قائمة المدونة محتويات المدونة

23‏/06‏/2016

تكفير المتوقف في التكفير

قال "المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية" التابع لتنظيم الدولة الإسلامية - (كتاب رقم 155 بتاريخ 22 / 08 / 1437 هـ) - في معرض بيان قضية "من توقف في تكفير المشركين (المنتسبين للإسلام) وحكم هذا المتوقف.

جاء في رقم (5) من هذا البيان: "إن المتوقف في تكفير المشركين (المنتسبين للإسلام) مرتكب لناقض مُجمع عليه، وكُفرهُ مبنيٌ على قيام الحجة في المسألة بخلاف الذي عَبد غير الله" ا.هـ.


 وأشار البيان إلى ضرورة الامتناع عن القول بـ (تكفير العاذر) لأنها عبارة غير منضبطة ! والصحيح هو: "تكفير المتوقف لارتكابه ناقض مجمع عليه، لأن الحجة قامت" فبقيام الحجة، يصح تكفير المتوقف في تكفير المشركين (المنتسبين للإسلام).

والآن.. نحن أمام فصل جديد - ومرحلة جديدة - ليست هذه المرة في تكفير الحركة الإسلامية، وإنما في تكفير الأمة كلها ! في السابق كان تكفير الإخوان المسلمين، وبقية السلفيين، والمرشح للانتخابات والمُنتخب، وتنظيم القاعدة والنصرة وغيرهم، ثم صار الجدل هل تكفير القيادات فقط؟ أم تكفير القيادات والأتباع؟ والبت في ذلك بكونهم "طوائف ردة" تُقاتل قاتل أهل الردة !!.

اليوم - وبهذا البيان الشرعي - يتبين حالة أشد فحشاً من حالات التكفير بالعموم، ووجه آخر من وجوه "تكفير العاذر بالجهل" بعد عملية تحوير وتلبيس على القارئ، فالحجة قائمة، فعليه إذن أن كل متوقف في تكفير المشركين (المنتسبين للإسلام) هو مرتد يجب استتابته (كما حصل مع بعض جنود تنظيم الدولة، وعزل البعض عن مناصب شرعية)!.

وقال - المكتب المركزي - في بيان رقم (175) بتاريخ 25 / 08 / 1437 هـ، في حكم المتوقف في تكفير (جبهة النصرة) والفصائل المقاتلة معها في سوريا: "وإن الدولة الإسلامية أظهرت بما لا يدعُ مجالاً لكل مشككٍ حكم الشرع في تلك الفصائل، وأنها طوائف مرتدّةٌ أعلنت الكفرّ وتبيّن حالها بما يقيم الحجّة ويقطع الشكّ عند كل جاهل به، ومن ذلك تعميم اللجنة المفوّضة الصادر برقم (ن7-21) في 8 / ربيع الأول / 1437، لذا فلن يُقبل أن يظهر بين جنودنا من يتوقف في تكفير أعيان هؤلاء الذين نقاتلهم ويقاتلوننا على شريعة الله، فمن ظهر منه - من جنود الدولة - عدم تكفير هذه الفصائل فيُرفع أمره إلى أمير مِفُصله ليُستدعى ويُتثبّت مما نُسب له، ويُبيّن له حال هذه الفصائل إن كان يجهلها، فإن توقف بعد البيان فيُحال إلى القضاء لاستتابته" ا.هـ.

ومنشأ هذه البدع هو قول الشيخ ابن عبد الوهاب - رحمه الله - في الناقض الثالث: "من لم يكفر المشركين أو صحح مذهبهم فهو كافر" وهذا القول المبتدع في دين الله، والذي لم ينزل الله به من سلطان، حاول المتأخرون من علماء الوهابية الاعتذار عنه، بالقصد بـ "المشركين" هم اليهود والنصارى، وأن هذا القول مداره على رد صريح القرآن، وهذا اعتذار باطل، فالشيخ ابن عبدالوهاب كان يقصد بالمشركين: أهل نجد، والقرى التي حاولها، وقد كفرهم واستحل دمائهم وأموالهم ظناً منه أنهم مشركين ! وفي لحظة اللقاء الأولى مع ابن سعود رئيس الدرعية، في أول لقاء بينهم قال له الشيخ: "عسى الله أن يعوضك بالغنائم" بدلاً عن الجباية التي كان يأخذها ابن سعود، فمنذ اللحظة الأولى والشيخ يشهد على أهل نجد وما حولها بالشرك، ويعتبرهم مشركين تحل غنيمة أموالهم، واستحلال دمائهم.

وقد استشهد البيان بكلام أئمة الدعوة النجدية - واعتبرهم أئمة الدين - وهم من أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب، وهؤلاء كانوا العضد الرئيس والقوة الفعلية لعبد العزيز آل سعود - صديق ومُتولي الإنجليز - وهؤلاء أصدروا فتاوى تكفيرية ضد "إخوان من طاع الله" - فيها من الغلو والفحش ما ليس له مثيل - والإخوان هم الجنود الذين ضموا أراضي الجزيرة لملك ابن سعود، وكانوا غاية في البأس والشجاعة والسذاجة، وتم قتالهم - بعد انتهاء مهمتهم - تحت نيران الطيران البريطاني.

"وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان، والدويش، ومن تبعهم، [ هؤلاء جماعة إخوان من طاع الله ] حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب وأصحابه، رضي الله عنهم، حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟

فأجابوا: هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم...

وأما قول السائل: إنهم يرون أن جميع المسلمين، وولي أمرهم، وعلماءهم، ليسوا على حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم، وخروجهم من الإسلام، بعدما انتسبوا إليه، وادعوا أنهم من أنصاره، والمهاجرين إليه...

وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته، إلا مغصوبين، فهذا أيضا من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم...

وأما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، يدعى أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم، لأنه صوب رأيهم، واعتقد ما اعتقدوه، لا سيما بعد علمه بما صدر منهم.

وأما الدهينة، والخضري، وولد فيصل بن حميد، وأتباعهم، الذين قدموا من عند ولد الشريف، يدعون إلى ولايته، فهؤلاء لا شك في ردتهم والحال ما ذكر، لأنهم دعاة إلى الدخول تحت ولاية المشركين، فيجب على جميع المسلمين جهادهم وقتالهم، وكذلك من آواهم ونصرهم، فحكمه حكمهم". ا.هـ [ الدرر السنية في الأجوبة النجدية، علماء نجد الأعلام، ج9، ص 209 ]

ثم بدأ عهد جديد للوهابية، وتهذيب الكثير من فتاواها التكفيرية، وبعدها انقسمت هذه المدرسة إلى قسمين: (1) "المدرسة القديمة"، وهي المدرسة التكفيرية التي لا تتجاوز أقوال الشيخ، وأبناءه في مسائل التكفير. وهذه هي التي تنهل منها الدولة - وأهل البدع من التكفيريين - لترمي الأمة بالشرك والردة. (2) و"المدرسة البرجماتية الحديثة" التي هي عضد لدولة آل سعود الثالثة، وتحاول تجميل خطابها ليبدو أكثر تسامحاً واعتدالاً ووسطية، وتحاول إيجاد تأويلات - ولو سمجة مضللة - للأقوال المنحرفة الباطلة في دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب.

ولهذا تقع الدولة المعاصرة - ودعوتها المُصدرة للخارج - في نوع من التناقض والحيرة وعدم الاتساق؛ فهي لا تستطيع الهجوم أو تسفيه أقوال الشيخ ابن عبدالوهاب وأئمة الدعوة النجدية، لأنهم يمثلون "شرعية" الدولة، ومن جانب آخر لا يمكن تصدير هذا الخطاب المتطرف للخارج؛ فتحاول أن تقف في منطقة رمادية.

***

يجدر الإشارة إلى أن دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب كانت تهدف إلى الإصلاح، وبقاء المظاهر الإسلامية من تعظيم شعيرة الصلاة، واحتشام النساء وغيرها.. وهو خير عظيم لا يمكن تجاهله أو إنكاره، ولكن ما يؤخذ عليهم هو استحلالهم دماء المسلمين ورميهم بالشرك، وقتالهم وهم ذاهبون إلى صلاة الفجر كما جاء في "عنوان المجد في تاريخ نجد" وغيره من الكتب المؤرخة لهذه الفترة.

فقال ابن بشر الحنبلي تلميذ الشيخ ابن عبد الوهاب: "فوصلوا - أي عبد العزيز وجنده - بلد خرمة بالليل وهم هاجون، ففرق عبد الله ابن محمد بن سعود رجالاً في بروج البلد، والبروج التي على السور، وعلى الدور وعلى بيبان القلعة، والجموع في متارسها، فلما انبلج الصباح، ونادى أذان الفجر (حي على الصلاة)، أمر كل صاحب بندق يثور ما في بطنها، فثوروا البنادق دفعة واحدة، فارتجت البلد بأهلها وأسقط شيء من الحوامل، ففزعوا، فإذا البلاد قد ضبطت عليهم، وليس لهم قدرة ولا مخرج" [عنوان المجد في تأريخ نجد، ج1، ص 131 ] وغيرها الكثير مما لا يتسع المقال لنقله.

كما نحب أن نذكر أن هناك أقوالاً للشيخ ابن عبد الوهاب - رحمه الله - تفيد بأنه يعذر بالجهل، حتى الذين يعكفون على "قبة البدوي" فقال الشيخ: "وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.

وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16].

بل نكفر تلك الأنواع الأربعة، لأجل محادتهم لله ورسوله".

وهذه الأنواع:

"النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس، وأقر أيضا أن هذه الاعتقادات في الحجر، والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله، ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهو كافر، نقاتله بكفره؛ لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.

النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكنه تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، ومن عبد أبا علي، والخضر، من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] ، وهو ممن قال الله فيه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [سورة التوبة آية: 12]

النوع الثالث: "من عرف التوحيد، وأحبه، واتبعه، وعرف الشرك، وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا: كافر". فيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] 

 النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، ويتعذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله، ونفسه، فهذا أيضا كافر" ا.هـ [ الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ج1، ص103، 104 ]

والتناقض واضح بين العذر بالجهل، وبين الأنواع التي يُكفرها الشيخ ويقاتلها. فجعل مناط الكفر - في النوع الثالث - أن يكره المرء من دخل في التوحيد (يقصد الشيخ جماعته وحزبه)، ويحب من بقي على الشرك (يقصد المسلمين). وفي النوع الرابع جعل مناط الكفر القتال مع أهل بلدة ضد الشيخ وجماعته. واعتبرهم بذلك محاديين لله ورسوله !!.

وهذا القول ومثله - في العذر بالجهل - أحدث إشكالات عند أتباع الوهابية بين متمسك بمخرج للفتاوى التكفيرية، وبين مُكذب أو مُأول لهذا الكلام، ولا ندري هل هذا تناقض وقع فيه الشيخ ؟ أو تقية ؟ أو قوله الأخير.. ونحب أن نحسن الظن بالمسلمين، ونقول إن  هذا القول ربما هو ما انتهى إليه في آخر الأمر.

على أن أئمة الدعوة النجدية - وأبناء الشيخ من بعده - استخدموا فتاوى تكفير الدولة العثمانية وأهل مصر، وأهل مكة، وسدير، وغيرهم، وكان هذا أحد أنواع "التكفير السياسي" أو "الفتاوى السلطانية" التي يريدها السلطان لتبرير حربه وقتاله المسلمين، وشرعنة فعله وإضفاء هالة الحرب المقدسة عليه !

لقد كان - سيما في الدولة السعودية الثالثة - صراعاً قبلياً سياسياً على الملك والرياسة والسلطان برعاية بريطانية لصالح ابن سعود، استُخدمت فيه الفتاوى التكفيرية السياسية، لضرب الخصوم من القبائل الأخرى! بل لضرب "إخوان من طاع الله" - بعد تكفيرهم - وهم جند ابن سعود الفاعل في معاركه مع القبائل والقرى والأقاليم الأخرى ! بل وتكفير من لم يجاهدهم كما جاء في الفتوى السابقة، وإذا كان من تخلّف عن الغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُحكم عليه بالردة، فإن أئمة الدعوة النجدية، حكموا بردة من لم يجاهد مع ابن سعود - مُتولي الإنجليز - لقتال الإخوان!!

وإن هذا الاضطراب والخلل المنهجي والفقهي والبدعي في التكفير، واستحلال دماء المسلمين.. لا شك أن تناوله على هذه الصورة دون نقد لغلوه وخطره، وتصديره للشباب على أنه "التوحيد النقي" والحق المطلق؛ فإنه سيُطلق "وحش التكفير" لينهش في الأمة، وهي في أشد حالات مرضها، وسيُفسد أي محاولات لنهوضها من جديد، أو صد عدوان المعتدين عليها !.

***

وأما مسألة "قيام الحجة" فهي مسألة نسبية، فليس معنى أن تقول دليلاً - تحسبه حقاً - يعني هذا أن الحجة قامت، بل قد يكون الطرف الآخر لديه من الحجج والأدلة ما هو أثبت وأدق، ولكن فرض الحجة بحد السيف، واعتبار ردها رد للدين ذاته، ونعت المعترض بالردة، وطلب استتابته فإن ذلك من الابتداع والغلو في الدين، وقد ألمح العلاّمة ابن تيمية لذلك، وهو متشدد في معنى قيام الحجة، ويردها تارة: بعدم التثبت، وتارة بعدم الفهم، وتارة بالتأويل، وتارة بوجود معارض لها، فقال: "وَهَكَذَا الْأَقْوَالُ الَّتِي يَكْفُرُ قَائِلُهَا قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَمْ تَبْلُغْهُ النُّصُوصُ الْمُوجِبَةُ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فَهْمِهَا وَقَدْ يَكُونُ قَدْ عَرَضَتْ لَهُ شُبُهَاتٌ يَعْذُرُهُ اللَّهُ بِهَا". [الفتاوى ج23، ص346 ]

وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: " {إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ} ". فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ. وَالْمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْلَى بِالْمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا". [الفتاوى ج3، ص230]

ونلحظ كذلك أنه يتحدث عن "الأقوال التي يكفر قائلها" - كأن يكون وقع في فعل مُكفر - وليس من توقف في تكفير المسلمين (المشركين بزعمهم) !.

***

إن "تكفير المتوقف في التكفير بعد قيام الحجة" هو بدعة جديدة وسيف مسلط على الأمة يستحل دماءها وأموالها؛ فنحن لا نتحدث عن قضية فلسفية جدلية، بل قضية يترتب عليها تكفير المسلمين، ولا يتوقف الأمر عند رميهم بالشرك فحسب، بل واستحلال دماءهم وأموالهم.

ولعل البيان تعمد قوله المشركين (المنتسبين للإسلام) حتى يمنع تأويل كلمة المشركين بأنهم غير المسلمين، ليؤكد وصف الشرك عليهم، وقد تخوف النبي- صلى الله عليه وسلم - على أمته أن يرميها أحد بالشرك، ويسعى في رقابها بالسيف فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلإِسْلامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ الِلَّهِ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: "بَلِ الرَّامِي" [صحيح ابن حبان/ 81، التاريخ الكبير للبخاري/ 5801]

***

إنَّ رمي الأمة الإسلامية بالشرك، من "البغي" على دين الله، وعلى آياته، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا البغي عاقبته "الاختلاف" وهذا الاختلاف عاقبته "البأس الشديد فيما بيننا" وهذا البأس يؤدي إلى "الهرج" وهزيمة الأمة.

إنَّ تكفير الأمة الإسلامية قضية خاسرة، ولو بلغت تضحيات من يزعم نصرتها عنان السماء، وقضية الغلو في التكفير هو أفتك سلاح لإفساد الجهاد والسياسة والدعوة. فاتقوا الله في هذه الأمة.

***

تعقيب بتاريخ: مايو 2017م.

في شعبان 1437 هـ أعلن "تنظيم الدولة" تكفير من يتوقف في التكفير، فكل من حكم بكفره تنظيم الدولة، ولم يكفره غيرهم فهو كافر، وقد وصل بهم جنون التكفير إلى الحكم بردة "الطالبان، وتنظيم القاعدة" ! وقد كان المسلم يتمنى لهم أن يتوبوا من هذه البدع التي تفسد على المسلمين جهادهم واجتماعهم، إلا أنهم في غيهم يعمهون، ففي عدد شعبان 1438 - هذا العام - من مجلة النبأ الرسمية وتحت عنوان: "ليهلك من هلك عن بينة" أكدوا بدعتهم السابقة، وأضافوا عليها بدعة جديدة:

قالوا: "الدولة الإسلامية لا تتوقف في تكفير المشركين، وتجعل تكفير المشركين من أصول الدين الظاهرة التي معرفتها تجب قبل معرفة الصلاة وسائر الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة." "الدولة الإسلامية تُكفّر الطواغيت، ومن جادل عنهم، ولم يُكفّرهم، ولا كرامة"

"وينتمي لهذا الصنف من الضالين أيضاً "من كان يبيح شرك التحاكم إلى الطاغوت بدعوة الضرورة التي يُنزلها منزلة الإكراه"، و"من كان يرد إجماع الصحابة في تكفير الطوائف الممتنعة"، و"من يتوقف في تكفير المنتخبين بدعوى جهلهم لحقيقة الانتخابات" و"من لا يتبرأ من علماء الطاغوت الداعين إلى الشرك".

وبذلك كفّر التنظيم العلماء في القديم والحديث، وكفّر جمهور المسلمين.. فالإمام الشافعي يجعل مانعي الزكاة قتالهم كقتال البغاة (أي مسلمين) كما قال في كتابه "الأم"، وابن قدامة الحنبلي يجعل مانعي الزكاة بغاة أيضاً، فقال: "وأجمعت الصحابة - رضي الله عنهم -، على قتال البغاة، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - قاتل مانعي الزكاة، وعليّ - رضي الله عنه - قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان." ا.هـ فإجماع الصحابة على (قتال) الطوائف الممتنعة لا على (تكفيرهم) كما زعم التنظيم، وقد منع مالك بن نويرة الزكاة، وقُتل، ودفع ديته أبو بكر رضي الله عنه، وشهد بإسلامه أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وقتادة. [راجع بحث "الفئة الباغية"] وإجماع المذاهب الفقهية على أن مانعي الزكاة مسلمون بغاة، باستثناء بعض رجال المذهب الحنفي.

والأمة الإسلامية في كافة البلدان تنزل في الانتخابات، فحكم بكفرهم أيضاً، وعلماء الطاغوت يجعلهم كثير من طوائف الأمة مرجعية لهم.. فحكموا أيضاً بكفر من لا يتبرأ منهم !!. فهو لم يحكم بكفر هؤلاء فحسب.. بل حكم بكفر من يتوقف في تكفيرهم !!

وأما بدعة هذا العام (2017م) فهي تكفير: "من يجعل تكفير المشركين مسألة خفية أو خلافية، ويضع للعمل بها قيوداً ثقيلة، بحيث يؤدي إلى تعطيل الناقض الثالث [من نواقض الإسلام] جملة وتفصيلاً !!"ا.هـ

فهذه المرة فقط من يتكلم بالخلاف أو يضع قيوداً أصبح كافراً، وجعلوا الناقض الثالث الذي قال به الشيخ ابن عبد الوهاب - غفر الله له - كأنه وحي السماء، والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه ! وبذلك يَكفر - على زعمهم - الإمام الغزالي الذي قال: "والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً. فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم" ويَكفر ابن تيمية الذي قال: "وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنْ الْوَعِيدِ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا" [ راجع مقال: الغلو في التكفير ]

هذا التكفير بالمآل واللوازم والظنون والأوهام وبالهوس والجنون.. أفسد الجهاد، وتضحياته، وأفسد الدعوة، وأفسد كل شيء، استناداً على اجتهاد خاطئ لبعض العلماء، وجعل البعض هذه الأخطاء منهجاً له وسبيلاً، فضلوا وأضلوا.

إنَّ التكفير هو الصخرة التي يتحطم عليها تضحيات الأجيال، ويفجر الجهاد من الداخل، ويفسد على المرء نيته، ودينه.

***