أعظم فتنة على المسلمين - في هذا العصر - هي "العلمانية" وهي ليست فتنة طارئة أو مؤقتة.. بل فتنة عامة قائمة منذ ما يقرب من قرنين من الزمان !!
ورغم سابق كتابتي عنها في العديد من المقالات.. إلا أنني أشعر بحاجة إلى التحذير الدائم منها، لا سيما أنواع العلمانية الخفية.. التي قد لا ينتبه إليها البعض، وأحاول في هذه الكلمة التذكير ببعض النقاط في اختصار:
العلمانية - وهي فصل الدين عن نظام الحياة الواقعية - هي الوجه الآخر لـ "النصرانية"، فالمجتمع المسيحي ينقسم إلى: كهنوت وعلماني.. وكان للكهنوت السلطة العليا والحكم بجوار الإمبراطور، والعلماني - وهو غير الكهنوتي - هم عموم الشعب في حالة من الفقر والتخلف والظلام، ولما قامت الثورات الأوربية - وعلى رأسها الثورة الفرنسية - تم تبديل الأدوار، فحل "العلماني" محل "الكهنوت"، وصار له السلطة العليا، وسُميت: سلطة الشعب، القيم الديمقراطية، الجمهورية، الحضارة الحديثة، الثورة على التخلف والرجعية، الدولة المدنية، سقوط الدولة الدينية، الحقوق والحريات والمساواة... إلخ. وصارت هذه هي "القيم الأوربية العالمية" التي يجب تعميمها وعولمتها والحفاظ عليها، وتوارى ظل الدين، وصار مكوناً ثقافياً، وتاريخياً.. يتفاوت دوره من مرحلة إلى مرحلة، ومن دولة لأخرى، ومن توظيف إلى حياد.. حسب طبيعة الأحوال السياسية لكل دولة.
مفهوم العلمانية لدى المسلم هو مفهوم عام.. أنه فكر يفصل الدين عن الدولة، ولها سُمعة سيئة الذكر بين المسلمين، عند اتهام أحد بأنه "علماني" فيُفضل العلماني أن يختار اسماً آخر له سمعة أفضل من العلمانية فيقول: ديمقراطي - مدني - اشتراكي - ليبرالي - شيوعي ثوري - حقوقي... إلخ.. وكلها في النهاية "علمانية"..
ولكن العلمانية ليست مجرد "فكر"، العلمانية.. راسخة "بواقعها" في الحياة، فالمسلم ينشأ فيها دون أن يشعر.. ينشأ في علمانية المسجد، وعلمانية المدرسة، وعلمانية المجتمع، وعلمانية الدولة، وعلمانية الإعلام...إلخ ولكل منهم "درجة" من العلمانية.. وهذا هو موضوعنا، وهذا هو محل "الفتنة" وهو "اكتشاف" فيروس العلمانية الموجود في حياتنا، والذي تشرّبته قلوب الكثير من المسلمين؛ في الفكر والتصور، والسلوك والأخلاق، والشعور والقيم والموازين !! حتى نشأ "المتدين العلماني" وهي أحد أخطر أنواع العلمانية..
العلمانية ليست هي صورة واحدة من المجون والانحلال وعبودية الشهوات - كما هي الصورة الأوربية - المصحوبة بالإنتاج، والانضباط في العمل، ودولة القانون ! العلمانية لها صور وأشكال كثيرة، لا سيما عندما تم فرضها على الأمة المسلمة - مع سقوط الخلافة - ومجيء الاحتلال الصليبي البريطاني والفرنسي ثم الأمريكي، وحمل دينه الجديد "العلمانية" إلينا.. ولما اختلطت العلمانية بالمجتمع الإسلامي أثرت فيه وطبعت فيه آثاراً خطيرة، ومن جانب آخر أثر المجتمع في العلمانية، ونوع صورها وأشكالها.. فتم - مثلاً - علمنة القضاء والحكم، وتحويله إلى القانون الوضعي بدلاً عن "شرع الله"، وتم علمنة المسجد والمؤسسات الإسلامية عن طريق "تحديد" دوره في إطار الشعائر مثل "الكنيسة" تماماً - وإن كان للكنيسة أدواراً سياسية خطيرة في بعض البلدان - وكذلك علمنة التعليم.. بنزع التصور الإسلامي عن العلوم الطبيعية، وعلمنة كل شيء، وفصل التعليم وتقسيمه: علم ديني (للكهنوت) على طريقة الكنسية، وعلوم طبيعية واقعية "علمانية" لا يتدخل فيها الدين، على نفس صورة صراع الكنيسة مع العلم سابقاً! وهكذا زحفت العلمانية حتى تغلغلت في حياة المسلم.. وصار تلقائياً يفكر علمانياً حتى ولو كان متديناً !!
* * *
ويمكن تقسيم العلمانية إلى: (1) علمانية متطرفة ضد الدين عموماً، ولها موقف عدائي ضد الدين، (2) وعلمانية محايدة.. تقف على مسافة متساوية من كل الأديان، (3) وعلمانية متدينة.. تحمل يافطة أو مسحة إسلامية!
أخطر فتنة للعلمانية هي: العلمانية المحايدة، والعلمانية المتدينة.. فـ "العلمانية المحايدة" والتي تقف على مسافة متساوية من كل الأديان، وفي النهاية لا تتخذ أي قرار على أساس ديني.. تُغري عقلية المسلم! بأنها "أفضل" حالاً من العلمانية المتطرفة التي تعادي الدين! وأن فقه "المصالح والمفاسد"! و"فقه المآلات" يدفعنا إلى "دعم" و"مشاركة" العلمانية المحايدة لكبح جماح العلمانية المتطرفة؛ وللحفاظ على "مساحة" للدعوة الإسلامية، والمشاركة السياسية !! ويستحسن المسلم! الفكرة، ويراها فكرة رائعة.. وجميلة تناسب حال "الجاليات المسلمة" وتناسب حال الدولة - التي كانت إسلامية - وهي غارقة في العلمانية حتى النخاع.. والفتنة الأخطر والأشد هي:
"العلمانية المتدينة": وهي أخطر من العلمانية المتطرفة التي تعادي الدين، وأخطر من العلمانية المحايدة التي تقف على مسافة واحدة من كل الأديان.. لأن هذه العلمانية ترتدي رداء "إسلامي" وستتحول إلى "منتهى الغايات" بل ستتحول العلمانية ذاتها إلى "مشروع إسلامي"! وسيتحول ما يسمى "داعية إسلامي" إلى "داعية علماني ولكن بشكل أو مسحة إسلامية" يتفاوت الشكل والمسحة من مكان لآخر، ويتفاوت طول اللحية والهيئة حسب طبيعة الظروف.. لكنها في النهاية "علمانية" ولأن المسلم ناشيء بالفعل في العلمانية.. وعندما يجد هذه الصورة من "علمانية متدينة"؛ سيشعر معها بالتوافق.. وأن الدين شيء جميل لا يخالف، ولا يناقض واقعه.. ولا يحتاج معه إلى كبير تغيير أو تضحية.. وأن الصور الأخرى التي تعادي "العلمانية المتدينة".. هي صورة "متطرفة تكفيرية إرهابية" وأن "التوازن" في الصورة "العلمانية المتدينة" هي صورة "الإسلام الوسطي الجميل" الذي لا يلغي الحياة العلمانية في السياسة والفكر والاقتصاد والاجتماع والإعلام والفن...إلخ ويحافظ عليها، بل ويشجع عليها ويباركها !! وفي نفس الوقت يسمح بحرية ممارسة الشعائر، والاستمتاع بتلاوة القرآن، والصلاة والصوم، ولا مانع من "حجاب مودرن" يقف في منتصف المسافة بين العري التام وبين الاحتشام.! فهذه هي "الوسطية والجمال" !! فتكون هي "الفتنة الكبرى" التي لا تنتهي.. والتي تزداد وتتأصل يوماً بعد يوم!
وتلعب العلمانية المتطرفة والمحايدة دوراً بارزاً في تأصيل وتأكيد "العلمانية المتدينة" إذ أنها أفضل من صورة "الإسلام الحقيقية" التي تُعادي العلمانية بكل أشكالها وألوانها، ويعمل الإسلام على استئصالها جميعها بلا استثناء.. ولكي يتم التأكيد على "العلمانية المتدينة" تتحرش العلمانية المتطرفة والمحايدة بـ "الدين" وتستعلن الانتقاص له، فتخرج "العلمانية المتدينة" لتدافع عن "المسحة" التي عليها من الدين.. وتخاطب أتباعها أنها هي "الحصن" الحصين للدين، وأنها (ترفض) "تطرف" العلمانية، كما (ترفض) "تطرف" الدين! وهنا تكتمل أوضح صور "الفتنة العمية" التي يسقط فيها ملايين من المسلمين، ويحسبون أنهم مهتدون !
وعندما تقترن العلمانية بـ "الفكر البراجماتي" تكون المصيبة أعظم والفتنة أشد.. فستعمل "البراجماتية" على وأد أي محاولة لصد فتنة العلمانية واستئصالها، باسم التدرج والمصالح والمآلات والواقع والمتاح والاستضعاف.. ولا يتوقف الأمر عند هذا فحسب..
فعندما يحاول أحد العودة إلى "الصورة الإسلامية الحقيقية والصحيحة" ويعمل على إعادة استئناف الحياة الإسلامية.. سواء في عالم الفكر، أو السلوك، أو المجتمع، أو الدولة، تقف له العلمانية كلها بأنواعها: المتطرفة، والمحايدة، والمتدينة.. وأخطرها على الإسلام "المتدينة" ! لأنها ستظهر كـ "بديل" عن "الإسلام الحقيقي" وأننا لسنا بحاجة إلى هؤلاء "الأصوليين المتطرفين الإرهابيين" الذين لا يفهمون الواقع، ولا المصالح والمفاسد، ويعادون الجميع، ويريدون الاصطدام بالجميع، ويضيعون "المصالح" والمكتسبات التي قدّمتها "العلمانية المتدينة".. والأخطر من ذلك ليس هو "الصدام" فحسب وإنما "حالة الاغتراب" التي يكون عليها "الإسلام الحقيقي" فإنه سيظهر أنه غريب على فكر الناس وأذهانها وعاداتها.. وأنه "صدامي" وأن تضحياته كثيرة، وأنه - في النهاية - لسنا بحاجة إليه لأنه يوجد بديل "علماني متدين" مناسب لحالة المجتمع ويؤدي التوازن المطلوب بين العلمانية والتدين !!
ولما يأتي الإسلام بشرائعه وحدوده.. يفزع "المسلم" - وأي إسلام لمن يستنكر شرع الله؟! - ويتعجب ويستنكر .. أهذا هو الإسلام؟! وهذه "الفجوة" الخطيرة بين حقيقة الإسلام، وبين ما عليه المسلمين.. هي أعظم "فتنة" تواجه المسلم، لأنه سيتعرض إلى "اختبارات" كثيرة من هذا النوع، فالعلمانية المتدينة كانت بالنسبة له بديلاً عن "الإسلام" وهو لا يسميها "علمانية متدينة" بل يسميها "وسطية واعتدال".. وعندما تبرز صورة الإسلام الحقيقية يفزع منها ويردها !! وهنا يقع المحذور، ويحضر "النفاق" في أوضح صوره ومعانيه.. ويُكتشف - بمرور الوقت وبكثرة المحن - أن العلمانية المتدينة أتباعها "منافقون" مردوا على النفاق، وقلة منهم هي التي كانت مخدوعة.. ومن علم الله في قلبه خيراً؛ هداه إليه واسمعه الحق!
ومن أصل أصول العلمانية.. "القومية" وهي الولاء والبراء على أساس "القوم" وحدود الأرض.. دونما اعتبار للدين الذي عليه هؤلاء القوم.. وتضرب القومية أصلاً من أهم وأعظم أصول الإسلام وهو "الولاء والبراء على أساس الإسلام" وتستنكر - كما استنكرت شرائع الإسلام - أن يكون ولاءها على "الدين" فهذه عنصرية وطائفية!! وتتولى أعداء الإسلام على أساس أن ولاءها "قومي لا ديني"..
وهكذا في كل صراع بين الإسلام والعلمانية - أياً كان مسمى هذه العلمانية - الإسلام يكون في "حالة اغتراب" والناس لا تحب العيش في اغتراب، والعلمانية واقع نشأ عليها الناس من لحظة الميلاد حتى الشيخوخة! وهنا الفتنة والبلاء..
ولأن الإسلام سينتصر - كما وعد الله - ولأن العلمانية واقع حياة - لا يمكن إنكاره أو تجاهله - فلابد من وقوع التصادم والتدافع.. فتجري سنن الله على الجميع.
وحينما يرى المسلم شيوخاً تحمل ألقاباً شرعية عالمية.. وهي في حقيقتها "علمانية" ويراهم يسقطون يوماً بعد يوم.. ويرى ملايين من المسلمين تنافح عن العلمانية وتؤيدها - ولو لم يشعرون أو يقصدون - لا بد أن نعرف أننا على خطر عظيم، وجب الانتباه إليه، والتحذير منه، ووجب الاعتصام بالله - لا سيما في هذه الفتن - وصدق اللجوء إليه، والتوكل عليه، فلن ينجو إلا من أخلص دينه لله.
* * *