مِن الأمور الجديرة بالانتباه، ولفت وعي أبنائنا إليها، ما يجيء في علوم: الأنثروبولوجيا، والتاريخ، والأدب، والفلسفة.. نحو نشأة الإنسان، وتطور الأديان.. وما كان قبل الديانات الإبراهيمية من عقائد وأفكار وأساطير.
فجميع هذه العلوم الغربية قائمة على فكر "مادي إلحادي" يعتبر الأديان كلها مجرد أساطير، وللأسف يُقدّم بعض الشباب العربي المسلم! برامج علمية تحوي موضوعات شتى في: الفلسفة والأدب والفكر والتاريخ والعلوم الإنسانية والطبيعية مرتكزاً ومنبهراً بالمفكرين والكُتاب الغربيين، باعتبارهم قِبلة، ووجهة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها..
ولكنهم لا يُصرحون بشيء نحو الإسلام خشية ردة الفعل ـ أو الجهل بخطورة ما يُقدمونه! ـ ولكن مقتضى كلامهم يُفهم منه أن الإسلام مجرد تطور عن الأساطير السابقة، ومقتبس منها في بعض أجزائه!
ويتم مساواة الإسلام بغيره من الأديان؛ ومن ثم توهينه في نفوس الشباب، وإخضاعه للمعايير المادية الإلحادية عند دراسته، والنظر فيه! بزعم الموضوعية العلمية!
هذا الأمر يتكرر من المؤسسات اليسارية "الناعمة" في أسلوبها، وطرحها، دون أن تصدم المشاهد بالتصريح، لكنها تكتفي بالتلميح، ووضع المادة في قالب: علمي، شيق، مثير، جذاب، مضحك أحياناً، مدعوماً بالأدلة المرجعية العلمية، والتي تكون كلها غربية.. وتقديس هذا العلم، وتقديس رجاله، وكتبه، باعتبار العلم "إله" يحكم على "الدين". في ثنائية (العلم، الدين) والتي ينتصر فيها "العلم" في النهاية لأنه ـ في نظرهم ـ محايد، متجرد، موضوعي، دقيق، عقلاني، إنساني!
واعتبار الدين مجرد سردية اجتماعية، تطورية.. أملتها الظروف الاقتصادية، والاجتماعية... إلخ.
وأرى هذه المواد أخطر من مقالات اليسار في السياسة والاقتصاد وأسلوبه العقيم فيها، ومصطلحاته التي يعتبرها بعض الشباب مُعقدة، ومُثيرة للسخرية أحياناً، فالمواد العلمية الجديدة شيقة، سهلة، قريبة، عصرية!
فوجب الانتباه لما يُقدم لأبنائنا، والذي يأتي ترويجه في قلب شبابي احترافي خفيف، يظهر بالمظهر الموضوعي، في مجالات الفلسفة والفكر والتاريخ والاجتماع والثقافة.. والذي يبدو في ظاهره بعيداً عن موضوع "الإلحاد، والدين" ولكن كل مرتكزاته مادية إلحادية، والخلاصة فيه: الدين مجرد أساطير لا تدخل في مجال العلم والفلسفة، وهو مجرد اعتقاد ذاتي، وممارسة فردية.
***
وقد دخل الشذوذ الجنسي (فاحشة قوم لوط) من مدخل "علم النفس الغربي" فكانت الخطوة الأولى في تطبيعه إزالته من قائمة الأمراض النفسية الأمريكية ـ وهي مرجع عالمي ـ ثم تتابع التطبيع معه بعد ذلك، حتى تم فرضه فرضاً وأصبح عقيدة عالمية!
وفاحشة قوم لوط يتم الترويج لها ليس بسبب انتشارها العالمي، فهي في أشد البلاد فجوراً وإباحية نسبتها لا تُذكر ـ فالفطرة تنتصر في النهاية ـ وإنما الغرض في ذلك هو إعلاء المرجعية "الإلحادية المادية" التي تقضي بأنه جوهر الحرية والحقوق الإنسانية! حسبما نَظّر لذلك الملحد الشاذ "كينزي"! وفاحشة قوم لوط إحدى مخرجات هذه المرجعية، فوجب احترام هذه المرجعية، وكل ما يخرج عنها سواء أكان (علماً، أو فلسفة، أو سلوكاً)، وتحطيم وتحييد ومحاربة أي مرجعية تخالفه، وهذا سر الحفاوة البالغة بهذه الفاحشة، والجد الحثيث في عولمتها من كل طريق. ومباركة "اليسار" لها وجعلها على رأس برامجه الانتخابية، وعلى رأس أعماله السياسية!!
ومثال آخر: الحركات النسوية اليسارية التي تعتبر من معاول هدم المجتمعات، وظهرت في الغرب كنتيجة طبيعية للمادية الإلحادية، ووصلت أفكار هذه الحركات إلى المجتمعات الإسلامية محمولة على فكر اليسار التقدمي الحداثي، والحقوقي، والنضالي، ووجدت مناخاً مناسباً من اتخاذ الظلم الذي تتعرض له المرأة من الجاهلية المعاصرة، لوعدها بجاهلية جديدة.
وهناك بعض المُسلِمات تحاول أسلمة "الحركة النسوية"؛ لأنها تظن فيها تعبيراً عن حقوقهن، ولا يدركن الخطر الكامن ورائها، ويتعاملن معها بحماسة ومباركة! وفي القرآن الكريم كفاية، وفي سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طريقاً وحياة.
***
ولا شك أن اليسار العربي يُعاني أزمة، ويحاول تجديد خطابه، ودمجه في المجتمعات الإسلامية بصورة مقبولة ـ مُستغلاً فضاء الإنترنت والإعلام الجديد ـ دون الصورة الشيوعية السافرة.. ويحارب الإسلام ـ في مقتضياته الاجتماعية والسياسية ـ من خلال "الفكر والطرح السياسي" المناقض له؛ باعتبار حركة بعض المسلمين للقيام بواجبهم الديني الدعوي السياسي الاجتماعي هي مجرد حركة "إسلاموية، أصولية" يجب محاربتها ونبذها، وبيان خطورتها، وقديماً كان يسميها "الرجعية، والتخلف"! والبديل الصحيح، والتغيير المطلوب ـ في نظر اليسار ـ هو "العلمنة، والحداثة، والتقدمية، والاشتراكية الاجتماعية"! وهو يقدم هذا الفكر من خلال تبني مشكلات الناس، ومحاولة الاصطفاف مع تطلعاتهم دون التركيز على الجانب الأيديولوجي الدعوي. ولا ننكر جهود بعض المخلصين من اليسار في مواجهة الاستبداد، والظلم، والانتصار للمظلومين، ولكن ننكر المنطلق العلماني الذي منه ينطلق! والذي يُعتبر ـ من جانب آخر ـ معاول هدم للاجتماع الإسلامي.
وإنَّ القيام بالإسلام بمقتضياته كلها ـ الاجتماعية والسياسية والتشريعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والفكرية... إلخ ـ ليست هي مهمة داعية أو حزب أو جماعة فحسب، بل هي مهمة وواجب كل مسلم يعرف أنه يجب أن يكون الدين ـ الذي هو الإيمان بالله، والاحتكام إلى شريعته، والذي هو نظام الحياة بكل ألوانها وأنشطتها ـ كله لله.
ومن ثم.. فالفكر والعقيدة والنمط والنظام اليساري هو "دين مكتمل الأركان" له مرجعياته، وأنبياءه ـ (ماركس، ولينين، وإنجلز) و(وفرويد ودوركايم وداروين وكينزي وجيفارا وسارتر وسيمون دي بوفوار، وجميعهم ملاحدة إباحيين، وبعضهم شواذ) ـ وله كتبه، وله تفسيره الخاص للحياة والوجود والتاريخ والأخلاق، وسواء أكان في صورة ناعمة مُتموضعة في داخل المجتمعات المسلمة، ومتعايشة مع حالتها المتدينة المُحافظة، أو كان في صورته الوحشية المحاربة والمعادية لكل شعائر وشرائع الإسلام.. فهو في النهاية دين غير دين الإسلام، بل هو دين يحارب الإسلام ـ سواء بصورة ناعمة أو وحشية ـ ويحارب وجوده الاجتماعي والسياسي، ويناقض تفسيره للحياة والوجود والإنسان، ويسعى إلى زحزحته عن أي دور قيادي أو مرجعي.. ويجعل المرجعية لأنبياء اليسار والإلحاد والإباحية! والثورة والإصلاح والتغيير باسمهم لا باسم الله.
واليسار أنواع.. فقد يكون اليسار يساراً في الثقافة والفكر ونمط الحياة، وليبرالياً رأسمالياً في الاقتصاد.. وهكذا.
واليسار السياسي نفسه أنواع؛ منه اليسار الديمقراطي واليسار الثوري المسلح. واليسار كذلك يختلف جغرافياً، فمنه من يرفع شعارات القومية، ومواجهة الصهيونية والإمبريالية، ومنه من يكون صهيونياً، وإمبريالياً ومحققاً لمشروعهم! والكلام بشكل عام عن الفكر المادي ـ سواء أكان يسارياً أو ليبرالياً أو وجودياً (وبالجملة علمانياً)، والذي يُزاحم الإسلام في محاولة أهله إعلاء كلمة الله.
هذا من حيث السياسة.
***
وأما من حيث الثقافة والفكر:
فمحاولة اليسار الناعمة تمرير أفكاره الفلسفية في غير الموضوعات الاقتصادية والنضالية والسياسية من خلال بعض البرامج الشبابية.. مما يجب الحذر منه، ومن التثبت ممن يقف وراءه ويدعمه ويروج له!
فالمدخل ـ حول المادية والإلحاد ـ يكون مدخلاً "علمياً فلسفياً" يبدو في ظاهره التجرد والموضوعية والبحث العلمي! وبذلك تُمرر الأفكار للشباب، دون الاصطدام المباشر بالدين! أو إنكاره بصورة سافرة.
بل لعلهم يُبالغون في احترام الدين، وعاداته وثقافته.. ولكنهم في نفس الوقت يُمررون رسالة واضحة بأنه "ليس هو المرجعية"، ولا دخل له بمسائل الحياة والفلسفة والعلم بزعمهم!
بل يجعلون الحَكم في "الغيبيات" والعقائد مرجعه إلى الفلاسفة، ومن ثم إعادة تفسير الوجود وفق الفلسفة الإلحادية! مدعوماً ببعض الشواهد التاريخية وربطها بالأساطير بطريقة ملتوية خبيثة!
وهذا ما يحاوله اليسار اليوم من خلال أدواته الإعلامية العربية، والتي تبث سمومها بصورة هادئة ناعمة؛ تصل إلى الشباب من خلال القنوات الإعلامية المتنوعة، ووسائل التواصل الاجتماعي.
***
والله ـ جل جلاله ـ لا يَقبل أن يكون المسلم يُسلم وجهه لله في العبادة، ولا يُسلم وجهه لله في الشرائع والنظم الاجتماعية والسياسية والتشريعية والثقافية والفكرية... إلخ؛ فيكون مُسلماً في العبادة، ويَسارياً أو ليبرالياً (علمانياً) في شؤون الحياة؛ فهو بذلك لم يُسلم وجهه لله على الحقيقة.
كما أنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يَقبل من المسلم مجرد الانتساب والاسم.. بينما لا يؤدي شعيرة، ولا يعبأ بشريعة، ولا يَقضي بما قَضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 22]
﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 112]
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء: 125]
﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج: 34]
﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: 54]
وكتاب الله النور الخالد المبين.. فيه العصمة ـ بإذن الله ـ وفيه الشفاء والبيان واليقين، فعلينا التمسك به بقوة، وفهم معانيه ومقاصده بوعي وعمل، فهو الحق المطلق الذي حقاً: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]
***
للمزيد، انظر ـ إن شئت ـ :
مقال: العلم والإلحاد.
كتاب: المثلية الجنسية بين الإسلام والعلمانية.
ـ كتاب: الحركة النسوية.
***