قائمة المدونة محتويات المدونة

20‏/02‏/2020

الدولة الإله!


الدولة الحديثة: هي الدولة الإله، ودينها العلمانية.. تريد الهيمنة التامة على كل رعاياها، والإيمان القاطع الجازم بالعلمانية منهجاً وطريقاً، وتسمح حسبما ترى لغيرها من "الأديان" أن تمارس بعض شعائرها، التي لا تتعارض مع العلمانية كدين.
بوضوح أكثر يتحدث رئيس الجمهورية الفرنسية عن هذه الدولة الإله ودينها "العلمانية"، ويعتبر أن عدوه الأول هو "الإسلام الانفصالي"! فالدولة الإله تضيق أن يمارس بعض المسلمين "المواطنين" بعض شعائر دينهم، رغم أن شرائع دينهم بعيدة كل البعض عن التطبيق..
ولكن العلمانية الفرنسية – منبع الشرور والإفساد والإباحية – تضيق بشعائر الدين، وتضيق بالنظافة الأخلاقية، وتعتبر ذلك "انفصالاً" عن مبادئ الجمهورية!
فيقول رئيس فرنسا " إمانويل ماكرون" (يمكننا الانتماء إلى عائلة فكرية، أو مرتبطين دينياً.. يمكن أن نكون أصحاب أصول أجنبية نتمسك بها، نابعة من ثقافة أو من متخيّل.. هذه أشياء مهمة مع الحفاظ على كوننا فرنسيين بالكامل من هذه الأمة، إشكالنا أنه من خلال التمسك بدين أو بانتماء معين؛ تصبح هناك رغبة في الانفصال عن الجمهورية، وفي عصيان القوانين، وبالتالي تهديد التعايش المشترك في الجمهورية؛ لذلك فإن عدوّنا في هذه الحالة هو "الانفصالية" أي هذه الظاهرة التي نلاحظها منذ عقود، وهي رغبة في مغادرة الجمهورية) [المصدر مقطع مرئي: ترجمة مجلة ميم]
وقال: " لا يمكن باسم دين ما القبول بمخالفة القوانين، وأنه لا ينبغي أبداً القبول في فرنسا بتغليب قوانين الدين على قوانين الجمهورية الفرنسية... فيما خصص الرئيس الفرنسي النقطة الثالثة، لمكافحة المحاولات الانفصالية في المجتمع الفرنسي والتي تأخذ أشكالاً مختلفة مثل: أوقات الاستحمام المنفصلة في حمامات السباحة العامة، وساعات الصلاة في النوادي الرياضية، وانتهاكات قانون المساواة بين الفتيات والفتيان." [المصدر: الإخبارية الألمانية]
وتابع "أعداؤنا هم أصحاب الأفكار الانفصالية، وغيرهم ممن يريدون ترك الجمهورية الفرنسية، ومن لا يتبعون القوانين. والرغبة في انقطاع صلتك بفرنسا باسم دين ما أمر غير مقبول، فهذا أمر تتعين محاربته".  [المصدر: الجزيرة].
أي يقصد: الدولة أولاً أو بتعبيره مبادى الجمهورية العلمانية أولاً.. والدين هامش وتابع ولاحق لا حق له في الحياة إلا بما تسمح به الدولة وفق منظورها ومصلحتها، وعند التعارض تُقدم العلمانية بلا تردد بل عن إيمان وإحسان ويقين.
والحقد العلماني هو الوجه الآخر للحقد الصليبي مع زيادة في الوحشية العلمانية واستباحتها كل محرم. واحتلال الشعوب وفرض الهيمنة الثقافية واللغوية والسياسية والاقتصادية .. ونشر الفساد والاستبداد ودعم الفسدة والطغاة.. بزعم التنوير والديمقراطية.
وإننا لا ننتظر تصريحا من هنا أو هنا، ولا نتصيد هفوة من هذا أو ذاك لنقول هذا الكلام - كما يظن البعض - ويحسب المسألة ظرفية أو استثنائية. بل هي الأصل والأساس الذي تقوم عليه الدول العلمانية.
ولعل بعض الشباب يقول: إنه لم يشعر بالكرامة والإنسانية إلا عندما سافر للغرب. هرباً من الطغاة والفسدة.. ولا أحد ينكر ذلك. ولا ينكر الحالات الإنسانية التي تفيض من بعض الأشخاص والمؤسسات، فالخير في النفس الإنسانية أصيل، ولا ينقطع إلا عند من مُسخت فطرته بالكلية!
ولكن ما لا يلتفت إليه البعض في هجرة الشاب أنه يهاجر فرداً، ويبقى فرداً؛ ويكتشف لاحقا وطأة وجفاف الحياة المادية.. ويكتشف صعوبة تكوين أسرة - أسرة صغيرة - على المبادئ الأخلاقية والقيم الربانية.. مجرد أسرة صغيرة مسلمة في مجتمع علماني كأنه الجهاد الأكبر.. فضلاً عن بناء مجتمع إسلامي.
فالمجتمع والنظام العلماني لا يسمح بالقيم المنافسة له أو الرافضة لقذارته. بل يسمح فقط بالتوابع خدمة له. لا مشاركة ولا قبول لوجوده.
ولقد حاول دين العلمانية الترويج لنفسه – قديماً وحديثاً – بأنه يتسامح مع الأديان الأخرى، ويؤمن بالتعايش، وبالحرية، لكنه مع الإسلام يواجه مشكلة كبرى سواء على مستوى الشعائر الفردية، أو الشرائع الجماعية.. فالإسلام لا يؤمن بألوهية الدولة، ولا بعلمانية النظم.. بل يؤمن بألوهية الله الخالق المتعالي، ويؤمن برسالية وربانية النظم، وبحرية المجتمع الإنساني من الخضوع والهيمنة الكلية لغير الله.
فالدولة الحديثة: سمحت بنظمها وقوانينها، استعباد الناس لأهواء قلة من البشر، وسمحت بسرقة ثرواتهم باسم "حرية السوق"، وسمحت باستعبادهم باسم "المادة"، وتدخلت في أدق تفاصيل حياة الناس، من لحظة الميلاد إلى الوفاة.. ثم خدعتهم بأن كل هذه الأغلال والآصار إنما هي "الحرية"..!
كما سحقت المجتمع – والأمة ككل – لصالح نظام الدولة، الذي هو بالأساس تابع وخدام للأمة، لكن العلمانية سحقت الإنسان لصالح النظام، وسحقت الأمة لصالح مصالح القلة!
والجماهير إنما تثور تحت وطأة "الضغوط الاقتصادية" التي لا بد أن تحصل يوماً ما، لأن العدالة الاجتماعية الربانية الحقيقية لا تؤمن بها الدولة الحديثة، بل تؤمن بالإقطاع الاقتصادي الحديث، الذي يتحكم فيه أصحاب رؤوس الأموال، ومؤسساته الدولية أو ما يسمى "النيو ليبرالية"، وحكم الشركات عابرة القارات.
ولقد ثارت أوربا قديماً ضد الكنيسة وخرافاتها، والإمبراطور وفساده.. فراحت تعبد المادة، وتؤمن بالدين الجديد "العلمانية" والدولة الجديدة "الإله الجديد" بدلاً عن الكنيسة وإلهها.
والعلمانية: ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل جعل العلمانية هي دين الدولة الجديد والوحيد – كما حاول رئيس فرنسا البيان – وجعل الدولة ونظمها وقوانينها هي الإله الذي يجب على الجميع الخضوع له، والإيمان به، والإحسان إليه، والفناء من أجله، حتى ولو كانت هذه الدولة تسترق الإنسان، وتسرق الثروة.
ولعل رئيس فرنسا يُناور سياسياً في معركته الانتخابية، لاستمالة اليمين المتطرف.. فسب الإسلام والمسلمين في الغرب علناً مما يجذب كثير من أصوات اليمين!
على أنني لست أدري على أي شيء يتطرف اليمين؟! والجميع قد انتقل من ألوهية الكنيسة ورجالاتها إلى ألوهية الدولة وعلمانيتها! ولكن خداع الجماهير لا يكون إلا بهذه الطرق الخسيسة من الكذب والخداع والتجهيل والتغفيل، وإثارة الحفيظة القومية، والثقافية، والعرقية ضد غيرهم!
***
وكثير من بني جلدتنا يُخدع في دين العلمانية، ويحسبه هو الحل، وهو الطريق، وهو النجاة، ويُخدعون في الشعارات البراقة، وتسوق العلمانية لنفسها على أنها مجرد "مبدأ سياسي" خالي من الإيمان والاعتقاد..
وما هي إلا "دين" لا يؤمن حتى بالتعددية، ولا بالتعايش، ولا يقبل أن يزاحمه أي تشريعات: سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أخلاقية تأتي من دين آخر..
فهو دين يريد الهيمنة على الفكر والشعور، والأخلاق والسلوك – كما هي طبيعة أي دين - يريد أن يجعل الولاء للدولة الإله لا شريك لها! وعبادة المادة، والكفر بالغيب، وما وراء المادة، وتكره وتشمئز من ذكر الله في أي مجال سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو السياسي.
***
ولكن الأمور تمضي حتماً إلى التصادم والتفكك.. لأن البُنيان الذي تقوم عليها الدولة الحديثة بنيان متصدع – على شفا جرف هار – والديون العالمية وصلت إلى مرحلة الانفجار. والبحث عن إله جديد، ودين جديد مسألة وقت بالنسبة لأوروبا والغرب.
ولكن البعض لحقده الأعمى، وحسده المريض، وغله وبغضه.. لا يُريد أن ينظر إلى الإسلام كدين يمكن أن ينقذهم، ولا إلى الله كرب له الخلق والأمر، فيصدون الناس عن سبيل الله، كما فعلوا أول مرة (حسداً من عند أنفسهم)!
ولكن الله مُتم نوره ولو كره الكافرون! ولو كره المشركون!
***
راجع - إن شئت -: