ما هو الفخ الذي تقع فيه المعارضة الإسلامية ضد الأنظمة الحاكمة؟ وهل أسلوب المعارضة هذا يهدد فعلاً هذه الأنظمة؟ ما هو أسلوب المعارضة الحقيقي؟ وهل النقد والسخرية فقط يمكن أن يهز عروش الطغاة؟ ومن أين نبدأ.. بنقد الذات أم بانتقاد نظم الحكم؟
في أنظمة الحكم الديمقراطية ـ في الأنظمة الغربية المستقرة ـ عندما تخسر الأحزاب في الوصول إلى السلطة، فإنها تتحول إلى جانب المعارضة، وقد تكون معارضة لمجرد المعارضة ومناكفة الخصوم السياسيين، سواء في السلطة أو خارجها، وقد تكون معارضة وطنية مخلصة تحاول موازنة الأمور، وتدافع الأفكار حتى لا يطغى أو يُهيمن الحزب الحاكم على كل شيء، ولا يخلو الأمر من "البراجماتية والميكافيلية والمادية" التي يقوم على أساسها الفكر السياسي الغربي.
وفي جواب السؤال: عن كيفية النهوض بالأمة؟!
اختارت بعض الحركات الإسلامية "العمل السياسي والبرلماني"، ولما كان محرّماً عليها الوصول إلى السلطة، أو الإمساك بوسائل القدرة على التغيير الحقيقي، وإفشالها والانقلاب عليها في حال نجحت في الانتخابات.. كانت تظل دائماً في خانة المعارضة، هذا إذا سمحوا لها بهذه المساحة أيضاً، فقد أصبح غاية وجودهم ـ في كثير من الأحيان ـ هو "توظيفهم" فقط لإعطاء الشرعية للأنظمة العسكرية أو المستبدة، كأنهم أحد المدعوين فقط لـ "العرس الديمقراطي" دون أن يكون لهم أمر، أو حتى رأي.
وخطيئة الحركات الإسلامية التي تبنت العمل السياسي:
- التطرف والغلو في اعتبار العمل السياسي ـ بشكله الحالي ـ هو وحده القادر على النهوض بالأمة.
- حصر العمل السياسي في الانتخابات البرلمانية، أو إنشاء الأحزاب.
- الافتتان بالنموذج الغربي للديمقراطية، والمقارنة غير الواقعية وغير العدالة بين أنظمة الحكم في الغرب، وبين أنظمة الحكم في الدول الإسلامية، وتجاهل ظروف نشأة الدول القومية الأوروبية، وسنوات الثورات والصراعات التي قام على أساسها النموذج الغربي الديمقراطي.
ومن ثَم كان العمل السياسي الإسلامي محصوراً داخل الدائرة الأمنية للأنظمة الحاكمة، وتحت السيطرة، وغير قادر على إحداث تغيير حقيقي على مستوى النظام، وإن كان سجل بعض النجاح على المستوى الاجتماعي والفكري.
أدى التحول إلى خانة المعارضة إلى استهلاك الطاقات الإسلامية في مجرد المعارضة، سواء بقيت ضمن الخطوط الحمراء أو تجاوزتها، ولكنها تبقى في خانة الكلام! ولا تستطيع أن تنتقل إلى خانة الفعل، وإذا انتقلت إلى خانة الفعل، لا تستطيع أن تصل إلى خانة المقاومة والتدافع، وإذا وصلت لخانة المقاومة، لا تستطيع أن تكون المقاومة محققة لأهدافها، وتسير في الاتجاه الصحيح.. لأن الواقع فرض نفسه، وأُخذ العمل السياسي الإسلامي نحو مجرد "المعارضة" حتى دون القدرة على إحداث الوعي الجماهيري اللازم لتشبع المجتمع بالفكرة الصحيحة، لأن أدوات الوعي هي الأخرى تحت السيطرة.
ولنأخذ المعارضة الإسلامية المصرية مثالاً لتوضيح الفكرة أو بيان فخ المعارضة:
بعد وقوع الانقلاب، وفي أثناء فعاليات المظاهرات المناهضة له، تبين أن كافة الجهد والنشاط والحركة متجهة لغاية واحدة وهي: "إثبات أن الانقلاب انقلاباً" وانتظار النصرة من الآخرين في الغرب أو الشرق ! حتى كان ما كان !.
ثم بعد حالة التصفية الجسدية والأمنية لكوادر الحركة الإسلامية، وهرب من استطاع الهرب، تحول "العمل السياسي" ـ أو كافة الأعمال ـ إلى مجرد "المعارضة" على طريقة صحف المعارضة التي قد تسمح بها الأنظمة المستبدة للتنفيس عن الشعوب، أو إقناعها بأنها تستطيع أن تتكلم، أو أن كلامها هذا سيكون له أثر في المستقبل بطريقة سحرية غامضة الأسباب.
ثم كانت هذه المعارضة في أحيان كثيرة قائمة على "صناعة السخرية"، الأمر الذي يؤدي إلى الوقوع في "الفخ" وهو: نسيان "القضية الأصلية" ونسيان "المشروع الحضاري" ونسيان "سؤال النهضة" ونسيان "سؤال البناء" فيُترك ذلك العمل الحقيقي الفعّال للتحول نحو "السلطة المستبدة" للسخرية منها حياناً، أو لإثبات أنها مستبدة ظالمة حيناً آخر، والجري وراء "كل" تصريح لهذه الأنظمة لبيان تهافته، وسخفه.. مما جعل للتفاهة قيمة، وللسخف عنوان ! وعندها تكون الطاقة البشرية والمادية والفكرية كلها استُهلكت في "السخرية" و"النقد"، ولا تريد الأنظمة المستبدة والباغية من خصومها أكثر من ذلك، طالما وقف "العمل السياسي الإسلامي" عند مرحلة السخرية والنقد، وإني اعتقد أن الأنظمة المستبدة ستشعر بالقلق البالغ إن وجدت خصومها توقفوا عن السخرية والنقد، فإن معنى ذلك أن هناك عملاً آخر يتم دون أن يعلموا به، وربما يكون أنكى لهم ألف مرة من مجرد السخرية !.
***
فلسفة المعارضة
قد تقوم فلسفة المعارضة الإسلامية على:
ـ تمجيد النموذج الديمقراطي الغربي، وجعله هو "المرجعية" والحَكم الفصل بيننا!
ـ أو إعطاء الشرعية لأجزاء من النظام الحاكم، والتعويل عليها في عملية التغيير!
ـ تَسول العدالة والحق من النظام الحاكم، ومخاطبته مخاطبة أهل الحق، ومحاولة إلزامه ومطالبته بالحقوق والحريات!
وهذه الفلسفة في منتهى الخطورة، بل وتقضي على العمل السياسي الإسلامي إن تم محاصرته في مثل هذه الأمور.. والفلسفة الصحيحة للمعارضة تبدأ مع الاتفاق على "التعريف الصحيح" للنظام المطلوب تغييره، وبدون هذا التعريف تضيع الجهود سُدى، ونتخبط في طرق شتى، ونتمزق بين الأراء.
ولو كان هناك نظام ديمقراطي حقيقي، لكن من الطبيعي والمنطقي أن نُلزم النظام الحاكم بمبادئ هذه الديمقراطية، ولو كان للنظام الحاكم شرعية كاملة، كان من الممكن أن نُلزم أطرافه الأخرى بهذه الشرعية من أجل عملية التغيير، ولو كان للنظام الحاكم قضاء عادل، واستمساك ببعض المبادئ لكان من العقل اللجوء إليها، ومخاطبته بها..
ولكن إذا كان النظام الحاكم مجرد أداة من أدوات الاحتلال الغربي لبلادنا، ويخدعنا بلعبة الديمقراطية حتى يُمزق جهودنا وعملنا، ويُعلقنا بالأوهام والسراب، ويُغرقنا في التيه بهذه الخدعة، ويُجرِعنا العلمانية حتى الثمالة! وإذا كان النظام لا يسمح للشرفاء بالاقتراب منه حتى يحافظ على نقائه في "النفاق والخيانة"، وإذا كان هذا النظام قد بلغ المنتهى في الإفساد، وقتل الأبرياء، ومحاربة المصلحين، وسرقة الثروات، والتوحش على الشعوب، وبلغ الدرك الأسفل في النفاق، وحقق المركز الأول في الخيانة، ولا يخجل من ذلك، ويتبجح به.. فإذا كان كل ذلك، فإنَّ من العبث والسفه والخَطل مخاطبته بالديمقراطية، والشرعية، والحقوق، والعدالة، والتنمية والإصلاح!! بل في ذلك تعمية عن حقيقته، بل وتجميل له، وإعطاءه الشرعية كذلك! وبث الأمل المكذوب في إمكانية التوافق معه والإصلاح من داخله! فضلاً عن تضييع فرصة المقاومة والتغيير، والاستهلاك العبثي للطاقات.
بينما معرفة التوصيف الصحيح للنظام، والمضي على أساس هذا التوصيف، ومقتضياته، هو الذي يجعل للعمل السياسي الإسلامي قيمة، وثمرة.
***
وإنَّ "العمل السياسي الإسلامي" لا يغفل الخطاب الإعلامي، ولا دوره التوعوي، ولا يغفل أثر السخرية ـ من الظالمين ـ وسحرها.. ولكنه بكل تأكيد لا يجعل هذا الأمر هو كل الجهد، ونطاق العمل.. بل إن الخطاب الإعلامي المتنوع والمتوازن والقريب من لغة الناس، وبأدوات فهمهم لا يجب أن يتجاوز حاجز (10) بالمائة من المشروع السياسي الإسلامي، وباقي الـ (90) بالمائة هي لبناء القوة السياسية الحقيقية وليست الهشة..
وبناء القوة السياسية الحقيقية يبدأ بنقد الذات، لماذا لم ننجح؟ ما هو مكمن الخلل؟ كيف نتطور للأفضل؟ ولا يمكن أن يكون جواب هذا السؤال هو إحالته لظلم الأنظمة الظالمة، فهذا هروب من المواجهة، وتولي عن البناء الحقيقي.
وعندما ننجح في مهمة نقد الذات، ونعالج مكامن الخلل، ونعيد ترتيب أوراقنا، ونشكل صورة جديدة متجددة، حينها سنكون مؤهلين لصياغة منضبطة لـ "المشروع السياسي الإسلامي" الفعّال، الذي يستطيع أن يرسم خطة "الثورة والتغيير" خلال جيل أو جيلين على الأكثر، ويتحرك في خطوات دقيقة مدروسة، كل خطوة تُسلّم للتي تليها، دون استعجال خطوات، أو حرق للمراحل، أو القفز فوق المُسلّمات، في مرونة تحافظ على المكتسبات، ولا تفقد الفرص.
ولا يكون ذلك إلا من خلال رجال مفكرين نذروا أنفسهم لهذه المهمة العظيمة، وتكاملت حركتهم في كل اتجاه: سياسي، واجتماعي، ونفسي، وإعلامي، وإداري، وتطويري، وتربوي، وعسكري، وأمني، واستخباراتي، ودولي... إلخ لتتكامل لبنات "المشروع الإسلامي" وتوفير القوى الناعمة، والخشنة، والذكية من أجل حمايته في جميع مراحله.
ولا يكون ذلك إلا عندما ننتقل من "فخ المعارضة" إلى "عبقرية البناء".
***