أروع النقوش.. أجمل الزخارف.. أملس الرخام.. أقوى الأعمدة.. أفخر
السجاد.. أزكى العطور.. وأعذب الأصوات.. طوفان من البشر الهادر.. ألوف لا تنقطع من
أمواج الناس.. خشوع وتذلل أمام الروضة الشريفة، وأضعافهم أمام الكعبة المشرفة..
ثم..
لا شيء !!
إننا لا نُمثل أي قوة اجتماعية أو سياسية من وراء هذا الاجتماع
وهذه الصلوات.. ومن وراء التزاحم عند الروضة الشريفة أو الحجر الأسود.. لا نمثل
إلا أنفسنا الأسيرة للطغاة والبغاة..
والحق إن القوة الوحيدة التي نمثلها هي "القوة
الشرائية"، هذا من نستطيع أن نطمئن له، ونقيس به حالنا، إن اجتمعنا هذا يحقق
فقط انتعاش في الأسواق، والفنادق، والعوائد والمبيعات، وتذاكر الطيران..
ولكن ليس ثمة شيء آخر.. اللهم إلا محاولة "الخلاص الفردي"
لكل واحد منا على حدا، في صورة من فصل الدين عن الحياة !
ولكم يفرح الطغاة بهذه الصورة، ويصرفون عليها ببذخ وتبطر ورياء
ومَنّ على الناس؛ ليترسخ في حسهم صحة هذ المشهد.. الذي يجعل من أعظم العبادات
وأقدس الأماكن مجرد رحلة سياحية فردية أصبحت باهظة التكاليف دون مبرر سوى أكل
السحت ! وتجربة شخصية ليس لها أي أثر اجتماعي أو سياسي أو أخلاقي!
بل تحولت بعض زيارات الحرمين إلى رشوة دينية للفسدة!! وألاعيب
قذرة لتقريب البعض واستبعاد آخرين.. والخروج إليها بطراً ورئاء الناس، في حراسات
مسلحة من فِظاظ القلوب، واستعراض سخيف يزيدهم غضب ولعنة من الملك جل جلاله..
ومنهم من يسرق شعبه، ويشرب دمائه، ثم يأتي ليتطهر بالزيارة
الشريفة، فهم منافقون أو متهوكون تهوك يهود !
بعدما أصبح منبر الحرمين يستخدم لنفاق الطغاة والدعايا مدفوعة
الأجر لهم !
***
لقد كان هذا المسجد في أول عهده سقفه الجريد، وسعف النخل، وبلاطه
الطين والحصير، ولكن مع هذا التواضع، وهذه البساطة، فتح العباد والبلاد.. فتح
القلوب.. وحرر الإنسان.. وأقام الحق، ونشد إلى العدل.. تحققت رسالته حيث كان الناس
أمة واحدة، وجسد واحد، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتمنع الفساد في الأرض..
وتضرب على يد كل ظالم، وتقطع رأس كل طاغية..
كانت الصلاة محطة استراحة لاستكمال رحلة الجهاد في هذه الحياة،
والقيام بالعمل الصالح في الحياة الاجتماعية والسياسية.. ولا ينفصل في حسها وفي
فكرها وسلوكها الخلاص الفردي عن الخلاص الاجتماعي.. كانوا يقيمون آيات الكتاب في
واقع الحياة.. بينما نحن الآن تحولت عندنا آيات الكتاب إلى مجرد ترانيم عذبة،
ننشغل فيها بختم آيات الكتاب مع عدد الركعات.. بدلاً عن إقامة نوره وهدايته في
حياتنا الاجتماعية والسياسية!
لم يكن هَم المؤمنين حينما كانوا مؤمنين الاهتمام بسفاسف الأمور؛
لم يكن يشغلهم عدد ركعات القيام، ولا التمسح في العتبات، ولا التنغيص على الناس في
زيارة المقام الشريف.. لم يكن يهمهم عدد التسبيحات، ولا طول اللحية، ولا شكل زكاة
الفطر..
كانوا حقاً مؤمنين حينما كانوا يستشعرون أن أعظم عبادة بعد الإيمان
بالله، والقيام بأركان دينه، هي منع الظلم. ومنع الفساد في الأرض، فكان اجتماعهم
وسياستهم تمضي لتحقيق هذه الغاية.. ولهذا كان لهم التمكين في الأرض..
أما أهل الزخارف والشكليات كانوا في الصورة الاجتماعية والسياسية
غثاء سيل ! لا قيمة له ولا أثر..
وحتى لا نكون غثاءً..
يجب إعادة التوازن الصحيح لمفهوم العبادة، ومفهوم العمل الصالح،
والانتهاء عن سماع السفهاء المتلبسون لبوس العلماء.. الذين ينـزعون قوة المسلمين
الاجتماعية السياسية.. ويُحوّلونهم أنعاماً وقطيعاً طيعاً سهل الانقياد للطغاة
والفسدة.
إنَّ من أحب الأعمال إلى الله.. سرور تُدخله على قلب مسلم، أو ظلم
تدفعه عنه.. وأحب المسلمين إلى الله الأتقياء الأخفياء.. وأفضلهم المهتم لأمر دينه
وأمته.. وأعظمهم قدراً المُغير للمنكر بيده ولسانه.. العاملون على إصلاح روابط
الأخوة الإيمانية والقلبية والروحية والعملية والسلوكية؛ لتعود للأمة حياتها من
جديد، ولتحيا رسالتها وريادتها وشهادتها..
والأمة الحقة هي الأمة الدافعة للإمام العادل.. الضاربة على يد كل
ظالم.. تلك الأمة المقدسة التي يأخذ فيها الضعيف حقه غير متعتع..
أما المكثرون من الشكليات والمظاهر دون المقاصد والغايات..
فليحذروا المقت الأكبر.
***