قائمة المدونة محتويات المدونة

06‏/12‏/2014

الإيمان.. وجفاف القلوب

الإيمان هو:  نور يجعله الله - تعالى - في قلب إنسان؛ فيُخرجه به من الظلمات إلى النور؛  فيشرق القلب بحب الله.. والتعلق به، والشوق إليه، والوجل منه، ورجاء رحمته، وخوف عذابه.. هو: انشراح الصدر للاستسلام لله رب العالمين؛ فيغشى القلب الرضى والطمأنينة والبشاشة والرفق؛ يرى الجمال يفيض في كل صورة خلقها الله وقدّرها.. في صفحات الكون المفتوحة التي تتجدد كل يوم، بل في كل لحظة.. كلما رأها المؤمن بقلبه.. ازداد حباً وتسبيحاً وتعظيماً وتقرباً لله بما يحب ويرضى..

آفاق لا تنتهي من طلب الرضى، وتطلع الروح، ولذة العبودية لله جل جلاله. فتكون الحياة الطيبة الوضيئة الجميلة.. التي يعيش فيها المؤمن في ظلال الحب والرحمة من خالقه سبحانه؛ فلا يُفرط في جنب الله.. ويُقدر الله حق قدره.. يسارع في الخيرات، ويتسابق إلى الجنان، ولا يتكل على عمله مهما بلغ، ولا يقنط من رحمة ربه مهما فعل، يراقب الله في السر والعلن.. يفتش في نيته لتكون خالصة تامة لوجه الله الكريم، يُنقيها من كل عوالق الدنيا والبشر.. يُطهر قلبه من كل شائبة تُفسد علاقته مع الله.. فيفيض النور في حياة المؤمن، ويبصر صراط الله المستقيم.. يمضي في كل عمل فيه رضى الله جل جلاله.. يبتغي قربه، ورضاه، ومحبته.. فيستقر اليقين في قلبه، ويمضي في الحياة لا يلتفت ولا يرى ولا يرجو سوى الله، والدار الآخرة. يترقرق في قلبه الحب والرحمة والشفقة على كل حي، وعلى كل مخلوق.. يرى عظمة الخالق ـ سبحانه ـ في كل خلق وفي كل كائن.. يشاهد يد الله ـ سبحانه ـ وهي تدبر كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، ويرى نفسه الذرة المحدودة التائهة في هذا الوجود، يُكرمها الله سبحانه بالاتصال به، ومحبته، والشوق إليه.. يذل لإخوانه المؤمنين.. ويخفض لهم الجناح، ويغضب لانتهاك حرمات الله، ويغار على دين الله.. فيكون عزيزاً على الكافرين، يبيع نفسه لله.. ليدافع عن دينه، وشرعه؛ فتكون النفس المطمئنة المتوازنة الإيجابية الربانية التي تحمل الخير، والرحمة، والإحسان.. الممتلئة بحب الله، فتمضي في هذه الحياة ترى بنور الله، وتعمل من أجل الله، ابتغاء مرضاة الله.. حتى تلقى الله؛ فتكون السعادة الأبدية والفرح الشفيف والأنس الدائم والنعيم المقيم عند رب العالمين.. جل جلاله، وتقدست أسماءه، وعظمت آلاءه، فله الحمد والشكر دائماً أبداً.. كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.

*   *   *

وهكذا كان القرآن.. نوراً يفيض دوماً في قلب المؤمن، يأخذه في رحلات شتى: في الكون، وفي الحياة، وفي خلجات النفوس، وفي موكب الأنبياء الكريم والمؤمنين معهم، ومصير المكذبين، وفي سنن الله، وفي صور الآخرة واليوم الموعود، يأخذه في جولات في نعيم الجنة، وأخرى في عذاب النار، يفتح عقله لرؤية شاملة واسعة يقينية لا شك فيها، يدخل على الإنسان من كل طريق.. يخاطب فطرته تارة، ويخاطب عقله تارة، ويكشف للنفس خباياها ـ التي تخفى عليها ـ تارة.. يربط الروح بخالقها سبحانه وتعالى. يبرز الجمال في كل الوجود؛ في الثمار والفاكهة، وفي الأشجار والزرع، في البحار والأنهار، في الجبال والأمطار، في الطير والأنعام، في النجوم والسموات، في الشمس والقمر، في الأرض والدواب.. في علم الغيب وما يسقط من أوراق الأشجار، وما في أرحام الإناث، وفي خلق الزوجين الذكر والأنثى، وفي الموت والحياة، وفي اختلاف الليل والنهار، في فلق الحب والنوى، وفي فلق الإصباح، وفي إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي.. مساحة واسعة من القرآن الكريم تأخذُ فيها آياته الكريمات الإنسان في رحلة مشاهدة هذه الصور المختلفة البديعة الربانية لتربية الإنسان.. وولادة القلب السليم، والروح النقية، والنفس المطمئنة.. لم يخاطب عقله في صورة مقررات وأحكام وفقط، ولا في صورة قواعد وأوامر وفقط.. 

بل أخذه في رحلة ممتعة في بلاغة إعجازية، وكلمات قدسية ربانية.. في آفاق الكون والحياة، ليرى آثار رحمة الله، وعظمته، وقوته، وحكمته، وبديع صنعه، وكشف له الطريق كله من بدايته إلى نهايته.. ودخل عليه من فطرته، ومن روحه، ومن عقله، ومن خلجات صدره.. ليلمس الإنسان آثار رحمة الله، وإحاطته بكل شيء، وقدرته على كل شيء.. ويرى الكون من حوله مُسبح عابد لله.. كل شيء يسبح بحمده، فلا يجد الإنسان إلا الاستسلام لله رب العالمين، والحمد الدائم الأبدي له على هداية الإنسان.. فتأتي بعدها الفرائض والأحكام كنِعم أخرى منه ـ جل جلاله ـ يتصل فيها الإنسان بالله؛ في صلاته، في عبادته، في دعائه، في مناسكه، في جهاده، في حياته بكل مناشطها، وألوانها، وصورها، وما يتجدد منها.. فيكون الإيمان..

يكون الإيمان.. الذي يُشاهد نوره وآثاره في النفس، وفي الحياة.. يكون التبتل والعبادة، والعمل والجهاد، والحب والرفق، والطاعات والقربات، ونشر الخير، وكبح جماح الشر.. تكون الخلافة الربانية في الأرض، والأرواح المتطلعة إلى السماء.

*   *   *

حمل هذا الإيمان قلوب عظيمة.. فتحت قلوب الناس، وفتحت أرض الله.. بنور الله، ولم تكن بحاجة لكتابة "تجربتها الإيمانية" ففي القرآن كفاية، وآثار إيمانها وحبها لله، مطبوع في الأرض بأعمالها وجهادها..

ثم..

حدثت فتنة عظيمة، احتجبت فيها حقيقة الإيمان حيناً من الدهر.. كان لهذه الفتنة محورين خطيرين جدا:

المحور الأول: تقاتل المؤمنين فيما بينهم!

والمحور الثاني: التأثر بالفلسفة الإغريقية، والفكر اللاهوتي الكنسي!

في فتنة تقاتل المؤمنين: تهتكت روابط الحب والرحمة، وبدأت مرحلة التقاتل على المُلك والسلطان والحكم، وغابت الأمة.. الجسد الواحد، والبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً بالحب والرحمة والذلة والتواضع والحق والعدل، فبدأ تأثير السلطان على "الإيمان" وما كان لأحد أن يقترب من آيات القرآن إلا من أجل الله وحده لا شريك له، ولكن التأثير حدث بالفعل.. وتحول القرآن الكريم مصدر النور والإيمان، إلى مجرد أحكام وقواعد يتعاطى معها العقل في جمود، وفي تحايل، وفي اختلاف، وفي تفلّت.. وهذه الصورة من التعاطي لا تعطي الإيمان، ولا يخرج منها النور، بل خرجت الفرق والجماعات.. خرجت الفتن والاختلافات.

وفي فتنة التأثر بالفلسفة الإغريقية، والفكر اللاهوتي الكنسي: كانت الفلسفة الإغريقية غارقة في متاهات العقل، وتصور الوجود، ودخلت في كافة ضروب التيه.. بلا هادي ولا دليل، في ظلمات بعضها فوق بعض، دخلت في فرضيات وجدليات، وما وراء الطبيعة، وغيرها من أشكال وصور التيه.. وفي النهاية: إنتاج بشري قاصر محدود جاف لا يحمل حقاً ولا عدلاً، ولا إيماناً ولا يقيناً؛ بل هو الشك، والحيرة، والقلق، والاضطراب.. مجرد أوراق فارغة، لكن مجدها القوم، وأعلو من شأنها ! ثم أخذ هذا "التيه الفلسفي".. الفكر اللاهوتي الكنسي.. وحوّلوا ديانة التوحيد التي جاء بها عيسى ـ عليه السلام ـ إلى صورة فلسفية حادت بهم إلى الشِرك ! ودخل الفكر اللاهوتي المتلوث بالفلسفة الإغريقية في محاولة تفسير "طبيعة المسيح" وفي محاولة فهم "كيفيات" أفعال الله.. وفي محاولة فهم "ذات" الله، فخرجوا منها أجهل مما دخلوا.. ولكن خرجوا ومعهم التيه والحيرة والفرق والجماعات والتقاتل فيما بينهم ! ثم ألحدوا في النهاية !

تأثر بعض المسلمين بهذه الصورة من التفكير.. وراحوا يبحثوا في "كيفيات" أفعال الله.. وحاولوا فهم "ذات الله".. فكان ما قال عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اتباع "سنن" أهل الكتاب شبراً بشبر وذراعاً بذراع !! فحدث لهم نفس التيه والقلق والانحراف.. وخرجت الجماعات والخرافات والفرق والأحزاب؛ فكان التناحر والقتال وكذلك الشِرك والإلحاد.. رغم أنها قضية سهلة بسيطة عَرّفها الله تعالى للإنسان.. أنه لن يقدر على فهم الكيفية أو الذات.. أو غيرها مما يتعلق بمقام الله سبحانه وتعالى، فليس كمثله شيء، وكل ما يتصوره العقل عن الله في كيفية أو ذات.. هو تصور باطل، لأن العقل لا يستطيع إدراكه مهما حاول.. ولأن العقل لن يكف عن التأمل في الله؛ أمره سبحانه أن يتفكر في خلق الله وآثاره وعظمته وقدرته.. فهي شاخصة متجددة حاضرة أمامه في كل لحظة في صفحات الكون.. بل وبين خلجات نفسه التي لم يدرك كنهها بعد! وكل تفكر وكل تأمل صادق في خلق الله.. لا بد وأن يفضي إلى حب الله، والقرب من الله، وطلب رضى الله، وإلى إدراك قدرة الله وعظمته، وضعف الإنسان ومحدودية قدرته ! وإن مجرد التأمل في خلق الله، وآثاره لهو نعمة عظيمة.. هي أيضاً فضل من أفضال الله على الإنسان.. وإذا كان الإنسان ـ وبعد جهد جهيد ـ يلمس طرفاً من حقيقة خلق الله، وتظل مساحات واسعة مجهولة له.. فكيف له بالله خالق السموات والأرض والكون كله؟

وفي هذه الفتنة وقف لها علماء أجلاء يردون على هذه الفتن، وحاولوا كبح جماح الشر، وإيقاف مسلسل الفرق والجماعات والأهواء والأراء والبدع والاختلافات، فكانت معارك طاحنة فكرية وواقعية.. سقط فيها دماء، وضاع فيها الناس، وبدأ مسلسل "الفتاوى" في قضايا الإيمان.. فتحول الإيمان تدريجياً إلى مجرد قضايا أحكام.. والحكم هو "حكم الردة" فأصبح الإيمان مجرد "قواعد نظرية" يحفظها المسلم "عن ظهر قلب".. نعم عن ظهر قلب، لا عن قلب خالطته "بشاشة الإيمان".. فكانت حسنات كالجبال، وقلوب من قسوتها كالحجارة أو أشد!!

وحدث تعسف شديد في فهم آيات القرآن الكريم، والحديث الشريف.. ومبالغة في استخراج قواعد وأحكام الإيمان مما لا تدل عليه روح الآيات ومناسبتها ومدلولاتها..

تحول الإيمان إلى قضية "فلسفية جدلية أكاديمية".. وتم تقسيم التوحيد، وتقسيم الإيمان، وتقسيم الشرك، وتقسيم الأعمال.. فكانت أطنان من الكتب ومن المناقشات! تحولت القضية إلى هل هناك عذر بالجهل أم لا؟ هل من لم يكفر الكافر فهو كافر أم لا ؟ وما هو الموقف من قضية "الصفات"؟! تحول الإيمان إلى مجموعة من الأجوبة على أسئلة في زمن الفتنة؟ وعليك أن "تحفظها" كما هي.. ثم تحفظها.. ثم لا تجد للإيمان أثر أو قيمة ! وأصبح لا منهج إلا منهج "الإدانة والحكم"!

ولئن انبرى العلماء ـ في زمانهم ـ لصد تلك الفتن.. وقعدوا القواعد باجتهادهم، لصد هجمة الفتن، فهل يُعقل أن نستحضر هذه المشكلات إلى عصرنا، ونجعلها هي الصورة الوحيدة والنظرية لفهم الإيمان! ونجعل من الإيمان.. مجرد الرد على الفرق، وتفسيق هذا، وتبديع ذاك، وتكفير أولئك! ونغفل أنفسنا! وواقعنا! أليس الأولى أن نصد الفتن بحسب وقوعها في عصرنا هذا؟

ثم كيف نجعل من جهد العلماء السابقين واجتهاداتهم نصوصاً مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! وهي الطريق الوحيد لفهم الإيمان؟! فتتضخم العقول بالنظريات والفرضيات والتساؤلات.. وتجف القلوب، وتقل الأعمال، ويخفت نور الإيمان!

ثم ماذا كانت النتيجة؟

كان الشقاق، والقسوة، والوحشة.. فليس الإيمان قضية جدلية أكاديمية.. ولئن كان كذلك لقدّمه القرآن الكريم على هذه الصورة.. ولكن قدّمه في صورة حية جميلة واقعية تنبض بالحياة في كل مشهد فيه، وتطبع آثارها في النفس كل آية به.. فيشتاق للجنان، ويحذر من النيران، يحب الله ويحب ما أحبه الله، يطلب منه ـ سبحانه ـ الهداية والاستقامة.. ويسأله تزكية النفس، وتقوى القلب، وحسن الخُلق والعمل، عليه يتوكل، وإليه يُنيب، إليه يشكو، وعنده يلجأ، ومنه يسأل، وبه يأنس، وبقربه يفرح. يخجل من المعصية.. ويهرع إلى التوبة والإنابة والذلة والخشوع أن فرط في جنب الله، ويحذر الشرك والرياء والنفاق.. يأتي الطاعة وفي قلبه الوجل والخشوع لا المن ولا الغرور.. ويسأل الله أن يتقبلها منه، فيكون الإيمان والتقوى.. ينظر في ملكوت السموات والأرض.. وما خلق الله من شيء، يتأمل في سنن الله، وآثار حكمته ورحمته وفضله ومنته، وتكريمه وعظمته وإبداعه وإتقانه ورقابته ولطفه وإحاطته وقدرته وعلمه ومطلق إرادته ومشيئته وقوته وكماله ووحدانيته وألوهيته وربوبيته.. 

تأمل مهما مضى فيه الإنسان لا ينتهي، ومهما أدرك منه لا يحيطه، ومهما عرف منه لن يشبع ! فلا يجد إلا ذكر الله هو الذي يملأ هذه الفراغ.. فلا يكف القلب عن الذكر، ولا اللسان عن التسبيح، ولا الجوارح عن العمل والجهاد.. فيفيض نور هذا الإيمان على الحياة، ويترقرق في القلب بشاشة الإيمان؛ فتكون الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.. فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى..

اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغنا حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أهلينا وأموالنا وأنفسنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم حببّنا إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسولك وإلى عبادك الصالحين، اللهم أحيي قلوبنا بحبك، واجعلنا لك كما تحب، اللهم اجعلنا نحبك بقلوبنا كلها، ونرضيك بجهودنا كلها، اللهم اجعل حبنا كله لك، وسعينا كله في مرضاتك.

*   *   *