قائمة المدونة محتويات المدونة

10‏/05‏/2017

مفهوم الجهاد في فكر حسن البنا

كيف كان مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ينظر إلى مفهوم الجهاد والقوة؟ وهل كان يرى أن القوة ضرورة للتغيير؟ هل كان المؤسس يؤمن بفكر "غاندي، وجين شارب"؟ هل كان يخطط لإنشاء "الجيش المسلم" الذي يحمي مشروعه، أم كان ذلك خارجاً عن نطاق تفكيره؟

يقول رحمه الله:
"إن القوة أضمن طريق لإحقاق الحق، وما أجمل أن تسير القوة و الحق جنباً إلى جنب، فهذا الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية فضلاً عن الاحتفاظ بمقدسات الإسلام فريضة الله على المسلمين كما فرض عليهم الصوم والصلاة والحج والزكاة وفعل الخير و ترك الشر، وألزمهم إياها وندبهم إليها، ولم يعذر في ذلك أحد فيه قوة واستطاعة، وإنها لآية زاجرة رادعة وموعظة بالغة زاجرة : { انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ } [التوبة:41]
وقد كشف الله سر هذا التكليف وحكمة هذه الفريضة التي افترضها على المسلمين بعد هذا الأمر، فبين لهم أنه اجتباهم واختارهم واصطفاهم دون الناس ليكونوا سواس خلقه وأمناءه على شريعته وخلفاءه في أرضه، وورثة رسوله في دعوته، ومهد لهم الدين وأحكم التشريع وسهل الأحكام وجعلها من الصلاحية لكل زمان ومكان بحيث يتقبلها العالم، وترى فيها الإنسانية أمنيتها المرجوة وأملها المنتظر: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ و َتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [الحج:78]
وتلك هي المهمة الاجتماعية التي ندب الله إليها المسلمين جميعاً، وأن يكونوا صفاً واحداً وكتلة وقوة، وأن يكونوا هم جيش الخلاص الذي ينقذ الإنسانية ويهديها سواء السبيل ."
***
" وفي الوقت الذي يكون فيه منكم - معشر الإخوان المسلمين - ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسياً روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً  بالتدريب والرياضة ، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لحج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء .وأغزو بكم كل عنيد جبار ، فإني فاعل إن شاء الله، وصدق رسول الله القائل: "ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة" إني أقدر لذلك وقتاً ليس طويلاً بعد توفيق الله واستمداد معونته وتقديم إذنه ومشيئته، وقد تستطيعون أنتم معشر نواب الإخوان ومندوبهم أن تقصروا هذا الآجل إذا  بذلتم همتكم وضاعفتم جهودكم، وقد تهملون فيخطئ هذا الحساب، وتختلف النتائج المترتبة عليه، فأشعروا أنفسكم العبء وألقوا الكتائب وكونوا الفرق، وأقبلوا على الدروس، وسارعوا إلي التدريب وانشروا دعوتكم في الجهاد التي لم تصل إليها بعد ، ولا تضيعوا دقيقة بغير عمل .
وقد يظن من يسمع هذا أن الإخوان المسلمين قليل عددهم أو ضعيف مجهودهم، ولست إلى هذا أقصد وليس هذا هو مفهوم كلامي، فالإخوان المسلمون والحمد  لله كثيرون، وإن جماعة يمثلها في هذا الاجتماع آلاف من أعضائها كل منهم ينوب عن شعبة كاملة لأكثر من أن يستقل عددها أو ينسي مجهودها أو يغمط حقها، ولكن أقصد إلى ما ذكرت أولاً من أن رجل القول غير رجل العمل، ورجل العمل غير رجل الجهاد، ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات".
***
"وإن الأمم الناهضة تحتاج إلى القوة وطبع أبنائها بطابع الجندية، ولا سيما في هذه العصور التي لا يضمن فيها المسلم إلا بالاستعداد للحرب، والتي صار شعار أبنائها جميعا : (القوة أضمن طريق لإحقاق الحق).
والإسلام لم يغفل هذه الناحية، بل جعلها فريضة محكمة من فرائضه، ولم يفرق بينها وبين الصلاة والصوم في شيء، وليس في الدنيا كلها نظام عني بهذه الناحية، لا في القديم ولا في الحديث، كما عني بذلك الإسلام في القرآن وفي حديث رسول الله وإنك لترى ذلك ماثلاً واضحاً في قوله تعالى:  { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ } [لأنفال:60]، وفي قوله تعالى:  { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } [البقرة:216].
وهل رأيت منشوراً عسكرياً في كتاب مقدس يتلى في الصلاة والذكر والعبادة والمناجاة كهذا المنشور الذي يبتدئ بالأمر المنجز في قوله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } ثم بين الجزاء بعد ذلك : { وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [النساء:74]
ثم يتلو ذلك باستثارة أنبل العواطف في النفوس وهي استنقاذ الأهل والوطن فيقول : { وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً } [النساء:75]
ثم يوضح لهم شرف غايتهم ودناءة غاية عدوهم، ليبيّن لهم أنهم يجودون بثمن غال هو الحياة على سلعة غالية وتربوا عليه وهي رضوان الله،على حين يقاتل غيرهم لغير غاية، فهم أضعف نفوساً وأخزى أفئدة، فذلك قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [النساء:76]
ثم يندد بالذين جنبوا عن أداء هذا الواجب، وأخذوا التكاليف السهلة وتركوا تكاليف البطولة، ويبين لهم خطأ موقفهم هذا، وأن الإقدام لن يضرهم شيئاً بل سيكسبون به الجزاء الكبير، والإحجام لا يغنيهم شيئاً فالموت من ورائهم لا محالة فيقول بعد الآيات السابقة مباشرة : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:77-78]
بربك أي منشور عسكري في هذه القوة وفي هذا الوضوح يبعث في نفس الجندي كل ما يريد القائد من همة وعزة وإيمان؟
وإذا كان قوام الحياة العسكرية في عرفهم أمرين، هما النظام والطاعة، فقد جمعهما الله في آيتين من كتابه فقال تبارك وتعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [الصف:4]، كما قال تعالى : { فَأَوْلَى لَهُمْ، طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20-21]
وإنك إذا قرأت ما جاء به الإسلام في إعداد العدة واستكمال القوة وتعليم الرمي ورباط الخيل، وفضل الشهادة وأجر الجهاد وثواب النفقة فيه ورعاية أهله واستيعاب صنوفه، لرأيت من ذلك ما لا يحصيه الحصر، سواء في الآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة أو السير المطهرة أو الفقه الحنيف :  { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [طـه:98]
ولقد عنيت بذلك الأمم الحديثة فبنت نفسها على هذه القواعد، ورأينا أساس فاشية موسوليني ونازية هتلر وشيوعية ستالين أساساً عسكرياً بحتا، ولكن الفرق بين ذلك كله وبين عسكرية الإسلام فرق عظيم، فإن الإسلام الذي قدس القوة هذا التقديس، وهو الذي آثر عليها السلم فقال تبارك وتعالى بعد آية القوة مباشرة:  { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ[لأنفال:61]
وهو الذي حدد ثمن النصر ومظاهره فقال تعالى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } [الحج:41]
وهو الذي وضع أساس القانون الدولي الحربي فقال تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } [الأنفال:58]
ولأمر ما كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لقواد جنودهم أروع مظاهر الرحمة والرفق : (لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً كبيراً، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تجهزوا على جريح، وستمرون بأقوام ترهبوا في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له). كذلك كانت العسكرية في الإسلام بوليس العدالة وشرطة القانون والنظام، أما عسكرية أوربا الآن فقد علم الناس جميعاً عنها أنها جيش الظلم وجند المطامع، فأي الفرقين خير مقاما وأحسن نديا؟"
***
"إن الأمة التي تحسن صناعة الموت ، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا ألا حب الدنيا وكراهية الموت ، فاعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة .
واعلموا أن الموت لابد منه وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها فى سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيداً قول الله تبارك وتعالى : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154 ]
فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة، رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد فى سبيله ."
***
"وقد ورد في الصحيح ما معناه أن معاذاً - رضي الله عنه - كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : (إن شئت يا معاذ حدثتك برأس هذا الأمر وذروة السنام منه .
إن رأس هذا الأمر لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وإن قوام هذا الأمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله .
إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا أغبرت قدم في عمل تبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله، ولا أثقل ميزان عبد كدابّه تنفق (أي تموت) في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله.
وأتحدث الآن عن الإخوان المسلمين المجاهدين ، وماذا يريدون من أنفسهم ومن الناس حيال الجهاد في سبيل الله وهو من الإسلام ذروة السنام .
من الجهاد في الإسلام أيها الحبيب: عاطفة حية قوية تفيض حناناً إلى عز الإسلام ومجده ، وتهفو شوقاً إلى سلطانه وقوته، وتبكي حزناً على ما وصل إليه  المسلمون من ضعف وما وقعوا فيه من مهانة ، وتشتعل ألماً على هذا الحال الذي لا يرضي الله ولا يرضي محمداً عليه الصلاة والسلام ولا يرضي نفساً مسلمة وقلباً مؤمناً.و(من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) كما ورد في الحديث الصحيح .
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن يحملك هذا الهم الدائم والجوى اللاحق على التفكير الجدي في طريق النجاح وتلمس سبيل الخلاص وقضاء وقت طويل في فكرة عميقة تمحص بها سبل العمل وتتلمس فيها أوجه الحيل لعلك تجد لأمتك منفذاً أو تصادف منقذاً ، ونية المرء خير من عمله والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن تنزل عن بعض وقتك وبعض مالك وبعض مطالب نفسك لخير الإسلام وبني المسلمين ..فإن كنت قائداً ففي  مطالب القيادة تنفق ، وإن كنت تابعاً ففي مساعدة الداعين تفعل ، وفي كل خير، وكلا وعد الله الحسني، والله تبارك وتعالى يقول { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة:120-121]
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن تأمر بالمعروف وأن تنهي عن المنكر ، وأن تنصح لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وأن تدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنه وما ترك قوم التناصح إلا ذلوا وما أهملوا التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر إلا خذلوا، { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة:78-79]
و من الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب :أن تتنكر لمن تنكر لدينه وأن تقاطع من عادى الله ورسوله فلا يكون بينك وبينه صله ولا معامله ولا مؤاكله ولا مشاربه وفي الحديث : (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلو ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض).
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن تكون جندياً لله تقف له نفسك ومالك لا تبقي على ذلك من شئ . فإذا هدد مجد الإسلام وديست كرامة الإسلام، ودوي نفير النهضة لاستعادة مجد الإسلام كنت أول مجيب للنداء وأول متقدم للجهاد، { إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة:111] ، وفي الحديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق) رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وبذلك يتحقق ما يريد الله من نشر الإسلام حتى يعم الأرض جميعاً .
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تعمل على إقامة ميزان العدل وإصلاح شئون الخلق وإنصاف المظلوم والضرب علي يد الظالم مهما كان مركزه وسلطانه .
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر) رواه أبو داود والبخاري بمعناه ، وعن جابر رضي الله عنه : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه ابن ماجه باسناد صحيح .
ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى إن لم توفق إلى شيئ من ذلك كله : أن تحب المجاهدين من كل قلبك وتنصح لهم بمحض رأيك وقد كتب الله لك بذلك الأجر وأخلاك من التبعة .
ولا تكن غير ذلك فيطبع على قلبك ويؤاخذك أشد المؤاخذة : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [التوبة:91-93].
***
ويتساءل كثير من الناس: هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟... ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة ، بل إني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن  الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء ، فليسمع من يشاء .
أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه و تشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ } [لأنفال:60]. والنبي يقول: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)، بل إن القوة شعار الإسلام حتى  في الدعاء و هو مظهر الخشوع و المسكنة ،  واسمع ما كان يدعو به النبي في خاصة نفسه ويعلمه أصحابه ويناجي به ربه: (اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال)، ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف : ضعف الإرادة بالهم و الحزن، وضعف الإنتاج بالعجز والكسل، وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل، وضعف العزة والكرامة بالدين و القهر ؟ .. فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قوياً في كل شيء، شعاره القوة في كل شيء ؟..
فالإخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء، ولابد أن يعملوا في قوة .
والإخوان المسلمين أعمق فكراً وأبعد نظراً من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا في أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد  بها، فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعاً، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك ...
هذه نظرة، و نظرة أخرى: هل أوصى الإسلام - و القوة شعاره - باستخدام القوة في كل الظروف و الأحوال ؟ أم حدد لذلك حدوداً و اشترط شروطاً ووجه القوة توجيها محدوداً ؟  ونظرة ثالثة : هل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟ هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة قبل أن يقدموا عليه.
وبعد كل هذه النظرات والتقديرات أقول لهؤلاء المتسائلين: إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد  استكملوا عدة الإيمان والوحدة ، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون في كرامة وعزة ، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضى وارتياح. "  
[المصدر: رسائل البنا، للشيخ المجاهد حسن البنا رحمه الله]

*   *   *