قائمة المدونة محتويات المدونة

04‏/03‏/2020

الإنسانية.. والكفر

يَنظر بعض المسلمين إلى غيرهم من الملحدين، أو من الأديان المحرّفة بميزان مُختل! فيَحكمون على أفعالهم الإنسانية الطيبة.. أنها سوف تفتح لهم أبواب السماء، ويدخلون الجنة من أوسع الأبواب، وتطرف بعضهم وأخذ الغلو حد الاستكبار، فراح يشترط أنه لا يريد الجنة التي ليس فيها فلان!

لتحميل البحث نسخة (PDF).. لطفاً (اضغط هنا).

ووضعوا لله – سبحانه وتعالى – شروطاً لمن يدخل الجنة، وطالما يرون هم أفعالهم الإنسانية العظيمة، مفيدة وناجحة في الدنيا، فلا بد حتماً لهم من دخول الجنة، وإن الله سوف يُدخلهم الجنة لأفعالهم الطيبة!

ولا أحد يشترط على الله، ولا يُقدم بين يدي الله، فالله يحكم لا مُعقب لحكمه، ولا راد لقضائه.. وهو سبحانه أيضاً: العدل، والحق، والغفور الرحيم، والجبار المنتقم للمظلومين، والعليم بذوات الصدور، وهو وحده – لا شريك له – هو الذي يضع الميزان، وهو الديان، وهو صاحب الجنة يدخلها من يشاء من عباده، وصاحب النار يقذف فيها الأشقياء والمجرمين والكافرين.

***

دين الله الحق

وقد اشترط الله على عباده ليدخلوا الجنة، الإيمان به، وعمل الصالحات.. الإيمان به على الوجه الذي يُحبه ويرضاه، والعمل الصالح خالص النية لله سبحانه وحده لا شريك له، فقال سبحانه:

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران (85)]

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران (19)]

﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة (132)]

﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران (67)]

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء (125)]

﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْۖ قَالُوا بَلَىٰۛ شَهِدْنَاۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف (172، 173، 174)]

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف (107)]

 

وقال – سبحانه وتعالى - عن الملحدين الدهريين:

﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام (29)]

﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾ [الدّخان (35)]

﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية (24)]

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْۙ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل (38)]

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ. أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس (7، 8)]

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء (18)]

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود (15، 16)]

 

وقال – جل جلاله - عن المشركين من أهل الكتاب:

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَۚ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًاۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَاۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة (17)]

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌۚ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة (73،72)]

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة (30)]

﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة (116، 117، 118)]

﴿مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ٣٥ وَإِنَّ اللَّـهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٣٦ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٣٧ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَـٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ٣٨ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ٣٩ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٤٠﴾ [مريم]

﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ﴾ [مريم (88: 93)]

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء (116)]

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران (91)]

فهذه الآيات – وغيرها الكثير – قطعية الثبوت والدلالة في أن دين الله سبحانه، هو دين التوحيد الذي جاءت به كل الرسل، ونزلت به الكتب.. وإنَّ الله لا يرضى لعباده الكفر، ولا يغفر لمن مات كافراً أو مشركاً به.. سبحانه.

          فدلّت الآيات الكريمات على أن: 

          _ الدين الذي يقبله الله هو الإسلام – وهو دين كل الرسل - والمسلمون بالعموم سيدخلون الجنة برحمة الله.

          _ والكافرون والمشركون والملحدون، بالعموم سيدخلون النار بأمر الله.

         _ وإنَّ الذي يفصل بين الناس يوم القيامة هو وحده الله سبحانه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [السجدة (25)]

         _ إنَّ من الكِبر العظيم، والجرم الشنيع الافتئات على الله سبحانه، والجزم عليه بدخول أحد الجنة أو النار، وتعيين ذلك تعييناً قطعياً - إلا من أخبر الله سبحانه بأحوالهم، ونص عليه كتابه - فالصواب – بإذن الله – الحديث عن الأحوال الموجبة للجنة، والأحوال الموجبة للنار.. وترك القضاء والحكم لمالك يوم الدين، فالحكم لله العلي الكبير، والصحيح: هو الوجل والإخبات لله - سبحانه - ونحن نأتي الطاعات، ونرجو صلاح النية وقبول العمل من الله سبحانه.. كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون (60)] وتأكيداً لذلك المعنى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة عثمان بن مظعون: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ " اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -  فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم - : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟، فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا" [صحيح البخاري/ 1243] وذلك منعاً للإفتئات والتألي على الله، والجزم عليه سبحانه، وهو الإله الخالق المالك.. فلا يتجاوز العبد المخلوق حده، وتبقى مساحة الدعاء والإنابة والقرب وسؤال الله الجنة والتعوذ من النار – كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم – هي المساحة الصحيحة والآمنة مع الله سبحانه. أو كما قال تعالى لنبيه: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف (9)]

 

***

 الأعمال الصالحة

اشترط الله على عباده المخلوقين أنه حتى تكون "أعمالهم الصالحة" صالحة عند الله، أن يكون العبد ابتداء مؤمناً بالله.. راجياً من عند الله، ثم يكون هذا العمل الصالح، خالصاً لله وحده لا شريك له.

كما قال تعالى:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف (110)]

﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء (146)]

وكما جاء في الأحاديث الشريفة:

" إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" [صحيح البخاري/1]

عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: "حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم - أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم - عَلَى رُكْبَتِي، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [جامع الترمذي/ 2382، إسناده متصل، رجاله ثقات، صحيح ابن حبان/408]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " [صحيح مسلم/ 2988]

هذا وقد جعل الله من الأعمال الصالحة.. الإحسان والمودة والقسط والرحمة للمخالفين لنا في الدين، طالما لم يحاربوننا، ولم يتآمروا علينا، فقال تعالى: قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة (8)]

***

الأعمال الإنسانية.. مع الكفر

وأما موطن النزاع – عند البعض - في أولئك الكافرين والمشركين والملحدين الذين يقومون باختراعات عظيمة أو أعمال إنسانية جليلة، تنفع الإنسانية غاية النفع، ويتساءلون: كيف يكون المسلم العاصي الفاسد الذي يفعل كذا وكذا، أفضل عند الله (الرحيم) من الملحد أو المشرك الذي انتفعت به الإنسانية انتفاعاً عظيماً؟

والجواب: إن الميزان لله، وهو – جل جلاله - أعلم بما في القلوب، ويحاسب – جل جلاله – على مثقال الذر، فقال سبحانه: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ٦ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ٧ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ٨ [الزلزلة]

ولا يجوز لمخلوق أن يقرر لله موازين، أو يقترح عليه حكماً.

وأما الأعمال الإنسانية العظيمة من أي مخلوق، فسوف تُوضع على ميزان الله يوم القيامة؛ ليُكشف لصاحبها وللناس عن حقيقتها، وما كان ورائها من (قصد ونية وغاية)، وما تستحقه من جزاء، وسيقرأ كل واحد كتابه، ويُقر إقرارا بما فيه: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء (14)]

 ثم الله يحكم – وهو العدل لا إله إلا هو – لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون، ولا يظلم ربك أحدا.

أما أقبح الكبر، وأعند الكفر أن يقول قائل: لقد استفدت من خدمات هذا الملحد الجليلة، وأعمال هذا المشرك العظيمة.. فيجب على الله أن يُدخله الجنة!! فقد جعل العنيد الشقي شرط دخول الجنة أن يكون مستفيداً من خدمات ملحد أو مشرك.. ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الفرقان (21)]

ويتطاول على الله ! ويتهمه – سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً – بالظلم أو القسوة ! لأنه يشترط – وهو الخالق والمالك والديان – أن يكون عباده مؤمنين به، موحدين له، مخلصين له الدين، غير مشركين به.. فيشترط المخلوق على الخالق، ثم لا يقبل أن يشترط الخالق.. جل جلاله!

كما أن الأعمال الصالحة والخدمات الإنسانية لم تكن بالشيوع المُغطي جنبات الإنسانية في كل مكان؛ فالكثير منها في حكم النادر، وكثير من المشركين والكافرين والملحدين كانوا من أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ومن أشد الناس إفساداً في الأرض، ومن أكثرهم انتهاكاً لحقوق غيرهم من بني الإنسان فقط لاختلاف ألوانهم أو أعراقهم أو لغاتهم أو أرضهم أو أجناسهم أو أديانهم..

ولقد رأينا نحن الأمة المسلمة منذ ميلادها أضعافاً مضاعفة وصنوف ألوان من العداوة والمحاربة والكيد من أهل الكتاب والمشركين والملحدين.. رغم دعوة المحبة والتعارف والأخوة الإنسانية والتعاون والبر والقسط التي يدعو إليها الإسلام!!

ولا يمنع ذلك وجود عظماء في كل قوم قدّموا خدمات جليلة أرادوا بها نفع الإنسانية، ونفع أنفسهم، أو طلبوا بها ما عند الناس من الأجر المادي أو التقدير المعنوي..

والخير لا ينقطع في النفس الإنسانية إلا إن مُسخت فطرتها بالكلية.

كما قد يتخذ موضوع الأعمال الصالحة من المشركين أو الكافرين بُعداً قومياً لا إنسانياً – وهو أمر مضحك لولا أنه قبيح – فينظر البعض لأبناء الوطن من المشركين والكافرين على أن الله سيدخلهم الجنة مع بقية أبناء الوطن! وإذا ماتوا فهم شهداء عند الله ! كأن الحدود الجغرافية والعرق والدم والنسب.. أصبحت شيئاً في ميزان الله، سبحانك هذا بهتان عظيم!

"وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين وما تتخذه من ملة، فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم، بل عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيري الدنيا والآخرة إنما هو صدق الإيمان بالله تعالى...

إن الفوز لا يكون بالجنسيات الدينية، وإنما يكون بإيمان صحيح له سلطان على النفس، وعمل يصلح به حال الناس؛ ولذلك نفى كون الأمر عند الله بحسب أماني المسلمين أو أماني أهل الكتاب، وأثبت كونه بالعمل الصالح مع الإيمان الصحيح..." [تفسير المنار، ج1، ص 277، باختصار]

***

"فلا يغترن أحد من المتقين بكفر بعض المتقنين لبعض العلوم والفنون ، الذين شغلتهم الصنعة عن الصانع... وقد بعث الله تعالى رسلاً إلى جميع الأمم دعوها إلى أصول الدين الثلاثة المبينة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة (62)]

فالرسل - عليهم السلام - كانوا متفقين في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما كانوا يختلفون في تفصيل الأعمال الصالحة والشرائع المصلحة بحسب اختلاف استعداد أممهم، وقد طرأت على أتباعهم من بعدهم بدع وثنية وخرافية وضاعت أكثر تعاليمهم من الأمم القديمة... [تفسير المنار، ج1، ص 181، باختصار]

"فالمعنى الصحيح إذن للآيات هو أن الله لا يقيم وزناً للمشرك في مقابلة شركه، بمعنى أنه لا يقابل الشرك عمل صالح فيمحوه، بل الأعمال الصالحة بإزاء الشرك هباء، ولكن المشرك العاصي أشد عذابا من المشرك المحسن، ولا يعقل أن يكون المحسن والمسيء عنده تعالى سواء، فإن هذا من الظلم المنفي بلا شك." [تفسير المنار، ج5، ص86]

***

حبوط الأعمال

قال الله - سبحانه وتعالى -:

﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان (23)]

﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ٨٤ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ٨٥ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ٨٦ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٨٧ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٨٨﴾ [سورة الأنعام]

﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة (17)]

﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة (5)]

﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر (65)]

﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة (217)]

﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف (147)]

﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة (69)]

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد (32)]

﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود (16)]

﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف (105)]

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد (28)]

فالشرك والكفر يؤدي إلى حبوط الأعمال الصالحة عند الله؛ فالمقصود في الآيات أعلاه في كلمة (العمل) هو العمل الصالح تحديداً الذي يُرتجى فيه الثواب، وإلا لو كان عملاً طالحاً فلا معنى لحبوطه.. والحبوط لغوياً: أن ترعى الدابة نبتاً مسموماً فتنتفخ ثم تموت.

وقد حطبت أعمال المشركين من عمارة البيت وسقاية الحاج.. على ما فيها من الخير، لأن قلوبهم لم تكن عامرة بالإيمان، ولأن أعمالهم الطالحة غلبت أعمالهم الصالحة.

"فإذا كل ما عملوا في الدنيا من عمل صالح هباء. ذلك أنه لم يقم على الإيمان، الذي يصل القلب بالله، والذي يجعل العمل الصالح منهجاً مرسوماً وأصلا قاصداً، لا خبط عشواء، ولا نزوة طارئة، ولا حركة مبتورة لا قصد لها ولا غاية. فلا قيمة لعمل مفرد لا يتصل بمنهج، ولا فائدة لحركة مفردة ليست في حلقة من سلسلة ذات هدف معلوم.

إن وجود الإنسان وحياته وعمله في نظرة الإسلام موصولة كلها بأصل هذا الكون، وبالناموس الذي يحكمه، والذي يصله كله بالله.. بما فيه الإنسان وما يصدر عنه من نشاط. فإذا انفصل الإنسان بحياته عن المحور الرئيسي الذي يربطه ويربط الكون، فإنه يصبح لقي ضائعاً لا وزن له ولا قيمة، ولا تقدير لعمله ولا حساب. بل لا وجود لهذا العمل ولا بقاء." [في ظلال القرآن – تفسير سورة الفرقان]

***

عارض الجهل

قال تعالى:

﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء (15)]

﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء (165)]

﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف (156)]

﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر (7)]

وفي الحديث الشريف: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا  وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ" [صحيح البخاري/6000]

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم - سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: " أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ " قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ: " لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا " [صحيح البخاري/ 5999]

ومن مدلول الآيات، ومحاولة مس شيء من رحمة الله.. يتبين للناظرين أن العقاب والعذاب متعلق ببيان الحُجة وقيامها، ورفع الجهل، وسطوع البرهان.. وإنَّ رحمة الله شاملة واسعة – بإذنه ومشيئته – مَن غابت عنه الحُجة، واستبد به "الجهل البريء"، أو كان له عند الله عذر.. والتفرقة بين الجهل والتكذيب، والجهل والتجبر والعناد، والجهل والاستكبار والاستنكاف، والجهل والسخرية، والجهل والإعراض، والجهل والهوى، والجهل واللهو والاستهزاء، والجهل والحسد والبغض والغل، والجهل والعلو والإفساد في الأرض، والجهل والتجبر، والجهل والاستهتار، والجهل والعداوة للحق، والجهل والتولي عن الحق والكفر... إلخ هي عند الله - سبحانه - الذي يعلم السر وأخفى. والذي يضع الموازين: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًاۖ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء (47)]

وفي ذلك يقول العلاّمة أبو حامد الغزالي – رحمه الله - :"إن الرحمة [يقصد سعة رحمة الله تعالى] تشمل كثيراً من الأمم السالفة، وإن كان أكثرهم يُعَرضون على النار، إما عرضة خفيفة حتى في لحظة أو في ساعة، وإما في مدَّة حتى يُطلق عليهم بعث النار، بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة – إن شاء الله تعالى – أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمد – صلى الله عليه وسلم – أصلاً فهم معذرون، وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون، وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد – صلى الله عليه وسلم – ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن كذاباً ملبساً اسمه محمد ادّعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له: المقفع تحدى بالنبوة كاذباً، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه [لعله يقصد: مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه]، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب" [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 84]

على أنه من جانب آخر: يجب أن نُفرق بين "محاولة الفهم" للعلاج، و"محاولة التبرير" للهروب من المسؤولية.. فالمدرسة التحليلية النفسية الغربية – في بعض حالاتها على سبيل المثال – جعلت من التحليل النفسي سبيلاً لتبرير كل جريمة ارتكبها المجرمون! وراحت تعتذر لهم من كل سبيل! ولذا يجب عندما نطلب سبيل الإصلاح والعلاج والدعوة الحسنة أن نمضي في تحليل المفاهيم والأسباب، حتى نمضي في أجمل السبل وأنجعها، وعندما نطلب سبيل الحكم والقضاء الدنيوي يجب يكون هناك الردع  لكل منتهك لحق، ونحفظ حدود الحق ومعالمه.. وإلا لم تعد هناك جريمة في هذه الحياة.

"ولا يعقل أن يكون من لم تبلغهم الدعوة بشرطها أو مطلقا ناجين على سواء، وأن يكونوا كلهم في الجنة كأتباع الرسل في الإيمان الصحيح والعمل الصالح. إذ لو صح هذا لكان بعث الرسل شرا من عدمه بالنسبة إلى أكثر الناس. والمعقول الموافق للنصوص أن الله - تعالى - يحاسب هؤلاء الذين لم تبلغهم دعوة ما بحسب ما عقلوا واعتقدوا من الحق والخير ومقابلهما" [تفسير المنار، ج1، ص 277]

"فكما دلت الآيات على أن الله - تعالى - لا يؤاخذ الناس بمخالفة ما جاءت به الرسل إلا إذا بلغتهم دعوتهم، وقامت عليهم حجتهم؛ لأن هذا النوع من المؤاخذة وضعي لا يتحقق إلا بتحقق الوضع الذي يترتب هو عليه. كذلك تدل آيات أخرى على الحساب والجزاء العام بالقسط على حسب تأثير الأعمال في النفوس، فمن دسى نفسه وأبسلها، لا يمكن أن يكون عند الله كمن زكى نفسه وأسلمها، ولا يمكن أن يقول عاقل: إن نفوس من لم تبلغهم الدعوة الصحيحة تكون سواء مهما اختلفت عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، فإن هذا مخالف لحكم العقل وإدراك الحس، إذ لم توجد ولا توجد أمة إلا وفيها الصالحون والطالحون والأبرار والفجار، والذين يؤثرون ما يرونه من الهدى على داعية الشهوة والهوى والعكس . فهل يكون الفريقان عند الحكم العدل سواء؟  ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ [المائدة (100)] ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود (24)] " [تفسير المنار، ج6، ص 60]

***

المحكمة الإلهية

لا يَحكم الله على أحد قبل أن يقام له محكمة لها شهود وضمانات العادلة.. وضمانات العدالة هو ما وصف الله به نفسه من العدل المطلق، والحق المطلق.. ولا يظلم ربك أحدا.

وأما الشهود ففيها:

﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء (14)]

﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النّور (24، 25)]

﴿حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَاۖ قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [فصّلت (20، 21)]

﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ﴾ [القيامة (14، 15)]

﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ٤١ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ٤٢﴾ [النجم]

﴿وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ١١٦ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ١١٧ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ١١٨﴾ [المائدة]

بل وسيُنادى عن الآلهة المزعومة:

﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ ٧٣ مِن دُونِ اللَّـهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا﴾ [غافر]

﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [القصص (62)]

وأما ما اختص الله – جل جلاله - به نفسه ولم يطلعه على ملك مقرب أو نبي مرسل هو: نوايا القلوب وما حصل في الصدور.. فإن ربهم بهم يومئذ لخبير.

فالحكم على كل إنسان في هذه المحكمة الإلهية يتطلب هذه الدقة والعناية الإلهية التي ستحدد مصيره فليس فيها استئناف.

وليست كثرة الأموال والأولاد والعلوم هي التي تقرب الإنسان إلى الله، كما جاء في الآيات الكريمات:

﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ (37)]

وبيّنت الآيات حال قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِيۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًاۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص (78)]

فالذي يُقرب الإنسان إلى الله، هو توجه الإنسان إلى الله ابتغاء مرضاة الله، والإيمان به، والعمل الصالح رجاء رضاه، وطاعته، وعبوديته.. كما قال تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ١٧ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ١٨ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ١٩ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ٢٠ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ٢١ [الليل]

 

***

وتكونوا شهداء على الناس

قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة (143)]

وحتى لا تكون الأمور مُتميعة لا ضباط لها.. فالمسلمون شهداء على أفعال أنفسهم وعلى أفعال الناس – لا على النوايا ولا على المصير الأخروي - ويزنون ذلك بميزان الشرع الحنيف.. فهم شهداء على أفعال البشر... والله على كل شيء شهيد.. شهيد على الأفعال والنوايا والخفايا وهو وحده المختص بالحكم.

ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والفحشاء والبغي.. والاعتراض على الباطل ومجاهدة الشرك ومقاومة الظلم.. ومنع الإفساد في الأرض. والأخذ على يد كل متكبر عنيد جبار. ولا يكون المسلم في تردد في الحكم على الباطل كما وصفه وحدد ميزانه القرآن. أما الأمور التي اختص الله - جل جلاله - نفس فالمسلم لا يُقحم نفسه فيها ويتأدب أمام مقام الله سبحانه.

وهذه الشهادة على الناس لا تعني الاستطالة والتجبر في الأرض.. بل تعني الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والقيام لله بالحق والشهادة بالقسط.. والقيام بالقسط والشهادة لله، ورجاء الرحمة والخير والفلاح للإنسانية كلها.

وذلك حتى لا نقع في الغلو في الحكم على الناس.. ولا في تمييع حقائق الدين.

ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في القمة في الحرص على الناس، وعلى حصول الخير والفلاح لهم.. وكان يحزن غاية الحزن، ويتأسف أشد الأسف لإعراض الناس عن الخير.. واختيارهم العناد والكبر.

ولقد بيّن القرآن الكريم حال الرسول الكريم في ذلك.. فقال تعالى:

﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف (6)] باخع أي: مُهْلِكٌ نَفْسَكَ.

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًاۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر (8)]

﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء (3)]

فيكون جواب سؤال: ما مصير فلان المشرك أو الملحد الأخروي؟ هو:

أخبرنا القرآن الكريم: إن أحوال الشرك والكفر والإلحاد مصيرها النار - والعياذ بالله - بنصوص قاطعة مُحكمة قطعية الدلالة.

ومصير فلان هذا بيد الله وحده، وليس من اختصاصنا.. وقد فقدنا نفساً كنا نتمنى أن تستجيب  إلى الخير وإلى طريق الجنة.

وإنا عملنا: أن نؤمن بالله.. ونسارع في الخيرات، ونتسابق في الطاعات.. ونتهافت في دعوة كل إنسان إلى الله ودينه الحق.

***

خير البرية

وأتم إنسان إنسانية ذاك الذي وصفته الآية الكريمة:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصّلت (33)]

﴿وَالْعَصْـرِ ١ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ٢ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ٣﴾ [العصر]

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة (7)]

فكان (الإيمان والعمل الصالح) هما تمام الإنسانية.. وأهله هم خير البرية.

والإيمان بلا عمل صالح.. إيمان مكذوب، وقول منقوص.

والعمل الصالح بلا إيمان.. عمل مبتور، وهباء منثور.

﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران (53)]

 

***