قائمة المدونة محتويات المدونة

18‏/11‏/2013

الكاهن والعلماني

في بداية القرن الرابع الميلادي، وبعد قرون سابقة من الاضطهاد للديانة المسيحية من قِبل الرومان، اعتراف الإمبراطور قسطنطين الأول [307-337 م]  بالمسيحية...
 وحاول الجمع والتوفيق بين الديانة الوثنية القائمة، وبين الوافد الجديد "المسيحية" فاحتوى بلاطه على العديد من رجال الدين المسيحيين، إلى جانب الكهنة والفلاسفة الوثنيين، كما قسمت الوظائف الكبرى بين المسيحيين والوثنيين، بل إن النقود التي أمر بصكها احتفظت أيضاً بإشارات تدل على المسيحية والوثنية معاً.
وقد خلق ذلك إشكالية في العالم الروماني - المسيحي الجديد، فمن المفترض أن الكنيسة كان لها اليد الأعلى على الشعب المسيحي، وكذلك فإن قسطنطين - رغم مسيحيته - كان يصرُّ على التمسك بالإرث السياسي الروماني القديم الذي يضع الإمبراطور في المكانة الأعلى بالنسبة إلى شعبه.
فبدأ الصراع الكنسي العلماني بداية مبكرة جداً عما يظن البعض، فلقد بدأ هذا التنافس في بداية القرن الرابع الميلادي.. بين الأمبراطور قسطنطين من جانب، ورجال الكنيسة من جانب آخر، فقسطنطين خشي على تفكك الدولة بعد دخول طبقات دنيا من المجتمع الروماني في المسيحية، فتحول نحوها لاعتبارات سياسية واجتماعية.. خلافاً لسابقيه الذين كانوا في حالة عداء دائم مع المسيحية، ومن ناحية أخرى لم يعترف للكنيسة بأي دور سياسي، ثم بدأت المجامع المقدسة التي حرّفت الديانة المسيحية بصورة كاملة؛ وقضت على ما بقي من ديانة التوحيد، وأشهر تلك المجامع "المجمع النيقاوي القسطنطيني" سنة (325 - 381 م) والذي اخترع "عقيدة الثالوث" متأثراً في ذلك بالفلسفات الوثنية الأفلاطونية السادة في ذلك العصر.
وبالمقارنة بين ما حدث لواقعة "الإمبراطور قسطنطين والمسيحية" مع الإسلام، حين كان الإسلام في أول عهده تحت اضطهاد كفار قريش، وعرض كفار قريش المال والحكم والمتاع على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقابل التوافق بين الديانة الوثنية القائمة، وبين الدين الجديد "الإسلام" بل ود الذين كفروا لو يُدهن ويَلين النبي لهم، فيدهنوا ويلينوا له.. بل طلبوا منه ألا يسفه آلهتم، فقال: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ.. } وهذا هو الفرق في المواجهة بين الوثنية والمسيحية من جانب، وبين الوثنية والإسلام من جانب آخر. وهذا الموقف كذلك هو درس العودة للإسلام كهوية وشريعة ومجتمع ودولة في مقابل هوية الدولة العلمانية الحالية التي طعنها الاستعمار في جسم الأمة.
وبعد دخول "قسطنطين" في المسيحية؛ وجدت الكنيسة موطن قدم ووجود راسخ بعد انتشار المسيحية بحرية دون اضطهاد، وصارت صاحبة السلطان الروحي والديني والكهنوتي، وصارت أحد مكونات الدولة الرومانية.. بعد عصور من الاضطهاد والظلم، وصارت في حالة توافق دائم مع كل امبراطور حتى إن العقيدة كانت تتغير حسب رغبة كل امبراطور.
وكانت "طبقة الكهنوت" وحدها هي التي تملك الأسرار، وهي وحدها - دون غيرها - تملك تفسير النصوص الدينية، والوساطة بين الشعب والله ! وهذا هو رأس مال الكنيسة وسلطانها، وتم تقسيم المجتمع من الناحية الدينية إلى ( كاهن "رجال دين"، وعلماني "بقية المجتمع")
إذن.. كل ما ليس بكاهن هو علماني في نظر الكنسية والمجتمع. والكاهن "يحمل سر الكهنوت والمغفرة" فهذا كان قائماً وطبيعياً قبل بداية الصراع وبعده، إنما الصراع كان قائماً على امتيازات كل منهما وما يملكه من قوة.
ومن هنا نفهم أن العلماني مقابل الكاهن.. تعني أن العلماني - ليس كهنوتي - أي من عامة الشعب المسيحي وليس معناه أنه شخص غير متدين أو لا يعتبر الدين، بينما الكاهن هو الذي يتمتع بسر الكهنوت، فمن فم الكاهن تخرج الشريعة ! والكاهن له منزلة النبي وله امتيازات أكثر من الأنبياء، وهو السلطة الوحيدة التي لها الحق فى أن تفكر وتدرس وتفسر وتشرح الأسفار الدينية. وهو - وحده - من يملك تقديم الخطايا للرب لغفرنها.
وكان هذا يتم في عصور أوربا المظلمة بصورة مستبدة؛ جعلت الكنسية تتحكم في الروح والجسد بالاشتراك مع الامبراطور، ولما ثارت أوربا للقضاء على عبوديتهم وقهرهم باسم الكنيسة وباسم الامبراطور.. ظل هذا التقسيم قائماً في الذهنية المسيحية "علماني – كاهن" ودار الصراع قديماً وحديثاً على اميتازات ووظائف كل منهما، حتى انتهى إلى الفصل بين كل منهما بعد الثورة الفرنسية.. العلماني: يبقى علمانياً ينظم أمور حياته بعيداً عن الكاهن، والكاهن: يبقى كاهناً ينظم أمور الكنيسة الروحية لمن يشاء من العلمانيين.
وهذا هو الأصل الأساسي الذي يجب اعتباره عن دراسة وفهم "العلمانية" لأنها تضعنا في المكان والزمان والظروف والملابسات التي نشأت فيها.
وهذا هو الأصل عند الحديث عن "الدولة المدنية" في مقابل "الدولة الدينية" للكنيسة في عصورها الوسطى المظلمة.
ولما قامت الثورة الفرنسية بعد تفشي ظلم رجال الدين والكهنوت، والملوك والإقطاعيين.. ثارت على تلك "الدولة الدينية" بكل مكوناتها وإرثها البغيض، فكانت:
"الدولة المدنية" بديلاً عن "دولة الكنيسة الدينية والأمبراطور".
و"العلمانية" بديلاً عن الكهنوت، بل والدين برمته ! وانتصاراً "للمجتمع العلماني وغالبيته العظمى" على "طبقة محدودة من الكهنوت".
ومع كل هذا التحول والتغير في "الديانة المسيحية" التي كانت تتم في "المجامع المقدسة" تحت إشراف الإمبراطور الذي كان يرعى تلك المجامع؛ جعل "الديانة العلمانية" التي اعتقدتها أوربا بعد ثوراتها تقول أن الديانات (صناعة بشرية).. وهي تحترمها لاحترامها للإنسان الذي يعتقدها، لكن لا تعترف بأي دور لها في الحياة، ولعل "العلمانية" صادقة في ذلك أنها "صناعة بشرية" بعد كل هذا التحوير والحذف والإضافة التي كانت تتم في "المجامع المقدسة" ! ولذا جاءت مفردات العلمانية ( انتصار الإنسان على الله - نسبية الأخلاق والقيم - فصل أي دين وغيب عن واقع الحياة، والانتصار للمادة واللذة )!
لكن الإسلام هو الرسالة الأخيرة، والدين الخاتم.. ولقد تكفل الله سبحانه بحفظه من التحوير والتبديل والزيادة والنقصان، ولا يُقارن بالديانات الوضعية، فهو طريق الخلاص لكل البشرية..
ولهذا فإن الحديث عن حلول لواقع الأمة الإسلامية المعاصرة التي تستحضر تلك المسميات: "الدولة المدنية - العلمانية - الديمقراطية - القومية... إلخ" إنما هو - بكل بساطة ووضوح - يستحضر واقعاً غير واقعه، وتاريخاً غير تاريخه، وحضارة غير حضارته، ونشأة غير نشأته ! ولهذا فهو ينتهي إلى العبث والتيه والتخبط والتشتت.
وإن الذي يريد إحياء أمته، وعودة حضارته، وقيام دولته.. عليه أن يعود لتاريخه، ويسير مع دورة الحياة والكون والقدر.. وهي بالتأكيد معاكسة تماماً للواقع الأوربي، ففي الوقت الذي قهر فيه "دين الكنيسة" المجتمع الأوربي.. كانت الحضارة الإسلامية يشع نورها على كل الإنسانية، وتعلم البشرية كلها.. لأن الإسلام هو الدين الرباني الصحيح المعني بتحرير الإنسان، ورفعة كرامة الإنسان، وإطلاق طاقات الإنسان.. في الوقت الذي كانت فيه "الكنيسة" تبيع صكوك الغفران، وقراريط في الجنة !
فلما تركت أوربا هذا الدين المنحرف، وانطلقت نحو الخلاص منه، حققت ريادة في الحضارة المادية.. وتزامن ذلك بانحطاط تدريجي للأمة الإسلامية بسبب (تركها) للرسالة الربانية ودينها الصحيح القويم الذي حقق لها الريادة العالمية من قبل.
فجاء الواقع الأوربي المعاصر راقياً في الواقع المادي، بسبب تحررها من طغيان الكنيسة والكهنوت والإمبراطور.
وجاء واقعنا الإسلامي المعاصر مُتخلفاً في الواقع المادي، والرسالي، والحضاري.. بسبب تركنا لديننا القويم، وللرسالة الربانية التي حققت ريادة عالمية من قبل.
ولذا يبدو طريق العودة سهل، بسيط، واضح.. إنه فقط العودة للدين القويم: هوية، ورسالة، وحضارة، وشريعة، ومجتمع، ودولة. فـَفوق أنه الرسالة الربانية الأخيرة.. والدين القويم الذي تكفل الله تعالى بحفظه، فوق كل هذا فقد تحقق له نجاح مادي وحضارة ملئت كل الدنيا !
ولذا يبدو من يستخدم مصطلحات أوربية النشأة والهدف والصراع والغاية مثل: [ الدولة المدنية، العلمانية، الديمقراطية، القومية.. إلخ ] إنما هو يتحدث عن واقع غير واقعنا، وتاريخ غير تاريخنا، ومشكلة غير مشكلتنا، وطريق غير طريقنا.. بل إنه يعاكس سير القدر، ودورة التاريخ، والحضارة.. ويُضيع طاقاتنا، وأعمارنا، وأجيلنا في لا شيء. !
كُتب في 18 / 11 / 2013م