قائمة المدونة محتويات المدونة

03‏/01‏/2021

بين منهجين

قضية الإيمان والكفر.. من جانبها "التربوي السياسي الرسالي للأمة المسلمة" وجانبها "الفقهي القضائي الحُكمي".

تناول قضية الإيمان من جانبها التربوي السياسي الحركي الرسالي للأمة المسلمة يختلف كلياً عن التناول الفقهي القضائي..

 

فالذي يتناول قضية الإيمان من جانبها "الاجتماعي السياسي" هو ينظر في أحوال الأمة، ويراها انحرفت عن الدور الذي أخرجها الله من أجله، ويراها غرقت في "الجاهلية"، وتخلت عن حمل الرسالة، وصارت في حالة من الغثائية، والتفكك، والابتعاد عن روح الإسلام، ومنهج الإسلام، وشريعة الإسلام.. هذه "المعالجة والتحليل والتشخيص"، هدفها ليس هو "القضاء والحكم".. إنما هدفها: بعث روح الإسلام من جديد في النفوس، والعودة إلى الرشد، والخروج من التيه، والتحرر من العبودية للأعداء، وكسر الآصار والأغلال، والخروج من التبعية إلى الريادة، وابتاع سبيل الرشاد..

فهو هدف "اجتماعي سياسي رسالي" يهدف إلى الدفاع عن الأمة، ودعوة الأمة إلى العودة إلى سبيل الرشاد، بعد الافتتان بالجاهلية، وبعد نجاح مخططات الأعداء في إبعادها عن دينها ورسالتها ودورها.. هو: كشف لمخططات الأعداء، وبيان دورهم في إضعاف ومحاربة الأمة المسلمة، هو: تطهير الأمة من الفساد والطغيان.. وإدخال الأمة معركة التدافع براية الإسلام وحده..

ولا يمكن للأمة أن تؤدي دورها، وتحقق رسالتها، وتدافع عن نفسها، وعن دينها.. وهي تمضي في سبيل غير سبيله، وتتفرق في سبل شتى، ولذا تكون الدعوة إلى العودة إلى الإيمان من جديد، والتزام مقتضيات هذا الإيمان، وتجديد هذا الإيمان في القلوب، وفي الفكر، والسلوك، وفي الحركة، والاجتماع والسياسة.

هذه المنهجية ليس هدفها (الحكم) على الأمة المسلمة، وليس هدفها (تكفير) الأمة المسلمة، وليس هدفها (قتال) الأمة المسلمة ـ والعياذ بالله ـ إنما هدفها (إحياء) الأمة المسلمة، و(إنقاذ) الأمة المسلمة، و(عز وسيادة) الأمة المسلمة.

***

أما تناول قضية الإيمان من جانبها الفقهي القضائي الحُكمي:

فلها جانبان:

الأول: عندما ينظر أهل الجانب الفقهي من يتناول القضية من جانبها "الاجتماعي السياسي" ويتحدث عن وقوع الأمة في أحوال الجاهلية، واتباعها سنن أهل الكتاب، فإنه ينتفض ليخرج أسلحته الفقهية، متحدثاً عن شروط الإيمان والكفر، وثبوت الإيمان بلفظ الشهادتين، وينقل أقوال الأئمة والفقهاء، وعقيدة أهل السنة والجماعة، ويتناول أحوال أهل البدع من "الخوارج" الذين يُكفرون المسلمين، ويدخلونهم في الجدال الكبير بين: الخوارج والمعتزلة والمرجئة والسنة.. وعواض الأهلية، والشروط والموانع، والعذر بالجهل، ومرتكب الكبيرة... إلخ حيث نقولات لا تنتهي، وجدل لا ينقطع؛ وهذا خطأ منهجي كبير! وليس هو موطن النزاع..

لأن أهل الطريق الأول "عودة الإسلام وشريعته إلى الحياة، وتحرير الأمة من أعدائها" عندما يتناول أحوال الأمة لا يهدف بالأساس إلى الحكم عليها حكماً فقهياً قضائياً بالردة والتكفير مثلاً! وإنما يهدف إلى إنقاذها، وإحيائها، وريادتها.. فهو إذن شعور الحب، والتضحية، والاهتمام، والحزن، والغيرة، والانتساب لهذا الدين، وهذه الأمة..

ولذا، فلا يوجد معهم خلاف فقهي أو إيماني في قضية الحكم على الناس، فالجميع يشهد بالإسلام لمن ينتسب للإسلام، لذا فليس هناك من خلاف يتطلب الرد من أهل الفقه والقضاء، وليس الحديث عن ما يثبت به الإسلام من عدمه، بل الحديث عن نصرة الدين، والدفاع عن الأمة.

الثاني: إنَّ الطغاة والبغاة والمنافقين يزعجهم الحديث عن نصرة الدين، والدفاع عن الأمة المسلمة، لأنهم يعيشون على أنقاضها، ويُخضعونها لأعدائها، ويقتاتون من دمائها.. فإذا ما سمعوا أصوات الحق تعلو من هنا وهناك: انهضي يا أمتي، عودي إلى دينك ورسالتك وشريعتك، التي هي شريعة الله، ورسالة الله، عودي إلى التزام سنة نبيك ـ صلى الله عليه وسلم ـ احملي راية الإسلام، أنتِ الأمة الشاهدة والمُعلمة.. تعلو أصوات الأئمة المضلين ـ التابعين للطغاة ـ: انظروا إلى الخوارج الذين يُكفرون الأمة! انظروا إلى أهل البدع، ويُطلقون ألسنتهم بتبديع وتجهيل من يريد للأمة العزة والنصر والريادة، ويُطلق الطغاة كلابهم ينهشون فيهم بالقتل والتعذيب والأسر والمحاربة!

دعاة.. قلوبهم باردة ـ إن لم تكن ميتة ـ لا تتألم لقضايا الأمة المصيرية، ولا تسعى لنهضة الأمة، ولا تتحرك بهذا الدين، وتدور مع الطغاة حيث داروا.. يغضبون فقط لغضبهم، ويَسكنون لسكونهم، عزلوا الإسلام عن الحياة والقضايا العامة.. وجعلوه جدلاً فقهياً، وتطاولاً على أهل الغيرة على الدين والأمة.. فهل هؤلاء دعاة إلى الجنة؟ أم دعاة على أبواب جهنم؟!

صحيح إنَّ هناك قلة من المتحمسين.. اشتعلت قلوبهم بالحزن والقهر على أحوال الأمة، وشاهدوا صوراً من الجحود، والانحراف، أدت بهم إلى الخروج عن جادة الصواب، وراحوا معها يُكفرون الأمة، ودخلوا في معارك شتى مع أهل الفقه والقضاء، وانتصر فيها أهل الفقه والقضاء لأنهم أقرب إلى الاعتدال في مسألة الإيمان والكفر، وأكثر انضباطاً، وأوفر وأصح أدلة.. ولكن رغم صحة موفقهم، وخطأ المتحمسين! إلا أن المتحمسين كانوا أكثر غيرة على الدين، وأكثر انفعالاً بقضاياه، وأكثر إخلاصاً وتضحية، وأشد اشتباكاً مع الباطل والواقع بهدف تغييره للأفضل، وإن أخطأوا الفهم، وتعثروا في الطريق، واستغلهم الأعداء!

والأئمة المضلون ـ سواء من الطغاة أو من علماء السلطان ـ يستغلون أخطاء المتحمسين الفكرية كـ (الغلو في التكفير) والحركية كـ (القتال بدون شرعية وخطة سياسية) يستغلونها سبيلاً للقضاء على التيار الذي يريد نصرة الدين والدفاع عن الأمة، و يستغلونها تشويهاً له، وطعناً فيه.

***

والذي لا يُبين الفرق بين المنهجين.. فإنه يرتكب جرماً شنيعاً، إنه كالذي يمنع الدواء عن مريض على شفا الموت! فالذي يحاول أن يستنهض أمته، ويبث فيها روح الإسلام من جديد، ويحاول تغيير القيم والموازين الخاطئة، والأفكار والسلوكيات الباطلة.. ويحرك المسلمين نحو كتاب ربهم، وسنة نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحاول خلق المسؤولية في نفس كل مسلم، ودوره الفردي والاجتماعي في إيقاظ الأمة، ومحاربة أعدائها، وتحريرها من أسر الاستبداد والطغيان، ورد عزتها وكرامتها وسيادتها وريادتها.. الذي يحاول ذلك، فيأتيه من يريد تَسكين الأمة، واستمرار الخِدر، ويُفسد عليه المحاولة، ويُأمنها من مكر وحرب الطغاة والفسدة، ويُطمأنها من مكر وحرب أعدائها التاريخيين من أهل الكتاب والمشركين.. وينزع عن الأمة روح المقاومة والجهاد والعزة والريادة! ويقول للجميع: اطمأنوا، فإيمانكم كامل صحيح، والجنة تتزين لكم، وأمتكم بخير، وحُكامكم على خطى الراشدين!! ودعوا عنكم الخوارج المنحرفين.. فإنه بذلك يهدم الدين في نفوس الناس، ويقيم صروح الطغيان في كل مكان، ويُميت الأمة المسلمة، ويُسلمها كالشاة المُخدرة إلى أعدائها لتُذبح في صمت.. حتى دون أن تصرخ أو تستغيث!!

إذن.. عودة الإسلام للحياة مرة أخرى، وأداء دوره الرسالي والحضاري، والاجتماعي السياسي، واستنهاض الأمة المسلمة، وتحريرها من أعدائها، وإشعال جذوة الإيمان في القلوب، والاستنارة بنور الكتاب، والاستمساك به، والاهتداء بهدي الأنبياء.. هو الغاية التي نتحرك من أجلها، والمجال الذي نعمل فيه، وليس هو قضية إجراء الأحكام على الناس، ولا الدخول في القضايا الفقهية القانونية حول ثبوت الإسلام لأهل الإسلام.. ولا ينخدع أحد، ولا ينجر إلى الدخول في منطقة الجدل الفقهي والقضائي حول هذا الأمر، فهذا خروج عن "نطاق عملنا" وسحبنا إلى معارك جانبية يحبها الطغاة! ويجيدها فقهائهم.

***