الحرية فطرة فطر
اللهُ الإنسانَ عليها.. حباً، وغاية، وأمانة؛ لتخلص العبودية لله، ولتصلح للإنسان مهمة
الخلافة على الأرض، وإنَّ محاولة استلابها من الإنسان، والاعتداء عليها هو قبل الاعتداء
على الإنسانية، هو بالأصل اعتداء على حق العبودية لله وحده، وعلى مهمة خلافة الإنسان
في الأرض.
فكيف يحقق الطغاة
هذا الهدف بسرقة الإنسان ذاته؟ وكيف يستمر الطغاة في الحياة رغم عظم جرائمهم، وقبحها
فطرة وعقلاً وشرعاً؟
يتجسد الشر الإنساني،
والمكر الشيطاني في عقول الطغاة والطواغيت، ويضعون خطة محكمة دقيقة لسرقة إنسانية الإنسان،
واستعباده، وتشمل هذه الخطة مراحل متعددة:
المرحلة الأولى:
استلاب حرية الإنسان بالإكراه الإيجابي والسلبي.
المرحلة الثانية:
قتل النفس اللوامة، أو تسكين الضمير.
المرحلة الثالثة:
تزيين الشيطان، وتحسين عبادة الطاغوت.
المرحلة الرابعة:
الارتباط العضوي والمصالح الخاصة بوجود الطغاة.
المرحلة الخامسة:
التجهيل والتعمية.
المرحلة السادسة:
معاداة الأحرار.
***
المرحلة الأولى:
استلاب حرية الإنسان.
تبدأ المساومة
على بيع الإنسان لنفسه، ووضع السعر المناسب له، وكلما كان للإنسان كرامة، وشعور إنساني
كلما ارتفع سعره، وإذ لم يقبل بتسعير نفسه ابتداء فسيظل محافظاً على حريته وقيمته..
أما إن فكر في المساومة، فحتماً سيبيع في مرحلة ما!
ولا تنتهي معركة
الأحرار عند هذا الحد، فإذا فشلت عملية البيع (الإكراه الإيجابي) فستأتي مرحلة الإرهاب
الجسدي (الإكراه السلبي) ليساوم الإنسان على بيع روحه من أجل حماية جسده، وهذه معركة
لا يثبت فيها إلا من أبى أن يستسلم للطغاة، أو أن يبع نفسه لهم تحت أي دعوى، وفي أي معركة.
بعد نتائج هذه
المعركة – والتي يسقط فيها كثير من الناس – يأخذ الطغاة الإنسان الساقط غنيمة الحرب،
ليكون مادة الشعب الذي يريده.. وليكونوا الجنود المخلصين، والدماء الجديدة في صروح
الطغيان.
وقد جعل الله
هؤلاء - أكابر المجرمين - فتنة للإنسان، حتى لا يركن إليهم، ولا يستسلم لباطلهم،
ويظل مجاهداً محافظاً على إنسانيته وأمانته وحريته.
المرحلة الثانية:
قتل النفس اللوامة.
استلاب حرية الإنسان،
ومحاولة استعباده عملية معقدة، لا تتم أبداً بسهولة؛ لأنها ضد الفطرة الإنسانية، وضد
حركة الحياة..
وجرائم الطغاة
ستفوق كل حد، وستتجاوز كل عقل، وإنسانية الإنسان لا تموت بسهولة، فستأتي نفسه اللوامة
لتحرك فيه مشاعر الحرية، والكرامة، سيجد وغز الضمير في لحظات، وهذا من أخطر ما يخافه
الطغاة، فقد يحدث الانقلاب الإنساني فجأة، وتثور الفطرة تبحث عن الحرية والخلاص.
فيجب إسكات اللوم
والضمير.. بحجج ومبررات عقلية بعنوان: المصلحة والمفسدة، وحماية الأوطان، والخير
والرخاء، وتبديل دين الآباء... إلخ؛ لتبدو عملية استعباد الإنسان عملية "عقلانية
منطقية" لا حرج فيها ولا خجل، بل واجب وطني وديني!
المرحلة الثالثة:
تزيين الشيطان، وتحسين عبادة الطاغوت.
بعد محاولة اسكات
النفس اللوامة، سيأتي المكر الشيطاني ليضيف جدار حماية آخر، وهي محاولته تزيين كل قبيح،
وتحسين كل شر، ليتم القضاء نهائياً على أي احتمال لثورة الفطرة أو العقل الحر!
والشيطان يحترف
هذه المهمة، وبها يفتن كل إنسان، ولا يملك سلطان على الإنسان إلا هذا السلطان.. سلطان
الوساوس التي تقلب الحقائق، وتجعل من عبادة الطاغوت "الحرية"، ومن القتل
والإرهاب "ضرورة الحماية"، ومن الإفساد في الأرض "سبيل الرشاد"..
والإنسان المقهور
والمستعبد يجد في تزيين الشيطان مخدرات نفسية مناسبة ليظل الضمير في سكره لا يستيقظ
أبداً.
وتزيين
الشيطان – بالعموم – لا مرحلة محددة له، بل لا يَمل من محاولة غاوية الإنسان بكل
وسيلة، في كل وقت.
وهذه الحالة
تجعل الإنسان يُحسن العبادة للطاغوت، حتى دون الاستفادة المادية منه! ويخدم الطغاة
والطغيان مجاناً محسناً مطيعاً، ولا يتم ذلك إلا بعد الانقلاب النفسي، وانتكاسة
الفطرة.
المرحلة الرابعة:
الارتباط العضوي بالطغاة.
يربط الطغاة الناس
بهم ويجرونهم من رؤوسهم بسلاسل الحديد عن آخرهم.. فالمقربون وعلية العبيد وحماة الطغاة
يرتبطون عضوياً بهم، فتكون مصالحهم الشخصية، ومصالح أسرهم كلها مرتبطة بوجود الطغاة،
مروراً بجميع الطبقات التي يصنعها الطغاة عن طريق التفرقة بين الناس، حتى نجد أتعس
الناس وأفقرهم يشعر بالخطر عند الدعوة للتخلص من الطغاة، والتحرر من أسرهم. فيهدف الطغاة
دوماً إلى قاعدة: "إن الوضع الحالي أفضل الموجود، وكل محاولة لخلخلة هذا الوضع
هي خراب وفوضى وضياع وفتنة، يجب محاربة دعاتها"، فيعمل الطغاة دوماً على جعل (خرابهم،
وفتنتهم، وسفكهم الدماء) من أجل بقائهم حرباً مشروعة تماماً، ولو سالت الدماء على
أيديهم أنهاراً، وعم الخراب كل شيء، فهذا بالنسبة إليهم عمل مشروع، وهدف نبيل،
ويصدق عبيدهم هذه الدعوى، لأنهم أصبحوا قوماً فاسقين.
المرحلة الخامسة:
التجهيل والتعمية.
يبذل الطغاة في
صناعة الجهل كل وسيلة لإنجاح عملية استلاب العقول، عن طريق: الخطب، والفتاوى، والفن،
والسينما، والمسرح، والأدب، ووسائل التعليم، والنظم الاقتصادية، والثقافية،
والإعلامية... إلخ، في محاولة لضرب حصار شامل على العقل، حتى لا يعقل مدى خطورة استعباده
من قبل بشر مثله، لا يملكون شيئاً سوى ما يتنازل عنه هو وغيره..
ينفق الطغاة في
هذه المرحلة بسخاء ويحاولون جذب أصحاب الأسماء اللامعة، والألقاب الرنانة في كل مجال،
من الدين إلى الفكر، إلى السياسة، إلى الثقافة، إلى الفن.. يتم حشد الجميع من أجل هدف
واحد: الوضع الحالي الذي يقيمه الطغاة هو شيء عظيم، جليل، من يقترب من مجرد محاولة
نقده، فضلاً عن تغييره هو لا يريد إلا الشر بالأمة والشعب والحضارة والتاريخ، ويجب
محاربته بكل وسيلة.
المرحلة السادسة:
معاداة الأحرار.
لا يموت صوت الحق
أبداً، ويظل يُسمع من هنا ومن هناك، وصوتهم يُفسد على الطغاة خطتهم، فلا بد إذن من
شيطنة الأحرار، وإلباسهم لبوس اللعنة والخيانة والضلال، وحشد الناس ضدهم حتى لا يسمع
أحد دعوتهم.. والسخرية منهم في كل مناسبة، وبغير مناسبة.. لإقامة حاجز نفسي وواقعي
بينهم وبين العبيد..
فرغم انقلاب الفطرة،
واستلاب العقول، يظل في كل إنسان مستقبلات للإيمان، واستجابة للأصل الفطري للإنسان،
فمجرد الكلام، قد يُحدث ما لا يحمد الطغاة عقباه.
وفي لحظة الاختيار
الحر، ومنع تزييف الإرادة.. سنجد أعوان الطغاة أول من يلعنهم ويحاربهم.
وعلى حسب درجة
فسوق الجماهير تكون النتيحة، فإن استسلم الجماهير إلى استخفاف الطغاة بهم، واستقبلوا
الفسوق بالترحاب لا الإنكار، فمصير الطغاة وعبيدهم واحد.. فهم يسارعون في الإثم
والعدوان، وأكل المال الحرام!
وأما إذا ارتفع
وعي الجماهير، ولم يتمادوا في الاستجابة لمكر شياطين الإنس والجن، فقد حان فجر الحرية،
وكسر قيود الطغيان، ورفع النير عن الرقاب.
ولطالما شرّح القرآن
الكريم حالة الطغاة، وحالة الجماهير.. حتى لا يسقط أحد في مستنقع العبودية للطاغوت،
والركون للظالمين، ويوجه الإنسان دوماً إلى حقيقة إنسانيته، وكرامته، وحقوقه، حتى لا
يسرقها أحد منه، ويظل ممسكاً بالأمانة التي حملها الإنسان، والتي يجب فيها أن يقوم
بالعدل بعد العلم.. ويُسلم وجهه لله، وهو محسن..
ولا يخشَ الطغاة
شيئاً مثل (العلم) الذي يُخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، و(طلب العدل) الذي يقطع رأس
كل طاغية.
***