قائمة المدونة محتويات المدونة

05‏/02‏/2015

الغلو في التكفير

قد يقع البعض - دون أن يشعر - في الغلو في تكفير المسلمين، ومن أوسع أبواب الغلو هو: التكفير  بـ ( المآل ولازم الأقوال والفعل المحتمل ) أي إلزام الآخر بما لم يعتقده، وبما لم يقصده، ولا يريده.. ومن ثم إجراء حكم الكفر على شخصه، وقد يأخذ الغلو منحى أشد، فيستحل دمه وماله؛ بناء على حكمه الشخصي ورؤيته..!
لتنزيل البحث نسخة PDF.. لطفاً (اضغط هنا).
يقول العلاّمة الشاطبي رحمه الله: "الْكُفْرَ بِالْمَآلِ، لَيْسَ بِكُفْرٍ فِي الْحَالِ، كَيْفَ وَالْكَافِرُ يُنْكِرُ ذَلِكَ الْمَآلَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَيَرْمِي مُخَالِفَهُ بِهِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ لُزُومِ الْكُفْرِ مِنْ مَقَالَتِهِ لَمْ يَقُلْ بِهَا عَلَى حَالٍ" [الاعتصام: ج2، ص708، ط دار ابن عفان]
ويقول العلاّمة ابن رشد الحفيد رحمه الله: "وَمَعْنَى التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ أَنَّهُمْ لَا يُصَرِّحُونَ بِقَوْلٍ هُوَ كُفْرٌ، وَلَكِنْ يُصَرِّحُونَ بِأَقْوَالٍ يَلْزَمُ عَنْهَا الْكُفْرُ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ اللُّزُومَ"  ويقول: "وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنَّمَا يَكْفُرُونَ بِالْمَآلِ". [بداية المجتهد ج4، ص242 ط دار الحديث]
ويقول العلاّمة ابن حزم رحمه الله: "وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ، لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ فر من الكفر" [الفصل في الملل والنحل (3/ 294 ]
وهذا منزلق جد خطير، يجب الحذر منه أشد الحذر، فالتكفير حكم شرعي من أخطر الأحكام، وقد حذر رسول الله صلى لله عليه وسلم من اتهام المسلم به جزافاً.. فقال:  "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ" [صحيح مسلم/63] والأسلم هو الحيطة والحذر، والخطأ في العفو أسلم من الخطأ في العقوبة: "فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ " [جامع الترمذي/ 1424] وهذا الكلام ينطبق على إجراء أحكام التكفير بين عموم المسلمين..
أما حالات ( الكفر البواح ) التي عندنا فيها من الله برهان قاطع، لا لبس فيها، ولا غموض، ولا شك، ولا تأويل.. فإن الأمة في مجموعها تحارب "مظاهر الكفر" بعيداً عن الانشغال بإجراء الأحكام على الأعيان، فتعيد الأمر إلى من يقود الأمة بكتاب الله ويُقيمه، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى لله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" [صحيح البخاري/7056] فيجب "الجهاد" من أجل إزالة مظاهر الطغيان والاستبداد والفساد.. باليد واللسان والقلب، وليس وراء ذلك مثقال من حبة خردل من إيمان.. كما قال صلى لله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ، حَبَّةُ خَرْدَلٍ" [صحيح مسلم/52]
ويجب أن نفهم ما حصل للأمة المسلمة من تفرق وتشرذم، وانتشار للبدع، والفرق.. في إطار الهدي النبوي الذي رسم بدقة حالها - وشرّحها اجتماعياً ونفسياً - وأن حالها سيصير إلى مثل ما صار إليه أهل الكتاب - اليهود والنصارى - من بدع وتشرذم، وتفرق في الدين - بغياً من بعد ما جاءهم العلم - وسيصيب الأمة "أمراض الاستبداد" التي أصابت بني إسرائيل.. حتى ليكون أتباعهم في كافة الأمور! فقال صلى لله عليه وسلم: " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ " [صحيح البخاري/3456]
وافترقت الأمة.. كما افترق اليهود والنصارى! " افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " [سنن أبي داود/4596]
 وكان من أسباب الافتراق - في حال الجميع - هو: الابتداع في الدين، وترك سنة المرسلين، وإدخال الفلسفات الوضعية في فهم الدين، والتنازع بغياً وعدواً في كتاب الله: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الجاثية : 17] وأثر الغل والحقد والحسد في إفساد وحلق الدين: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ" [جامع التزمذي/2510] وتأثير السلطان والتنازع على الحكم في الفُرقة، واختيار بعضاً من حملة الكتاب جانب السلطان: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] مما أحدث افتراق بين السلطان والكتاب، وفي هذا قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: "أَلا إِنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ، فَلا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ" [المعجم الكبير للطبراني/172]
وقال صلى لله عليه وسلم: " لتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ، عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ، تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ " [مسند أحمد/21655]
فتحولت الأمة إلى "الحالة الغثائية":
فقال صلى لله عليه وسلم: " يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا "، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ"، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: " حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ " [مسند أحمد/21890]
وقال صلى لله عليه وسلم: "مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" [ صحيح البخاري/4015]
ورغم التفرق، والغثائية.. سيكون هناك طائفة ظاهرة على الحق:
فقال صلى لله عليه وسلم: " لَا تَزَالُ أُمَّةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ " [مسند أحمد/16574]
وبمجموع هذه الحديث تلتئم أجزاء الصورة عن هذه الأمة، ونفهم أن هذا هو التوصيف النبوي الشريف الصحيح لها، وليس تكفيرها ! بل دعوتها.. وبقاء وصف "الإسلام" العام لها.. ويصبح المطلوب ليس هو إجراء الأحكام على عموم أفرادها.. بل اتباع الهدي النبوي في تحوليها من: (1) الغثائية إلى الرسالية، (2) ومن الطغاة والطواغيت والاستبداد إلى الرشد والشورى، (3) ومن البدع والجاهلية.. إلى السُنة والحق، (4) ومن حب الدنيا وكراهية الموت.. إلى الشوق إلى لقاء الله، وحب الجهاد في سبيله.
*   *   *
ولكن قد تأخذ الحمية والغلو البعض؛ فيتوسع في مسألة التكفير.. ويجري أحكام التكفير بالعموم وعلى التعيين، وهذا خطره كبير، بل قد تتوسع المسألة من التكفير بالمآل إلى من لم يُكفر من كَفّره المُكَفر أو شك في كفره؛ فهو مثله.. وهكذا في تسلسل من التكفير، وقد يتوسع أكثر من ذلك فيستحل دماء المسلمين وأموالهم بناءً على هوس تكفيري!
وقد يقع الإنسان في الغلو في التكفير بسبب:
(1) رد فعل على التميع في قضايا الدين، وانتشار الإرجاء، والفساد الأخلاقي، والطعن في الدين من قبِل العلمانيين وأهل الإلحاد.
 (2) حمية وغضبة تجاه شخص ما.
 (3) محدودية العلم، وسطحية العقل.
 (4) التعجل في فهم قضايا الإيمان والكفر، والأقيسة الفاسدة، وعدم تحقيق مناطات الأحكام، وعدم رؤية الواقع واختلافاته.. وانزال الأحكام في غير مكانها، أو انزالها بغير دقة أو بتوسع.
 (5) الصراع السياسي والمذهبي بين طوائف ما.
 (6) هوى وشهوة التكفير، والكِبر.
 (7) الولع والهوس بإجراء الأحكام.
(8) الغلو في دراسة منهج "الإدانة والحكم" وغياب منهج "التحليل والتشخيص والعلاج".
(9) تقييم العالَم المحيط من خلال فكرة واحدة هي "تفصيلات قضايا الكفر"، واعتبار كل مخالف كافر.
(10) عدم التفرقة بين فعل الكفر "الكفر المطلق"، وبين حكم الكفر "كفر المعين".
(11) عدم التفرقة بين كفر الطائفة، وكفر أعيانها فرداً فردا.
(12) عدم التفرقة بين حكم الكفر، وبين تنفيذ الحكم باستحلال دمه.
(13) التعصب الفكري، والتربية الأحادية المعلولة.
(14) خلل نفسي.. وحدة وغلظة وقسوة الطباع.
(15) البحث عن صورة التطابق النفسي والفكري الحادة، والتي لا تقبل أي اختلاف.  
(16) اعتقاد الحق المطلق تجاه حكم فقهي، أو رأي ما.
(17) اتباع المتشابه من القول، وجعل الاستثناءات هي أصل الأحكام.
(18) الخروج من القاعدة الأصولية العامة.. والغرق في التفصيلات، والاحتمالات، والبحث عن ما يؤيد قناعة سابقة، وفكرة مسيطرة.
(19) فهم أقوال العلماء فهماً مجتزئاً وخاطئاً.
(20) العجز عن التحقيق العلمي والمنهجي الموسوعي لمثل هذه القضايا.

*   *   *
ولقد كان كبار العلماء والأئمة الأعلام - رغم واسع علمهم ومعرفتهم - إلا أنهم كانوا يتحرجون في مسألة إطلاق أحكام التكفير إلا بصورة مُحكمة ودقيقة ومنضبطة - وفي حدود ضيقة - بل كانوا حتى يتورعون عن "التعيين" فيتكلمون في "حالات الكفر" مثل: من فعل كذا فهو كذا، أما التعيين - سيما على عموم المسلمين - فلا ينزلقون إلى الخوض فيه..
ومن هؤلاء العلماء:
·     العلاّمة ابن تيمية.. يقول رحمه الله:
"وَأَمَّا " التَّكْفِيرُ ": فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَدَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ: لَمْ يُكَفَّرْ؛ بَلْ يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ. وَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَشَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَقَصَّرَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَتَكَلَّمَ بِلَا عَلَمٍ: فَهُوَ عَاصٍ مُذْنِبٌ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ فَاسِقًا وَقَدْ تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ تَرْجَحُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. فَ " التَّكْفِيرُ " يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الشَّخْصِ فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا؛ بَلْ وَلَا فَاسِقًا بَلْ وَلَا عَاصِيًا - لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ "مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ" -  وَقَدْ غَلِطَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَغَالِبُهُمْ يَقْصِدُ وَجْهًا مِنْ الْحَقِّ فَيَتَّبِعُهُ وَيَعْزُبُ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لَا يُحَقِّقُهُ فَيَبْقَى عَارِفًا بِبَعْضِ الْحَقِّ جَاهِلًا بِبَعْضِهِ؛ بَلْ مُنْكِرًا لَهُ". [مجموع الفتاوى ج 12، ص 180]
ويقول: "يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ [يقصد في الكفر] وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ " الْوَعِيدِ " فَإِنَّ نُصُوصَ الْقُرْآنِ فِي الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ كَقَوْلِهِ {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الْآيَةَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا. فَإِنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ كَذَا: فَهُوَ كَذَا. ثُمَّ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ يلتغي حُكْمُ الْوَعِيدِ فِيهِ: بِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ.
وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنْ الْوَعِيدِ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: " {إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ} ". فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ. وَالْمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْلَى بِالْمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا". [الفتاوى ج3، ص230]
ويقول: "إِنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا: وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ." [مجموع الفتاوى (3/ 229) ].
ويقول: " التكفير له شروط وموانع، قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه" [مجموع الفتاوى (12/ 487 - 488) ]
ويقول: "كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل: هو كافر. فإنه يجب أن تجرى عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث، ولا يورث ولا يناكح، حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع. وليس الأمر كذلك" [مجموع الفتاوى (7/ 617)]
ويقول: "ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة. . . والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة بل جعلوهم مسلمين" . [مجموع الفتاوى (3 / 282 - 283)].
ويقول في إقامة الحجة:
"وَهَكَذَا الْأَقْوَالُ الَّتِي يَكْفُرُ قَائِلُهَا قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَمْ تَبْلُغْهُ النُّصُوصُ الْمُوجِبَةُ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فَهْمِهَا وَقَدْ يَكُونُ قَدْ عَرَضَتْ لَهُ شُبُهَاتٌ يَعْذُرُهُ اللَّهُ بِهَا". [الفتاوى ج23، ص346 ]
ويقول: "فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ. وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. " [مجموع الفتاوى (12/ 501)].
·     ويقول العلاّمة أبو حامد الغزالي رحمه الله:
"ولا ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعاً في كل مقام. بل التكفير حكم شرعي، يرجع إلى: إباحة المال، وسفك الدم، والحكم بالخلود في النار. فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية: فتارة يدرك بيقين. وتارة بظن غالب. وتارة يتردد فيه.
ومهما حصل تردد، فالوقف فيه عن التكفير أولى. والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل. ولا بد من التنبيه على قاعدة أخرى، وهي أن المخالف: قد يخالف نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلاً في اللسان، لا على بعد، ولا على قرب، فذلك كفر، وصاحبه مكذب، وإن كان يزعم أنه مؤول. مثاله: ما رأيت في كلام بعض الباطنية" [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة]
ويقول: "والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً. فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم". [الاقتصاد في الاعتقاد - أبوحامد الغزالي، ص135 ط دار الكتب العلمية]
ويقول:"الوصية: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، غير مناقضين لها ... فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه" [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (128)].
·     ويقول العلاّمة ابن حزم رحمه الله:
"لا يجوز أن يُكفَّر أحدٌ إلا من بلغه أمر عن رسول الله صلى لله عليه وسلم، وصح عنده، فاستجاز مخالفته " [الدرة فيما يجب اعتقاده ص 413، ط مكتبة التراث]
·     ويقول العلاّمة السبكي رحمه الله:
"التَّكْفِيرُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ سَبَبُهُ جَحْدُ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْ الْوَحْدَانِيَّةِ أَوْ الرِّسَالَةِ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حَكَمَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَحْدًا" [فتاوى السبكي، ج2، ص 586، ط دار المعارف]
·     ويقول العلاّمة الشوكاني رحمه الله:
"اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" هكذا في الصحيح [البخاري "10/514"] ، وفي لفظ آخر في الصحيحين [البخاري "6045"، مسلم "61"] ، وغيرهما: "من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"، أي رجع وفي لفظ في الصحيح: "فقد كفر أحدهما"، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير" [السيل الجرار ج1، ص978، ط دار ابن حزم]
·     ويقول العلاّمة ابن نجيم المصري رحمه الله:
"مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ عَدَمِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ كُلِّهِمْ مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدَ نَفْسَهُ كُفْرٌ فَالْقَائِلُ بِهِ قَائِلٌ بِمَا هُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ قَوْلِهِ ذَلِكَ عَنْ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ مُجْتَهِدًا فِي طَلَبِ الْحَقِّ" [ البحر الرائق، ج1، ص371 ، ط دار الكتاب الإسلامي ]
ويقول: "وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا لَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يَحْكُمُ بِهَا بِهِ وَمَا يَشُكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يَحْكُمُ بِهَا إذْ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِشَكٍّ مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا أَنْ لَا يُبَادِرَ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ". [البحر الرائق، ج5، ص 134، ط دار الكتاب الإسلامي].
·     ويقول العلاّمة ابن عابدين رحمه الله:
"لَا يُفْتَى بِكُفْرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ اخْتِلَافٌ وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً. [رد المحتار ج4، ص224، ط دار الفكر] ويقول: "التكفير أمر عظيم، لم يتجاسر أحد من الأئمة على الحكم به، إلا بالأدلة الواضحة العارية عن الشبهة" [تنبيه الولاة، ص 136، ط دار الآثار ]
ويقول: "مَا يُشَكُّ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ لا يُحْكَمُ بِهِ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لا يُخْرِجُهُ مِنَ الإِيمَانِ إِلا جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ ، إِذِ الإِسْلامُ الثَّابِتُ لا يَزُولُ بِالشَّكِّ مَعَ أَنَّ الإِسْلامَ يَعْلُو ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ ؛ لِعِظَمِ خَطَرِهِ وَتَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ ، وَلأَنَّ الْكُفْرَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ فَيَسْتَدْعِي نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ ، وَمَعَ الشَّكِّ وَالاحْتِمَالِ لا نِهَايَةَ" [حاشية ابن عابدين ج3، ص 285 ]
·     ويقول العلاّمة ابن الوزير رحمه الله:
"الحكم بتكفير الْمُخْتَلف فِي كفرهم مفْسدَة بَيِّنَة تخَالف الِاحْتِيَاط... وإِن الْخَطَأ فِي الْعَفو خير الْخَطَأ فِي الْعقُوبَة نَعُوذ بِاللَّه من الْخَطَأ فِي الْجَمِيع ونسأله الاصابة والسلامة والتوفيق وَالْهِدَايَة"[إيثار الحق على الخلق ص 405، ط دار الكتب العلمية]
ويقول: "وَكم بَين إِخْرَاج عوام فرق الاسلام أَجْمَعِينَ وجماهير الْعلمَاء المنتسبين إِلَى الإسلام من الْملَّة الاسلامية وتكثير الْعدَد بهم وَبَين ادخالهم فِي الاسلام ونصرته بهم وتكثير أَهله وتقوية أمره فَلَا يحل الْجهد فِي التَّفَرُّق بتكلف التَّكْفِير لَهُم بالأدلة الْمُعَارضَة بِمَا هُوَ أقوى مِنْهَا أَو مثلهَا مِمَّا يجمع الْكَلِمَة وَيُقَوِّي الإسلام ويحقن الدِّمَاء ويسكن الدهماء حَتَّى ينضح كفر المبتدع اتضاح الصُّبْح الصَّادِق وتجتمع عَلَيْهِ الْكَلِمَة وَتحقّق إِلَيْهِ الضَّرُورَة مثل كفر الزَّنَادِقَة والملاحدة"[إيثار الحق على الخلق ص 402، ط دار الكتب العلمية]
*   *   *
وإذا كان هذا هو حال الأئمة الأعلام، فالأولى بمن هو دونهم التحرج والحذر من "الغلو" في التكفير ، فيُكفر بلازم الأقوال، ومآلاتها.. أو بالظنون والأوهام أو بالشبهات والفعل المحتمل، لا سيما في علو الجاهلية، وانتشار العلمانية، واختلاط المفاهيم، وتلوث العقول، واختلاط الحق بالباطل..
فيجب أن نفرق بين أحوال الناس، ولا ننظر لها على أنها صورة واحدة أو لونين اثنين.. فمن الناس: المسلم العاصي، والمسلم المرتكب الكبيرة، والمسلم الناشيء في العلمانية، والمسلم الذي لا يُفرق بين الإسلام والجاهلية، والمسلم الفاسق، والمسلم الظالم، والمسلم الذي على ضلالة، والمسلم المبتدع بدعة غير مُكفرة.. والواقع في بدعة مُكفرة، والمسلم الجاهل، والمسلم المتعصب، والمسلم المُقلد، والمسلم المخدوع، والمسلم المتأول..
وكذلك فمن الناس: المنافق عليم اللسان، والمنافق الظاهر النفاق، والزنديق الذي يُبطن غير الإسلام، والعلماني الذي يرتدي رداء الإسلام، والعلماني الذي يرتدي رداء الكفر والإلحاد، والذي يدعو إلى غير الكتاب والسنة،  ويجحد الإسلام وشرائعه، والمنافق الساكن الجبان، والمنافق الذي يمتنع بجنده وسلاحه ويحارب الإسلام والمسلمين.
وهناك من وقع في فعل الكفر، ويحتاج إلى إقامة الحجة والتعلم والإفهام، وكشف الشبهة، وبيان الحق من كل طريق، وهناك من يتبجح بفعله ويستعلن الكفر البواح.
فليسوا كلهم سواء، ولكل منهم حكم.. ولكل منهم طريق للدعوة، ومنهم من ليس له إلا طريق الجهاد.
وعندما يحدد المسلم مهمته سنجد أنها لن تخرج عن:
(1) دعوة الناس إلى الله، وإلى صراطه المستقيم بكل "الحرص والحب".
(2) الجهاد في سبيل الله لتحرير الأمة من الطغاة بكل "الصبر واليقين".
سواء أكان الجهاد باليد أو باللسان أو بالقلب، أو في صورته الدعوية أو السياسية أو الثورية أو القتالية.
وسيجد سعة في عدم الالتفات إلى من يقف في "المنطقة الرمادية" لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. والمطلوب: أن لا يخرج المسلم عن مهمته إلى معارك صغيرة جانبية، أفنى فيها البعض حياته كلها.. دونما ثمرة لا على مستوى الدعوة، ولا على مستوى الجهاد.
*   *   *
وإن طريق "الدعوة الصحيح" هو الذي: يدعو الناس بكل الحب والحرص والاهتمام إلى دين الله، يدخل عليهم من كل طريق، ويألفه الناس ويحبونه، فيكون هيناً ليناً قريباً سهلاً، يفهم بواعثهم النفسية، وطرائقهم العقلية.. حتى يصل إلى أعماق قلوبهم، ولا يَمل من دعوتهم، ويشفق على ضعفهم وجاهلتهم، وينتظر عودتهم، ويطلب هدايتهم.. فالمسلم (ينصر) أخاه المسلم على ما معه من الكتاب، و(يتوقف) فيما يستشكل عليه، و(يرحم) فيما يسع فيه الخلاف، و(يستنكر) الباطل والظلم، و(يدور) مع الكتاب حيث دار..
وإن طريق "الجهاد الصحيح" هو الذي:  الذي يجمع طاقات الأمة ويوظفها التوظيف الأمثل.. ليكون الجهاد ليس في ساحات القتال فحسب، بل في كل ساحات الحياة؛ جهاد وعمل.

هذا هو الطريق.. ولكن قد ينحرف البعض عنه ويدخل في معارك صغيرة جانبية، أو تأخذه الحمية أو الهوى - مثل مسألة الغلو في التكفير، والتكفير بالمآل ولازم الأقوال... إلخ - فيجب الانتباه الشديد، والحذر الدقيق، ونخلص من كل حظ وهوى.. حتى يتم الله نعمته، وتنزل رحمته، ويشملنا عفوه، وينظر إلينا بعين المغفرة والرأفة والحنان، فنكون خالصين لله رب العالمين.
*   *   *