هو ذلك العيد الذي ينشغل
فيه الناس بـ "اللحم" وأنواع الطعام، وطرق طهيه.. يسمونه عيد اللحمة
والأكل يبتهجون لمجيئه من أجل الطعام.. ويستعدون له بالطعام، ولا يشغل بالهم شيء
سوى أنواع اللحم، يأكلون حتى ينتفخون.. ثم يعودون ليأكلوا ويأكلوا؛ حتى ينطفأ العقل،
وتختنق الروح، ويمتلأ الجسد، وتترهل النفس! إنه "عيد اللحمة"، ولا بد أن
نجرب كل الأصناف والأنواع !
ويختمون "عيد اللحمة"
هذا بفيلم العيد.. مع لحوم العاريات!! ثم يحسبون في النهاية أن هذه الصورة من
الاحتفال.. عيداً للمسلمين !!
إن هذه الصورة من العيد..
هي صورة من صور الجاهلية المعاصرة؛ ليس لها أدنى علاقة بالإسلام، ولا بأعياد
الإسلام !
فما هو العيد في الإسلام؟!
* * *
العيد في الإسلام هو:
"عيد الأضحى" الذي استبدله أهل الجاهلية المعاصرة بـ "عيد
اللحمة" !! هذا العيد هو "عيد الحب".. الحب الإلهي العظيم الذي لا
يضاهيه حب، ولا يماثله حب، ولا يرتقي إليه حب..
إنه ذكرى الحب.. ذكرى
الخليل إبراهيم - عليه السلام - إبراهيم الذي كان أُمة دون الناس، الذي تبرأ من
الكفر والطاغوت، واستعلن العداوة والبغضاء لكل من لم يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله..
إبراهيم الذي وفى عهده وأمانته مع الله.. فأدى "الأمانة" التي في عنق كل
إنسان تجاه خالقه.. فكان هو الخليل، أُلقي به في نار الدنيا، ولم يخف، ولم يبدل،
ولم يداهن، ولم يصالح، ولم يتوافق، ولم يسكت.. بل هو لله.. ومن أجل "لا إله
إلا الله"..
نجح في كل ابتلاء.. ثم
جاءه ابتلاء من أعظم الابتلاءات: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ } [الصافات : 102]
"يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة
والتسليم . .
هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من
الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه
بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو
ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي،
ويرافقه
في الحياة.. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد،
حتى
يرى
في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا؟ إنه لا
يتردد،
ولا
يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.. نعم إنها
إشارة.
مجرد
إشارة. وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً
مباشراً. ولكنها إشارة من ربه.. وهذا يكفي.. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض.
ودون أن يسأل ربه.. لماذا يا ربي أذبح
ابني الوحيد ؟!
ولكنه
لا
يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما
هو
القبول
والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه
الأمر
الهائل
في هدوء وفي اطمئنان عجيب." [في ظلال القرآن/الصافات]
يترعرع الغلام ويكبر، ها
هو الطفل الذي يضحك بين يديه، ويرى فيه الأب جزءاً من نفسه في صورتها البريئة
الحنونة الهادئة، ها هي البسمات والحركات.. ترقرق في قلب الأب الحنين، والحب للولد..
وتعيد له الحيوية والشباب، ثم يكبر ويكبر حتى بلغ معه السعي، وصار عضداً لأبيه، ثم
يأتيه خبر الذبح..
يا له من خبر على الأب،
وعلى الابن كليهما سواء.. لو كان الذبح وهو طفل رضيع قبل أن يدرك شيئاً لكن هيناً،
لو كان الذبح قبل أن يتعلق به قلب الأب، ويسمع منه، ويهش له.. ويأنس به.. لكان
أهون، ولكن هو الابتلاء.. بشدته، وقوته، وجديته، وأثره، هو الابتلاء.. برهبته،
وحسمه، ومصيره..
هو الابتلاء من أجل
"الحب" من أجل حب الله جل جلاله، والاستسلام التام الكامل له سبحانه،
والتجرد له من كل شيء، ومن كل عالقة، وحتى من بسمة الطفل لأبيه.. ابتلاء القلب
ليكون خالصاً طاهراً لله وحده لا شريك له، فلا يبقى فيه شيء لأحد سوى الله، ولا حب
إلا لله، ولا رغبة إلا في الله.. هو التطهر من كل العوالق، والأشياء، ومن الأحباب،
والأخلاء.. هو تقديم الله - سبحانه - وحبه وطاعته والاستسلام له على كل حب.. هو
الإخلاص الكامل لله، هو امتلاء القلب بحب الله، فهذا هو "القلب السليم"..
السليم من شوائب الأرض، وعوالق الجاهلية، وأهواء النفس.. كان هذا هو الابتلاء، ولم
يكن الأمر مجرد دفع الابن لمعركة وحيداً، أو هجره، أو فراقه، أو أي وسيلة تُنهي
حياته.. بل هو الذبح بيد الأب، الأب الذي حمل ابنه، وتمناه طوال عمره، واشتاق
إليه... هو الذي سيذبح ابنه بيده!!
والابن يستسلم لأمر الله..
ويضجع للذبح، وتمتد يد الأب "الخليل إبراهيم" ليذبح.. وكيف لقلب تمنى
الولد أن يمتد ليذبح ابنه؟ يا له من ابتلاء مُبين.. يا له من موقف.. ويا له من حب
؟!!
وبالفعل يتم الذبح..!!
لقد ذبح الخليل إبراهيم "حب" ولده إسماعيل من
قلبه، فوفى إبراهيم عليه السلام.. فصار عَلماً في الإيمان.. ملة إبراهيم حنيفاً
وما كان من المشركين: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله
وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء : 125]
"هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة
ورضى
وتسليم..
وتنفيذ، وكلاهما - إبراهيم وإسماعيل - لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا
يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها
ليست
الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في
الميدان،
يقتل
و يقتل . ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا
كله
شيء
والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر.. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة
دافعة
ولا
اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام
الواعي
المتعقل
القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون. لا بل هنا
الرضى
الهادىء
المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!" [في ظلال
القرآن/الصافات]
* * *
ورفع إبراهيم قواعد البيت
مع ابنه إسماعيل.. فصار أول بيت وُضع للناس..
وإن الإنسان لينظر بعين
العجب لتلك الملايين الآتية من كل فج عميق، لتطوف حول البيت - الكعبة - وتسعى بين
الصفا والمروة في شعيرة من شعائر الله..
وإذ بنا نعود إلى تلك
اللحظات التي يضع فيها إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل.. وإن الألم ليتسلل إلى
الإنسان وهو يتخيل سعي هاجر - عليها السلام - وهي في ألم الحمل والوضع، تسعى بين
الصفا والمروة تبحث عن الماء..
فإذا بنا نجد هذه المعاني:
- الإخلاص: الذي كان فيه
إبراهيم - عليه السلام - ليصبح بعده أمة قانتاً لله حنيفاً.
- السعي: وصدق اللجوء إلى
الله التي كانت فيه هاجر - عليها السلام - وهي متوكلة على الله حق توكله، وبعد
استفراغها الوسع، يأتي فرج الله.. بماء يتفجر لا ينقطع حتى يومنا هذا !
- صدق: إسماعيل - عليه
السلام - وهو يستسلم بالكلية لأمر الله، حتى ولو كان الأمر هو الذبح.
فأصبحت سنة إبراهيم وآل
إبراهيم.. عبادة للمسلمين إلى يوم القيامة.. لأنها جسدت حقيقة ( الإخلاص، وصدق
اللجوء إلى الله، والصدق في الاستسلام لله رب العالمين ) وهذه المعاني هي طريق
النجاة.. لذا كان الحج ركن من أركان الإسلام، والعمرة عظيمة الأجر والثواب عند الله.
وإن المسلم لينظر بعين
العجب لأولئك الذين ينشغلون بالطعام والشراب والضحك والتصوير والهدايا واللغو..!
عن فهم حقيقة هذه العبادة، ولهذا لا تجد لها أثراً في شعورهم ولا في سلوكهم.
ومن ذرية إبراهيم - عليه
السلام - جاء موكب الرسل والأنبياء الكرام: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وداود،
وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، ومحمد.. عليهم صلوات
الله أجمعين، ولم يكن إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً.. بل حنيفاً مسلماً وما كان من
المشركين.. جاء موكب الرسل الكرام برسالة التوحيد الخالص لله، والبراءة من الشرك.
* * *
لم يكن الابتلاء هو
"الفعل المادي" لذبح جسد الابن.. إنما هو الابتلاء للإخلاص والتجرد
والاستسلام لله سبحانه، ولما وقع هذا الإخلاص، وتجرد الخليل لربه، ونجح في
الابتلاء، فتمت النعمة والرحمة والفضل والحنان من الله.. ففدى الابن بذبح عظيم..
وكان هذا هو العيد.. "عيد الحب" ! { وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ
يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ
نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ } [الصافات/104: 106]
وسمّانا إبراهيم الخليل..
"المسلمين" لله.. المستسلمين لأمره، الخالصين له، السالمين له - سبحانه
- من الشركاء، والأنداد: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ
مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج : 78]
فصار "الحب
الإلهي" لنا عيداً.. وصار الفداء والتضحية بالأُضحية لنا عيداً، لنجدد فيه
معاني وآثار ومشاعر ذلك الحب في قلوبنا، ونتسابق، ونتسارع في أن نكون أحب لله،
وأخلص له سبحانه، وأطوع له جل جلاله، واتقى له.. على سُنة الخليل إبراهيم.. الذي وَفَّى!
فكانت أجمل معاني الوفاء، وأسمى آيات الحب، وأعظم صور التجرد، وأصفى مقاصد الإخلاص،
وأتم صور التسليم لله !!
* * *
ونحن لا ندعو للزهد في هذا اليوم المبارك - فهو يوم أكل وشرب وذكر لله
تعالى - بل المسلم يمتلئ بلحظة الفرح، والاحتفال.. ولكن بقلب المسلم، وبشعور المسلم،
وهو من قبل ذلك يفرح بفضل الله ورحمته: { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس : 58].. فالمسلم لا
يكتئب ولا يُدخل الكأبة على غيره.. فهو في حالة دائمة من "الفرح" بحب الله،
وبالاستسلام لله، وبالأنس بالله..
ولكن فرقٌ كبير في الشعور والتصور، والقيم والموازين، والأخلاق والسلوك..
بين من يحتفل بـ "عيد اللحمة" وبين من يجدد الحب لله - جلال جلاله - في
"عيد الأضحى".. فإلى الأحبة في الله، ومن أجل الله.. كل عام أنتم إلى الله
أقرب، وعلى طاعته أدوم.. ولدعوته أخلص.