من اسمها كنصيب العالم الحر من اسمه بسواء!

فالديمقراطية الشعبية هي الديمقراطيات التي تحكم حكماً ديكتاتورياً مباشراً، تحرسه الجاسوسية الرهيبة؛ ولا تسمح لفرد من الشعب فضلاً على الشعب كله أن يفكر بحرية، ولا أن يفكر في الحرية ذاتها بحال!

وإذا كان للعالم الحر أجهزته وأقلامه وألسنته، فإن للديمقراطية الشعبية أجهزتها وأقلامها وألسنتها.. وكلها تعمل في محيطنا العربي والإسلامي... وكلها تستحق منا المكافحة كما نكافح الاستعمار... إلا أن الاستعمار يجثم على صدورنا اليوم ويخنق أنفاسنا بعنف. والواجب يقتضينا أن نوجه المقاومة الإيجابية للاستعمار، والمقاومة الفكرية للديمقراطيات الشعبية!

والراية التي تجمعنا لنكافح... هي وحدها راية الإسلام.

إن بعضنا يؤثرون أن يتجمعوا تحت الراية العربية... وأنا لا أُعارض في أن يكون هذا تجمعاً وقتياً يهدف إلى تجمع أكبر منه، فليس هناك تعارض جدي بين القومية العربية والوطنية الإسلامية إذا نحن فهمنا القومية العربية على أنها خطوة في الطريق. إن أرض العرب كلها جزء من أرض الإسلام، فإذا نحن حررنا الأرض العربية فإننا نكون قد حررنا بضعة من جسم الوطن الإسلامي، نستعين بها على تحرير سائر الجسد الواحد الكبير.

والمهم أن نتجمع اليوم ونتساند كما يتساند العالم الحر ضدنا. فكل بلد صغير لا يستطيع وحده أن يكافح عالماً. والسياسة القصيرة النظر التي تريد أن تحصرنا في حدودنا الجغرافية المصطنعة هي سياسة حمقاء؛ فالعالم يسير نحو التكتل في الشرق والغرب سواء. ومن واجبنا أن نتكتل على الأقل تمشياً مع منطق العصر؛ إن لم يكن تمشياً مع منطق الإسلام.

والمجموعة الآسيوية الإفريقية تحاول أن تكون كتلة محايدة. ولا ضير من السير معها، وإن كنت أنا شخصياً لا أرى أن هنالك مقومات حقيقية ودائمة لقيامها. فهنالك تيارات مختلفة تتجاذبها. والمصالح التي تربط بينها اليوم مصالح مؤقتة. أما الكتلة التي يمكن أن تقوم على أسس حقيقية وعميقة ودائمة فهي الكتلة الإسلامية، وهي آتية لا ريب فيها على الرغم من جهود (العالم الحر) وجهود (الديمقراطيات الشعبية) فلنعجل بقيامها فهي سندنا الحقيقي الوحيد.‘‘

 

***

هذا هو الطريق..

[مجلة الرسالة: عدد 983، بتاريخ: 05 – 05 – 1952م.]

 

﴿‌وَلَا ‌تَحْسَبَنَّ ‌الَّذِينَ ‌قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 169-175] 

كلما رأيت المتوجسين عن الجهر بكلمة الله، وهم يزعمون الإيمان بالله.. كلما سمعتهم يجمجمون بهذه الكلمة ولا يصدعون خيفة أن يمسهم القرح، وأن تسلط عليهم قوى الشر والطغيان.. كلما وجدتهم يلبسون هذا الضعف ثوب الكياسة واللباقة والمرونة والدهاء..

كلما أبصرت هذا كله تمثلت لي تلك الآيات القدسية الكريمة ترسم الطريق.. الطريق الذي لا طريق غيره إلى النصر والعزة والمنعة والتوفيق.. وهتفت من أعماق ضميري: ألا إن هذا الدين لواحد؛ ألا وإنه لن يصلح آخره إلا بما صلح به أوله.. ألا وان هذا هو الطريق...!

{الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل}

إنهم لم يقولوا: نحن قله ضعيفة في كثرة باغية، فلنصبر على الذل، ولنرض بالهوان، ولنجامل الشر، ولنتق الطغيان.. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. فالمؤمن يوقن: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وأن أمر الله إنما يتم بعبادة الذين ينفذون أمره، وأن السماء لا تمطر على الناس عزاً ولا نصراً، إنما هم يصلون قلوبهم بجبار السماء فتهون عليهم قوى الأرض، وتهون معها حياة الأرض. وعندئذ ينقلبون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. وعندئذ يُمكن الله لهم في الأرض، لأنهم صدعوا بكلمة الله، ولم يخشوا غير الله.

***

ذكرت هذا كله وأنا احضر اجتماعاً يقول دعاته: إنهم اجتمعوا لتجديد شباب الإسلام والعمل لنصرة الإسلام، وإعزاز العالم الإسلامي.. فلما أن جاء ذكر الحكم بالإسلام والعمل بشريعة الإسلام، انتفض منهم الكثيرون مذعورين، أن يثير عليهم هذا القول ثائرة الاستعمار وغير الاستعمار، وأن يسبب لهم متاعب وعوائق ليس إلى اجتيازها من سبيل. وقال أوسطهم إنما نحن مؤمنون بأن الإسلام عقيدة وشريعة ودستور ونظام، ولكننا نؤجل هذا إلى حينه، ونأخذ فيما هو أسلم وأحكم!

قلت في نفسي: كيف ينتصر المنهزمون في ضميرهم منذ اللحظة الأولى؟ وكيف يكافح قوى الشر والطغيان من يفرق أن يجهر بالحق في كلمات على الورق، أو كلمات على اللسان؟

وعلم الله ما عجبت لشيء عجبي لدبلوماسية الأقزام التي يزاولها منا رجال. لا في ميدان الدعوة الإسلامية وحدها، بل في ميدان الصراع القومي مع الاستعمار، والصراع الاجتماعي ضد الطغيان، والصراع الإنساني ضد الشر كله وهو ألوان..

إنهم يسترون الضعف دائماً بستار (العقل) ويسترون الهزيمة دائماً بستار (المناورة) ويسترون حب السلامة دائماً بستار (المصلحة العامة)!

وإذا جاز لرجال السياسة العصرية الكاذبة الخادعة أن يعتذروا بتلك المعاذير، فإنها لكبيرة أن يستعيرها منهم دعاة الإسلام. الإسلام الذي يقول ربه لرسوله {فاصدع بما تؤمر} ويئسه من رضى مخالفيه عنه مهما جامل وحاسن، لأنهم لن يرضوا عنه إلا إذا ترك دينه جملة وعقيدته: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}!

إن الذين نداورهم أمهر منا في المداورة، والذين نحسب أنفسنا نخدعهم، أكثر منا يقظة وأشد خداعاً. فلم يبق إلا ذلك الطريق الواضح الصريح النظيف: أن نقول كلمة الحق التي نريد، وأن ندعها تقرع الأسماع والقلوب، وأن نؤمن بالله الذي يقول: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور}

***

وبعد فإن الإسلام الذي ندعو إليه عقيدة تنبثق منها شريعة، ويقوم على هذه الشريعة نظام اجتماعي، ونظام دولي، ونظام إنساني. ولا سبيل فيه لفصل العقيدة عن الشريعة، ولا فصل الشريعة عن النظام الذي تنشئه وتحكمه. فهذه العقيدة لا تتم، بل لا توجد، إذا لم تُنشئ معها آثارها الطبيعية التي لا فكاك منها. فليتحسس عقيدته وليفتقدها من يرى شريعة غير شريعة الإسلام تحكم، ثم لا يبذل جهده في رد الأمر إلى شريعة الإسلام؛ ومن يرى نظاماً غير النظام الإسلامي يسود، ثم لا يعمل عملاً أو يقول قولاً، يصحح به الأوضاع، ويحقق به الصواب.

إنَّ الإسلام لا يعيش في الظلام، فهو نور يعيش في النور. وإن الإسلام لا يخادع ولا يداور، فهو كلمة الحق التي تكره المداورة والخداع. وإن الإسلام حقيقة واقعة تعيش في الأرض، لا سراً ولا مؤامرة تتواري عن الأنظار.

نحن نريد عالماً إسلامياً.. فلندع إلى هذا العالم على أسسه الواضحة الصريحة: شريعة إسلامية، ومجتمع إسلامي.. ولقد مضى ـ ولله الحمد ـ ذلك العهد الذي كانت الببغاوات تثرثر فيه بأن الدين رجعية، وبأن الإسلام تعصب.. فقد اعترفت مؤتمرات (الخواجات) الذين تقلدهم الببغاوات بأن الشريعة الإسلامية مرجع هام للتشريع الدولي. ولقد أعجبني فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف دزار مدير الأزهر، وهو يقول هذه الحقيقة متهكماً على أحد ببغاواتنا (المثقفين)!

فمن قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فاصطكت أسنانهم، وارتجفت مفاصلهم، فلينظروا: أين هم من ذلك الطريق الذي رسمه الله، في كتاب الله: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} فلينظروا أين يتجه بهم الطريق!

إنَّ أضواء النصر تلوح في أفق الفكرة الإسلامية فتجذب إليها الكثيرين. منهم من يبتغي وجه الله، ومنهم من يحسبها تجارة كاسبة. ولكن الطريق طويل، والعقبات كثيرة، والقرح والابتلاء والاستشهاد ينتظر المجاهدين. وسيحق على بعضهم قول الله: ﴿‌لَوْ ‌كَانَ ‌عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ [التوبة: 42]

وسيحق على الآخرين قوله الكريم:

﴿‌مِنَ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23] 

وأولئك هم الفائزون.‘‘

 

***