قائمة المدونة محتويات المدونة

20‏/01‏/2021

حكايتي مع صفوت الشريف

بداية حتى لا يظن القارئ شيئاً لا أقصده، فإنني لم أقابل هذا الرجل يوماً في حياتي، وليس لي أي مظلمة شخصية معه، وعلاقتي به علاقة كل مصري تأذى من نشره الفساد والفواحش والظلم في بلادي، ولكن حكايتي معه "حكاية فكر" كان هو ـ وأمثاله ـ أحد محركاته، وبدايته.

 

في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، من سنوات بعيدة.. بعيدة جداً ربما أكثر من عشرين عاما، كانت صحبة صالحة طيبة كريمة مُحبة لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تجتمع في هذه الليلة المباركة لصلاة القيام، وفي الاستراحة بين الصلوات، كانت تُناقش بعض المسائل، والخواطر، كنت الأصغر سناً بين الحضور، وجاء الحديث عن "صفوت الشريف" لا أتذكر ماذا كانت المناسبة؟ إلا أن تاريخ هذا الرجل ملئان بالظلم والفساد وغيره مما هو معلوم لأهل بلادي.. فحكى البعض عندما جاء ذكر هذا الرجل بالسوء، إن البعض يقول عنه: "هو رجل مسلم، فلا يجوز أن يغتابه أحداً"، فصحت قائلاً: "هذا إذا كان بالفعل رجل مسلم"! فتعجب البعض من ردة فعلي.. وانتهى الموقف على هذا النحو، ثم لاحقاً حدثني البعض عن "التكفير وشروطه"... إلخ من هذه الأمور.

لقد كنت حينها ـ ومازلت ـ أفهم الإسلام على أنه دين الحق والعدل والخير والجمال، دين الانتصار للمظلوم، والأخذ على يد الظالم.. وفي نفس الوقت لا أستطيع ولا أفقه مسائل التكفير هذه، ولا كيف نتعامل مع هؤلاء الظلمة الفجرة؟ هل نحكم بإسلامهم فيكون لهم حقوق المسلمين من حفظ الغيبة، وإرخاء الستر، والعفو؟ أم نحكم بكفرهم فيكونون أهل ردة، لا يُصلى عليهم، ولا يرثون، وتُطَلق أزواجهم... إلخ؟

كنت ـ ومازلت ـ اتهم الاتجاه الذي يقول عن هذا الرجل: "إنه رجل مسلم لا يجوز اغتيابه" بأنهم إحدى أمرين: إما أهل غفلة وسفه وسذاجة ودروشة، ولا يحق لهم الحديث في الشأن العام. وإما أهل دجل يعلمون حال الرجل، ويتخذون من أخلاق الإسلام درعاً للطغاة والفسقة والفجرة، وهم شركاء لهم.

ولم يكن الأمر بطبيعة الحال متعلقاً بشخص هذا الرجل.. إنما هو مجرد مثال، في منظومة متكاملة من الفساد والظلم والعدوان على الدين وعلى الأمة، فكيف يكون التعاطي مع هذه المنظومة ورجالها؟

لقد وجدت نفسي بين حالة ثنائية:

إما الشهادة لهم بالإسلام، وإمضاء حقوق المسلمين لهم.. خاصة وإننا ـ بعض أهل السنة ـ لا نقيم كبير شأن لمسألة الكبائر! بل نعتبر من أصل عقيدتنا أن "مرتكب الكبيرة غير مخلد في النار"، وليس ذلك فحسب بل نؤكده بالإيمان بشفاعة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في أهل الكبائر خاصة! فحتى لو افترضنا رجال هذه المنظومة على ما قلناه فيهم من الظلم والفساد والعدوان، فأقصى ما يمكن اتهامهم به أنهم أهل كبائر.. وفي النهاية مغفور لهم! ثم نُحصن كل هذه الكبائر، بأن ولايتهم علينا ولاية شرعية لا يجوز الخروج عليهم بأي حال من الأحوال! ونتحدث هنا عن "الأثر السياسي" لهذا الفهم.. لا عن توبة المذنبين، والتردد في هذا الاعتقاد ينقلك إلى خانة "الخوارج والمعتزلة" في التو واللحظة!

وإما الشهادة عليهم بالكفر، واعتبارهم أهل ردة، وما يتبعه من أحكام ولوازم، وبالتبع سيظهر سؤال: ماذا عن من يرفض الحكم بردتهم؟ ما حاله، وكيف يتقبل عموم المسلمين الحكم بالردة على منظومة كاملة من الحكم، ينضوي تحتها الآلاف والملايين من الناس؟  وهذه الشهادة تجعلنا أمام أمرين: إننا ملزمون بإثباتات وأدلة على كفرهم، لأن الحكم بكفرهم ليس بالأمر الهين، كما فعل البعض عندما كتب أدلة كفر الدولة الفلانية! وعند مناقشة هذه الأدلة، أو بيان ضعفها، أو عوارها، أو اتهام أصحابها بأنهم على فكر الخوارج.. تسقط حجتهم، ومن ثم ننتقل إلى الاحتمال الأول وهو "الشهادة لهم بالإسلام"! وإقرار شرعيتهم في الحكم! إضافة إلى ذلك هو شعور الاغتراب عن المجتمع حيال الحكم بكفرهم، إذ أن الحكم بكفرهم سيتبعه لوازم شتى في مسألة المشاركة السياسية، والاجتماعية، والموالاة... إلخ. واللازم الثاني: الخروج المسلح عليهم، وقتلهم قتال أهل الردة.

قال البعض.. هناك حل وسط وهو الفصل بين "فعل الكفر"، وبين "فاعل الكفر"، أي: الحكم على الأفعال فقط، لا على الأشخاص أو ما يسمونه "تكفير المُعَين" بمعنى: عدم تكفير الشخص بعينه..

ولكن الاتجاه الذي يمضي في الحكم عليهم بالكفر لم يقنع بهذا الحل الوسط، ويظل "الحديث التكفيري" قائماً حول متى سنحكم على هذا المُعين، ومتى نعتبر أو لا نعتبر "عوارض الأهلية"؟ وماذا عن قتال "الطوائف الممتنعة" والحكم عليها بالردة؟

وبدأ الحكم بكفرهم يأخذ منحى "أيديولوجياً" بمعنى أصبح الحكم عليهم بالكفر أصلاً من أصول العقيدة! ومن لم يحكم بكفرهم فهو كافر! وفي أفضل وأحسن أحواله "مرجيء" مبتدع!

نتج عن هذه الحالة الثنائية حركتين سياسيتين:

الحركة الأولى: التي شهدت لهم بالإسلام

تبنت هذه الحركة الركون إلى هذه المنظومة، والالتصاق بها، مضت في طريق "العمل التوافقي الترقيعي"، وأصبحت جزءاً من النظام القائم، فلا هي تفكر في الثورة عليه، ولا هي بطبيعة الحال تفكر في مقاومته.. حتى وإن جاءتها الفرصة تحت قدميها.. لأنها قررت منذ البداية أن تقوم بعملية التغيير بنفس أدوات النظام، ومن خلال منظومته الدستورية والقانونية.. وبالطبع النظام لا يسمح لها بذلك، إنما يقوم بعملية توظيفها فقط، واستخدامها عندما يحتاج، ولا يعتبرها نداً له، وعندما يرى منها أي تهديد له ـ حتى ولو على المستوى الفكري ـ فلا يتردد لحظة في سحقها، وكثيراً ما دافعت هذه الحركة عن هذه الأنظمة الفاسدة، وبررت جرائمها.

فلما قامت الثورة في بلادي ـ وحصل ما حصل من الانقلاب ـ كان بطبيعة هذه الاتجاه أن يمضي في طريق "السلمية"، وليس له طريق غيره.. ومحاولة جره إلى غير ذلك، تعتبر محاولة مستحيلة، ومحاولة القفز على السلمية إلى غيرها من الوسائل تعتبر أيضاً خروجاً على نهجه العام ـ كما صرحوا بذلك نصاً ـ ولذلك فشلوا في التعاطي مع العمل الثوري، وقال بعض الصادقين عند لحظة من وخز الضمير.. لقد أخطأنا عندما اعتمدنا النهج الإصلاحي ـ على حد تعبيره ـ وكان يجب التزام النهج الثوري، ولكن هذا الرأي لا قيمة له، ولا اعتبار.. لأنه لا يُعبر عن النهج العام لهذا الفكر، وانتهى هذا الفكر إلى مرحلة التماهي مع هذه الأنظمة إلى حد تبرير التطبيع مع الصهاينة، ولا عجب في ذلك.. لأنه منذ البداية قد أصبح جزءاً من النظام، ومتماهياً معه، ويبحث عن نصيبه منه، لا عن مواجهة ومقاومة، وإذا فكر في المقاومة بصورة مفاجئة فإنه يفشل، لأنه يحتاج إلى عملية بناء فكري جديدة، لن يصلح معها الترقيع ولا الازدواجية؛ ولذا انتهى إلى هذا الفشل.

الحركة الثانية: التي شهدت عليهم بالكفر

تبنت هذه الحركة مفاصلة هذه المنظومة الفاسدة، مفاصلة تامة باعتبار أنهم أهل كفر وردة.. وبذلت جهداً عظيماً في محاولة إثبات تهمة الردة عليهم، وجمعت بين التأصيل الفقهي لكفرهم وردتهم، وبين التأصيل الواقعي لأحوال الطغاة، وكانت بطبيعة الحال أكثر وعياً بطبيعة هذه الأنظمة.. وقررت هذه الحركة مواجهة هذه الأنظمة مواجهة مسلحة تحت عنوان "الجهاد في سبيل الله".. ومضت محاولة قتل بعض أفراد هذه المنظومة، وما يمكن أن تطاله يديها منهم، حتى ولو كانوا أفراداً هامشين لا قيمة سياسية من قتل الآلاف منهم! واتجهوا أيضاً إلى قتال السائحين الأجانب لضرب المنظومة الاقتصادية ظناً منهم إن هذا الأمر يمكن أن يؤثر سياسياً على النظام، ومن ثم يُسهل عملية سقوطه، وبالطبع كان هذا الأمر ساذجاً ـ وهو مثل ضربات الحادي عشر من سبتمبر ـ ولكن هذه الحركة كانت تمثل خطورة بالغة على النظام لأن استخدام العنف ضد النظام يعتبره الجميع "الخطيئة الكبرى" التي لا تُغتفر، ويجب أن يظل "العنف المشروع" فقط بيد النظام، ولذا حضرت كافة أجهزة الاستخبارات الكبرى والأمريكية خاصة لمساعدة هذه الأنظمة ـ التي تعمل لهم بالوكالة ـ في مواجهة هذا الخطر، ومحاولة تحييده، وربما استغلاله فيما بعد!

وانقسمت هذه الحركة من ناحية التكفير إلى قسمين:

الأول: حَكم بكفر المنظومة الحاكمة فقط، دون عموم الناس.. وظهر مصطلح "العذر بالجهل"، و"موانع التكفير".

والثاني: حَكم بكفر المنظومة الحاكمة، ومن يعاونها، ويؤيدها، ومن يشارك في الانتخابات، ومن يرشح نفسه من أصحاب الحركة الأولى، ومن لا يكفر هؤلاء جميعاً يصبح كافراً مثلهم، فلم يتبقَ من الأمة المسلمة مسلمين إلا جماعتهم! وظهرت مصطلحات: "من لم يكفر الكافر فهو كافر"، و"التكفير باللوازم والمألات"، و"التكفير بالتسلسل"، و"عدم العذر بالجهل في التوحيد"، وذكر الشرك والردة في كل لفظة، وخاطرة!

حاولت الأنظمة والأجهزة الاستخبارية استغلال هذه الحالة من السيولة والتفرق في ضرب الجميع ببعضهم البعض، ضرب الاتجاه الأول بالاتجاه الثاني وبالعكس، وضرب الاتجاه الثاني بقسميه.. لأن القسم الثاني من الاتجاه الثاني، كفّر القسم الأول منه! وأصبحت هذه حالة مثالية للقضاء على الجميع..

وأصبح هذا الجهاد بشقيه جهاداً نخبوياً، لا يمضِ إليه إلا أهل التشدد، واليائسين من التغيير السياسي والسلمي، ولم يكن له علاقة بموضوع الفقر، وقلة التعليم.. إنما كان محركه العاطفة التي تجد مظالم المسلمين في كل مكان، والطغاة والفجرة يتلذذون بتدمير بلادنا، ولا يشبعون من سرقتها وإفسادها! وفشل التجربة السياسية في إصلاح أي شيء، أو دفع أي ظلم.

وكانت محاولة إقناع هذا الاتجاه بشقيه إلى ضرورة وجود "خطة سياسية" لحركتهم، كمحاولة إقناع الاتجاه الأول بضرورة وجود "خطة ثورية" لحركتهم.. وفي النهاية فشل الجميع!!

***

كنتُ أنا أتأرجح بين جميع هذه الأفكار، وأتمزق فيما بينها، واقتنع إلى حين باتجاه معين، ثم يظهر فشله، وتخطبه، فاذهب للآخر لأجد عنده ـ بعد حين ـ نفس الأمراض والمشكلات! وسمحت نشأتي ـ بفضل الله ـ بعدم التعصب لاتجاه بعينه بالمراجعة.. مما يسهل عليّ رؤية أخطائه، ويسهل عليّ أيضاً ـ وبفضل الله ـ تغييرها في نفسي، فلم أترب تربية "أيديولوجية" لاتجاه بعينه في الغالب.. ولكن رغم ذلك.. إن محاولة التغيير لم تكن سهلة على الإطلاق في نفسي، وتحتاج إلى صبر طويل، ومثابرة، ومطالعة مستمرة، ومراجعة دائمة، وإذا كانت تحتاج كل ذلك، وأنا لم أنشأ نشأة حزبية، فما بالنا بمن ينشأ منذ نعومة أظفاره نشأة أيديولوجية متعصبة؟! وهذا الذي يفسر الانقلابات النفسية والفكرية التي تحصل عند البعض عندما يكفر بالأيديولوجيا التي تربى عليها..

حاولت مراجعة بعض الأفكار حول السؤال الذي بدأت به هذه الرحلة: "هل رجال هذه المنظومة الفاسدة من أهل الإسلام أم من أهل الكفر"؟

قرأت الكثير.. والكثير، وبدأت تتكون لدي قناعات بشكل متتالي مع كل قراءة، وكنت منفتحاً على القراءة للجميع، واختبار حجج الجميع فقهياً وسياسياً..

***

لقد وقعنا في الفخ!!

إن هذه الثنائية كانت فخاً كبيراً، ومضيعة لجهود المخلصين على مدار التاريخ! وكانت هذه الثنائية مفرق طريق، ووجدت أن كلاهما كان خطئاً كبيرا، رغم حجم التضحيات الهائلة التي قدموها بكل فداء وإخلاص!

وجدت أنه لا يجوز اعتبار أفراد هذه المنظومة يُمثلون الإسلام والمسلمين بحال، فهم ساقطو الشرعية ببغيهم وعدوانهم على الدين وعلى الأمة المسلمة، ولكنهم في ذات الوقت وبحكم انتسابهم إلى الإسلام تجري عليهم أحكام الإسلام.. وإن الصواب هو الطريق الوسط بين هذين الاتجاهين..

يجب مقاومتهم بكل وسيلة ممكنة ـ دون تكفيرهم ـ سواء "المقاومة السياسية" التي تحاول اختراق هذه المنظومة من الداخل لتقويضها، والسيطرة عليها، وفهم مكوناتها فهماً يساعد في القضاء عليها، واستئصال هذا الورم السرطاني من جسد الأمة، دون قتل الأمة نفسها، وتكوين حالة سياسية اجتماعية لا يمكن تجاوزها أو استئصالها أو "المقاومة الثورية الجهادية" على أن يصبح هذا الجهاد جهاداً شعبياً، يشارك فيه الجميع حتى شاربي الخمر، وأهل المعاصي.. ومواجهتهم على إنهم "فئة باغية" لا "طوائف ردة"، ولا مفر من الجمع بين "المقاومة السياسية" و"المقاومة الثورية الجهادية"..

وصرت أدفع عن أفراد هذه المنظومة الفاسدة "تهمة التكفير" ومحاولة إغلاق باب الهوة السحيقة التي يمكن أن تضيع جهودنا إن دخلنا فيها.. وصرت أواجه من يحاول الدفاع عن هذه المنظومة الطاغية المنافقة، أو يحاول أن يبرر جرائمها، أو يعطيها شرعية وولاية علينا، أو يشاركها هذا الطغيان والفساد باسم التوافق والإصلاح!

وحاولت التأصيل لهذا الفهم الجديد في بحث: "الفئة الباغية" الذي يعتبر مرحلة الاستقرار الفكري لدي في هذا الأمر، وكان لا بد معه مراجعة "حروب الردة" في عهد الخليفة الراشد الصديق رضي الله عنه، و"حروب البغاة" في عهد الخليفة الراشد عليّ رضي الله عنه، والضلالات الفكرية التاريخية والمعاصرة في الفكر السياسي الإسلامي التي رصدتها في كتاب: "أمراض الاستبداد ـ الجزء الثالثوغيرها من المحاولات.. كتكاب: "انحرافات في الحركة الإسلامية".

وجدت أن التربية الفكرية ليست ترفاً، ولا نافلة، بل هي الأساس الذي تنطلق منه الحركة الصحيحة، وإن أي انحراف في هذه التربية مهما كان بسيطاً، لابد وأن يؤدي في النهاية إلى الفشل.

***