قد تَكون الثورات في كثير من الأحيان مجرد رد فعل طبيعي تلقائي – لا يمكن منعه أو رده – كمثل: أن تمس يد إنسان النار، فيُبعد يده (دون تفكير) في حركة لا إرادية، حتى ولو كان ستصطدم يده بجدار.
ويمكن أن نسمي هذ الحالة من الناحية الاجتماعية "عملية انفجار اجتماعي" وصل ذروته، ومن الناحية الفردية حالة من "اليأس من الحاضر والمستقبل" دفعت الإنسان للغضب.
وهذه الحالة تقريباً هي ما كانت عليه الثورات العربية، وعيوب هذه الحالة:
- غياب مشروع محدد للتغيير.
- غياب القيادة والرأس التي تقود مشروع التغيير.
- عدم وجود القوى الأمنية التي تحمي الثورة وقيادتها.
- تباين واختلاف وجهات النظر بين الثوار ومؤيديهم.
- انحسار الفاعلية في العمل السلمي المطلق كالتظاهرات والاعتصامات فقط، دون وجود خطة حماية الثورة.
- عدم إدراك حجم الحصار المحلي والإقليمي والدولي، ومن ثم الغفلة عن الإعداد له وآليات مواجهته.
ومميزات هذه الحالة:
- إنَّ الانفجار الاجتماعي حالة فطرية صحية اجتماعية، تنم عن وعي ولو قليلاً، وعن حياة وإن لم تكن منتظمة.
- اجتماع الناس على ضرورة التغيير، وإن جهلوا آلياته وماهيته.
- شعور الشعوب بقدرتها على التغيير، وإنها لم تعد مجرد سقط متاع، أو حاشية للطغاة.
- انكشاف كثير من المستور من أحوال الخونة والفسدة وأئمة الضلالة.
وبذلك يمكن تقسيم الثورات إلى نوعين:
- ثورات تلقائية عفوية ( كحال الثورات العربية ).
- ثورات مخططة مدروسة.
والثورات عموماً هي تراكم وعي، وضغوط اجتماعية، وشرارتها لا يمكن التنبؤ بها في الغالب، ولكن ما بعد شرارة الثورة هو ما يحدد طبيعة مستقبلها ومدى نجاحها.
***
والثورة: هي انقلاب على النظام الحالي، من أجل صناعة نظام جديد. والجهل بالنظام الحالي المراد الثورة عليه، من أشد ما يسبب فشل الثورات، ويرفع فاتورة تكاليفها.
وميزة الثورات العربية أنها كشفت لنا واقع النظام الحالي لبلادنا، فقد وجدنا أننا تحت حصار ثلاثي:
1- الحصار المحلي.
2- الحصار الإقليمي.
3- الحصار الدولي.
وحتى تنجح الثورات العربية.. عليها الانفكاك من هذا الحصار جميعه، وكسر قيوده.
1- الحصار المحلي.
وقد كان يظن كثير من الشعوب العربية أن العلة وحدها في النظام المحلي الحاكم للبلاد والمتمثل في منظومة الحكم، بل ربما ظن البعض أن المشكلة في رأس النظام "رئيس الدولة"، ولكن سرعان ما اكتشفوا أن العلة في النظام نفسه لا في رأسه فحسب، فهي شجرة خبيثة، كلما قُطع منها رأس.. أخرجت رؤوس الشياطين!
ويتمثل النظام في: (منظومة الرئاسة) التي تمثل الشرعية المزعومة، و(القوى الأمنية) التي تحمي هذه المنظومة بأذرعها المختلفة، و(القوى القضائية) التي تُشرعن هذا الباطل، و(القوى الإعلامية) التي تُحسن القبيح، وتُقبح الجميل، و(القوى المالية) التي تنفق على هؤلاء.
فرِحت الشعوب – وحُق لها – عندما يضحي النظام برأسه - ليحافظ على بقائه، وليُخرج رأس جديدة – وتشعر النشوة في قدرتها على إهلاك الطاغية، وتمريغ أنفه في التراب، بعدما مرّغ أنف الشعب كله، وتجد لذة الثأر من هؤلاء المجرمين. ولكن سرعان ما تكتشف – على حسب درجة وعيها واستفادتها من التجارب السابقة – أن المشكلة أعمق من الرأس، بل في نظام متغلغل بفساده في كل مفاصل الدولة، وإن هذا النظام قد يكون في ذاته مجرد وكيل محلي عن الوكيل الإقليمي.
2- الحصار الإقليمي.
اكتشفت الشعوب الثائرة، أن المشكلة ليست فقط في مجرد النظام المحلي ورأسه.. بل هناك قوى إقليمية محيطة، تملك صناعة المشهد السياسي المحلي بامتياز عن طريق:
- فيضان المال الذي لا ينقطع لشراء المواقف السياسية والضمائر.
- النفوذ الاستخباراتي داخل النظام المحلي نفسه.
- القوى الإعلامية التي تحاول فرض مشهد فكري يخدم النظام المحلي.
- تأزيم المشكلات الاقتصادية المحلية، والإغراء بسرعة حلها، عن طريق القروض الميسرة، وإمدادات الطاقة.
- تكتل الدول المعادية في جبهة واحدة ضد الشعوب الثائرة.
ومن ثم استخدام كل هذه الوسائل لدعم النظام المحلي، وضرب جبهة الشعوب الثائرة، والتحكم في المشهد السياسي، بل واختيار شخصية الوكيل المحلي الجديد الذي ينوب عن القوى الإقليمية.
وتفعل القوى الإقليمية – بعض دول الخليج والكيان الصهيوني في مثال الثورات العربية – ذلك خشية تحرر الشعوب وسيادتها، وامتلاكها زمام أمرها، فالواجب السياسي الأول المقدس: أن تظل الشعوب العربية - خاصة - في حظيرة الرعي لا تخرج منها إلى الحياة، وكل آمال الشعوب العربية يجب أن تنحصر في تحسين ظروف المرعى، وتحسين ظروف الحصار، أما الخروج عنه والتحرر منه وكسر قيوده، فدونه حرب لا هوادة فيها.
ولم تكن تتخيل الشعوب الثائرة هذه الحالة من الغل والعداء والحقد السافر تجاهها، لا سيما وهي لا تمس سيادة القوى الإقليمية أو تعتدي عليها، ولكنها أدركت لاحقاً أن الحالة واحدة، فالثائر في مصر كأنه في الإمارات، والثائر في تونس كأنه في السعودية... إلخ فهي حالة واحدة.. يجب على الشعوب العربية أن تظل في الحظيرة لا يخرج أحد عن القطيع، فهو في نظر الطغاة – أكابر المجرمين – قطيع واحد، من يشرد عنه، فقد فتح الباب لباقي القطيع.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقد اكتشفت الشعوب، الدرجة الثالثة من الحصار.
3- الحصار الدولي.
انخدعت الكثير من الشعوب في شعارات النظام الدولي المُنادية بـ: الديمقراطية، وحقوق الإنسان...إلخ، ولكم طربت وحلمت بذلك الحلم، ثم سرعان ما اكتشفت أن هذه الشعارات فقط للاستهلاك الإعلامي، ولصناعة قيم أخلاقية سامية، يمكن أن تنطلي على الشعوب، فالنظام الدولي – المتكون بعد الحرب العالمية الثانية – لا يعرف سوى غاية واحدة: تعزيز قوته ومكانته بكل وسيلة – مشروعة أو غير مشروعة – ومنع أي محاولة للاختلال بموازين القوى هذا، وعدم السماح لأي دولة من الدول التي لم تنل استقلالها الحقيقي، أن تملك زمام أمرها، أو تأتيها قيادة لا تدين – أو لا تخضع – لأوامر النظام الدولي.
ولا يتورع عن استخدام أي وسيلة: استخباراتية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو نزع شرعية دولية.. لإبقاء حالة الهيمنة والتبعية، وأن تظل الدول العربية كـ "عهدة استعمارية" وأمانة عظيمة في يد الوكيل الإقليمي والمحلي، عليه الحافظ عليها، وإن فشل، سيأتي النظام الدولي ليستلم هذه العهدة!
ولكم بَعُد أولئك الذين ظنوا خيراً بالنظام الدولي، وراحوا يستجدونه باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، أن يمنحونهم بعض الشرعية، بينما هو سيد المجرمين، وكبير السجانين.
***
لم يَكن يدور في خلد رجل الشارع البسيط الذي يحلم بعيشة كريمة، وبتعليم أفضل لأبنائه، وبرعاية صحية تليق بالإنسان.. لم يكن يتصور أنه تحت كل هذا الحصار، وكل هذه القيود.. وأن عليه التحرر منها جميعاً، لقد غضب لاغتصاب حقوقه، ولفساد حكامه، وحتى لما ثار على هذه الأوضاع – وهو قليل الحيلة والوسيلة – لم يكن يتصور هذه الجيوش من شياطين الإنس وهي تحاصره..
ولكنه لما غضب بدأت خيوط المكر والخيانة الخفية تظهر، وأن تكشف عن وجهها القبيح، وأن يرى الأمور على طبيعتها، لا على ما كان يُقدّمه له سحرة الفراعنة.. أنهم: أعظم أمة، وأقوى شعب، وأشرف قيادة... إلخ من صور الدجل المعهود.
ثم تأتي الضربات الإقليمية والدولية للشعوب الثائرة، وتنتصر الثورات المضادة في جولات، ويصيب اليأس الشعوب، فهل حقاً ستنتصر الثورات المضادة ويبقى النظام القديم العميل كما هو؟
هذا ما يحاول الطغاة نشره بكل وسيلة، وهو إشاعة روح اليأس والقنوط، بل لا مانع لديهم من الاعتراف بالخيانة والعمالة للقوى الدولية المعادية، والاستقواء بها، حتى تظن الشعوب أنها وحدها في معركة يحشد فيها العدو قواه الداخلية والإقليمية والدولية، فهي معركة خاسرة للشعوب، وعليها أن تقنع وتبقى داخل المرعى، ولا تتبطر على صاحب الحظيرة!
ولكن هذا غير صحيح! فالشعوب تملك كل شيء، ولا يملك الطغاة وأكابر المجرمين شيئاً سوى ما تعطيه هذه الشعوب لهم، أو تتسامح فيه.. والطغاة يعرفون ذلك جيداً، لذا فإنهم يستخدمون الرعب المعنوي والمادي لمحاولة "الهزيمة النفسية" للشعوب، وإفقادها ثقتها بقدرتها على صناعة التغيير.
ولعل قائل يقول بحسرة ويأس: لماذا سقط هذا الشعب في نفس الفخ الذي سقط فيه من سبقه من الشعوب الثائرة؟ ولماذا لم يستفد من التجارب السابقة؟
إنه لا بد للميلاد من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام..
ولعل
هذا السؤال أشبه بمن يقول لطفل يتعلم المشي: لماذا تسقط هكذا مراراً؟ ألا تستفيد
من تجربة الأطفال قبلك! ومن جانب آخر: عملية النضوج هذه لا تبرر عدم الاستفادة من تجارب التاريخ، أو التجارب المعاصرة، فكلما ارتفع الوعي، قلّت فاتورة التكاليف..
والشعوب في مرحلة ميلاد ومخاض، وهي في مرحلة الوعي بذاتها، ومرحلة محاولة الحركة، وسقوطها مراراً لا يعني فشلها – أو عدم رغبتها في الاستفادة من تجارب الآخرين – وإنما يعني أنها تمر بمرحلة طبيعية من النمو، ولكي يتم النمو بنجاح يجب:
- تشجيع الشعوب الوليدة على القيام بالأفضل.
- اليقظة الدائمة لكل المخاطر المحيطة والمحتملة.
- عدم إشاعة روح اليأس والإحباط، فيحدث لها "توحد مَرضي" فتنكفأ على نفسها، لا تريد الحركة والحياة.
- عدم القناعة بوضع سيء، بل التطلع إلى المثالية، مع الحفاظ على الخير الموجود.
ومن الطبيعي في ميلاد الشعوب، المرور بالمخاض الاجتماعي الذي فيه:
- تتصارع الأفكار الصحيحة والباطلة.
- التخبط بين العمل السلمي المطلق الخالي من القوة العسكرية، وبين العمل المسلح الخالي من التخطيط والشرعية، والعجز عن التوافق بينهما.
- تتصارع فيه القوى الاجتماعية، ومحاولة كل فريق السيادة على غيره.
- التصارع بين الحنين إلى الماضي الفاسد المستقر، والتطلع إلى المستقبل المجهول الثائر.
- التصارع على ميراث النظام القديم حتى قبل أن يسقط، وقبل أن تتم عملية التطهير.
- سقوط المشروعات الفاشلة، وميلاد إرهاصات مشروعات التغيير الناجحة.
ولقد كانت البداية مع "الغضب" من الطغاة، ومتى تم استثمار واستمرار هذ الغضب ستصل الشعوب يوماً إلى بداية الطريق، ولا يستعجلن أحد الثمرة، فالثمرة الاجتماعية تأخذ وقتها اللازم للنضوح والاستواء.. وستُأتي أُكلها – ولو بعد حين – بإذن الله.
***