قائمة المدونة محتويات المدونة

08‏/03‏/2015

علم الدعوة

كيف ندعو الناس؟
جَمع النبي - صلى الله عليه وسلم - درجات الكامل الإنساني، فصار سيد ولد آدم، وسيد المرسلين، والأولين والآخرين.. ووصل إلى مستوى سامق لن يصل إليه أحد بعده، ولكن إذا كان هذا هو حال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون هو موطن القدوة والمثال، بينما لن يقدر أحد أن يصل إلى ما وصل إليه ؟

لن يطيق قلب بشر أن يقترب من مستوى النبي أو يضاهيه، وموطن القدوة والمثال.. هو أن يقوم المجتمع بمجموعه بخصال وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكون سيرته وأخلاقه هي التي تجمع المجتمع المسلم، وتشده من جميع أطرافه إلى "النموذج النبوي الشريف" الذي شرّف البشرية كلها، وحتى يكون المجتمع المسلم على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمضي يلتمس أنوار النبوة في طريقه.. لا بد وأن يضيء من كافة هذه الأنوار طريقه في:
-        الجهاد في سبيل الله.. خالصاً لله، وابتغاء وجهه الكريم.
-        السياسة الشرعية للأمة.. بما يحقق الحق والعدل الرباني فيها، والخروج من أي حظ أو مغنم منها.
-        حمل رسالة الله إلى العالمين.. وفتح البلاد والعباد نحو جنة عرضها السموات والأرض، دون انتظار جزاء ولا شكورا.
-        الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. في كل الأرض، وكبح جماح الشر أينما وجدت.
-        الحرص على الأمة المسلمة.. وعلى الناس، بما ينفعهم في دينهم، ودنياهم.
-        شيوع الأخلاق الربانية.. التي تصبغ المجتمع بصبغتها.
-        كفاية الأمة من البطولات وأصحاب السبق في كل مجال، مما يأخذون الأمة إلى آفاق بعيدة في كل مجال.
-        الدعوة إلى الله.. عن علم وفهم وبصيرة، دعوة تُعرّف الناس دينهم، وتحببهم إلى الإيمان، وتزينه في قلوبهم.
ولقد اجتمعت هذه الأنوار المتلألة في مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وحازها جميعها.. بل ويزيد مما لا نعلمه، ومما يعجز التعبير عنه في علاقة الحب والقرب والشوق بينه وبين الله جل جلاله..
وحتى يكون المجتمع المسلم على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسير بحق في أنوار النبوة الشريفة.. عليه أن يجمع بين أشعة هذه الأنوار دون أن "يطغى" جانب على آخر، أو يهتم بجانب، ويُهمل الآخر، فلا بد أن يسير في هذه الأنوار بصورة: شاملة، متوازنة، متكاملة، ربانية، مثالية.. تجتهد في التطلع إلى الصورة النبوية، ولا تمل من الجهد والمسير نحو هذا الأفق العالي الوضيء.
فلا بد للمجتمع السلم من جهاد، كما لا بد له من سياسة شرعية، كما لا بد له من دعوة... إلخ.
*   *   *
وموضوع هذا المقال هو "الدعوة" واخترت عنوانه "علم الدعوة" لنؤكد على حقيقة كون الدعوة - أياً كانت - هي "علم وفن" في حد ذاتها، بغض النظر عن موضوع الدعوة.. فإذا كان موضوع الدعوة هو "إلى الله" فلا بد لهذه الدعوة أن تجمع بين أمرين: (1) العلم والفن الخاص بها. (2) البصيرة بموضوع الدعوة، وحقائقه.
قد يعطي الله البعض الشجاعة والإقدام والحسم، فيحسب أن الطريق وحده هو القتال في سبيل الله.
وقد يعطي الله البعض الكياسة والحكمة والدهاء، فيحسب أن الطريق وحده هو السياسة الشرعية.
وقد يعطي الله البعض حسن الخلق، ولين الطباع، فيحسب أن الطريق وحده هو التربية ورقي الأخلاق.
وقد يعطي الله البعض فنون الدعوة، والاقناع، وفهم الناس، فيحسب أن الطريق وحده هو الدعوة.
ينشأ هذا الظن الخاطئ عندما يحسب المسلم أن ما أعطاه الله له من خصائص ونِعم، هي عند كل غيره ! وأن الآخرين مثله تماماً، أو أن على الآخرين أن يكونوا على نفس صورة "التطابق" النفسي والفكري لديه.. والحقيقة لا.. لقد خلق الله الناس مختلفين، وأعطى كل منهم طاقات مختلفة من الاستعدادت والطاقات.. ليبتليهم بها، وليبتلي الناس بها..
يقع الخلل والانحراف في المجتمع عندما يجتمع مع هذا "الظن" التعصب والحمية والحسد والبغضاء.. فيؤدي ذلك ليس إلى "استثمار" الطاقات المختلفة لتحقيق الصورة المثالية المطلوبة.. بل "استغلالها" لتدمير الطاقات المختلفة عن صورة التطابق النفسي، فيؤدي ذلك إلى حلق الدين.. كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " [مسند الإمام أحمد/1375]
والصورة الصحيحة هي: البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا، ويؤدي كل لبنة فيه دورها.. دون تكلف، ولا عنت، ولا مشقة.. وتتكامل أنواره كلها لتستقيم على نور الهدي النبوي.. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [صحيح مسلم/2587]
*   *   *
فما هو علم الدعوة ؟ وكيف ندعو الناس ؟ وكيف نضع البرامج الدعوية المناسبة للناس ؟ وما هي الصورة المطلوبة للداعية ؟
علم الدعوة: هو العلم المختص بفنون التأثير والإقناع، والدخول النفسي والفكري والقلبي على الناس.. عن بصيرة بواقع الناس، ولغتهم، وأفكارهم، وطرق معيشتهم، وتاريخ نشأتهم، وخصوصية مكانهم، وطبيعة زمانهم.
وموضوع الدعوة في الإسلام: هو دعوة الناس إلى توحيد الله وحده لا شريك له، والاستسلام له بالطاعة، والخضوع، والاتباع، والرضى.
وكيف ندعو الناس ؟
ندعو الناس استناداً إلى الرؤية الواقعية، والتحليل النفسي والاجتماعي.. الذي يوفر معلومات دقيقة، تحدد "أسلوب" الدعوة، ولغة الخطاب، وأولويات الموضوع، وأدوات الدعوة.. فليس صحيحاً أن الدعوة مجرد "سرد" بعض المعلومات للمُتلقي، وبذلك تكون تمت الدعوة ! كــلا.. قد تكون الدعوة بسمة بوجه طلق، تقول ما تعجز عنه آلاف الأحرف والكلمات، قد تكون حسن خلق واقعه أثقل من أي كلام، قد تكون مخالطة الناس محافظاً على صورة المسلم الرباني دون الحديث في شيء.. أبلغ دعوة !
وكيف نضع البرامج الدعوية المناسبة للناس ؟
يتم أولاً رسم الخطة الإعلامية استناداً للأدوات المتاحة، ثم رسم الخطة "المستقبلية" -الاستراتيجية.. التي تكون قيد التطوير، فكل خطة مستمرة وطويلة كمثل موضوع الدعوة.. ينطلق فيه الإنسان بما لديه من إمكانيات وأدوات.. ولا يتوقف فيها بحجة قلة الإمكانيات، ولكن في ذات الوقت.. تكون الآفاق الفكرية والتصور الدعوي بعيد المدى، ويطمح إلى الرقي بلا توقف، واستحداث الأدوات المناسبة، والفاعلة التي تستطيع أن تلمس واقع الناس، ولا تتخلّف عنهم.
وإن وضع الخطط الدعوية - وكل خطة - لا بد وأن يشترك فيها جمع من العلماء والفقهاء والمفكرين والإعلاميين والاجتماعيين والنفسيين والإداريين.. حتى تكون خطة الدعوة متكاملة، ودائمة، ومستمرة، ومتجددة.
وما هي الصورة المطلوبة للداعية ؟
الداعية لا بد وأن يكون شخصية محبوبة للناس، وقريبة من الناس، وتتكلم بلغة الناس، ولا ينكرها الناس في ملبسها ومأكلها وطريقة حياتها.. وهي شخصية غير شخصية المفكر، أو الخطيب أو السياسي أو المقاتل.. هي شخصية هينة لينة قريبة سهلة، يستريح الناس لها وعندها، وتجمع بين البساطة في المقال واللغة، وبين العمق والدقة في الوعي والفهم..
إن المفكر قد يضع النظريات والخطط والأفكار، لكن لا يطيق الناس له حديثاً فلا يفهمون منه شيئاً.
وإن الخطيب قد يزلزل المنبر بخطبة عصماء، لكن سرعان ما يغيب تأثيرها عن الناس.
وإن السياسي قد يجيد مخاطبة حاجات الناس ومعاشها، لكن لا يستطيع أن يقنع الناس بغير ذلك.
وإن الفقيه قد يجيد التحقيق الموسوعي للمسائل الفقهية، لكنه لا يستطيع أن يستوعب لغة الناس وطرق التأثير فيهم.
وإن المقاتل قد يخثن في أعداء الله، ويضرب منهم  كل بنان، ولكن لا يستطيع أن يجذب الناس أو يُحسن فهمهم.
وعندما نضع الأمور في غير نصابها.. فنضع المفكر أو السياسي أو المقاتل في موضع ومكان ليس بمكانه.. يقع المحظور، فتنفر منه الناس، ويسخط هو على الناس.. فيتهمه الناس بما شاءوا من تهم، ويتهم هو الناس بأن لا أمل فيهم، ولا يصلحهم شيء أو لا يصلحهم إلا السيف !
وإنني - على المستوى الشخصي - قد أعرف خطاب الدعوة المناسب، وأسلوبه وطريقته - بعد دراسة البيئة - لكنني قد لا أحسن عرضه وتقديمه للناس، أو لا أملك القدرة على التواصل، أو لا يقبله الناس مني، في حين يقبلون من غيري - المؤهل - رغم أن مضمون الخطاب واحد.
أما الداعية: فهو الذي يُجيد "تسويق" رسالته، و"تشبيع" المجتمع بها، و"يلمس" الأوتار الحساسة لدى الناس.. ثم هو في نفس الوقت على بصيرة بأحوال الناس النفسية، وبواعثهم، وطرق تفكيرهم، فيستبق الإجابة على ما يدور في أذهانهم، وما يختلج في صدورهم، ويزيل كل شبهة، وينظف كل لوثة من لوثات الجاهلية.
*   *   *
وما هي الصورة العملية التي يجب أن تكون عليها الدعوة في المناطق التي يتم تحريرها من رجس الطواغيت ؟
كل سؤال عن "صورة عملية" لا بد وأن يستلزم:
(1) تحليل البيئة. (2) تحليل النفسية العامة للمجتمع. (3) تحديد الأولويات. (4) رسم الخطة المرحلية. (4) رسم الخطة المستقبلية - الاستراتيجية. (5) إحباط التأثير المضاد.
لا بد وأن نعي جيداً.. أن العيش في حكم الطواغيت، يعني تدمير البنية النفسية والفكرية لعموم الناس، ولا يصمد إلا الأفذاذ.. وأنه بطول الحكم - وغالباً ما يطول - تتحلل النفس وتتفكك، وتتوغل "أمراض الاستبداد" داخل بنية النفس.. لدرجة يصعب علاجها في الجيل الحالي، وربما تخف أثارها، وتُعالج في الجيل الثاني، وتختفي تماماً في الجيل الثالث.
ولقد بلغت عناية القرآن الكريم كل مبلغ في "تشريح" أمراض الاستبداد من خلال العرض التفصيلي الواسع لقصة "بني إسرائيل" في إشارة إلى الحالة التي ستكون عليها الأمة المسلمة في اتباعها سنن بني إسرائيل.. وبيان طريق العودة.
وإن الداعية لا بد وأن يعي أنه يعالج نفوس معقدة، وسهلة الانقلاب، والتردد، والتذبذب.. ولا "يتوقع" نتائج مبهرة، أو ثمرة قريبة.. وإن كان ثمة ذلك فهو محض فضل الله على الأمة، وعلى الناس..
وإن تحليل البيئة.. إنما يتضمن درجة أمراض الاستبداد وحدتها، ومدى انتشارها، لتحديد الصورة التي يجب بها مخاطبة الناس، والأنسب لعقولهم، ومعرفة الشبهات وأنواع الجاهلية المنتشرة فيهم.
وإن تحليل النفسية العامة للمجتمع: إنما تهدف إلى فهم خصائص كل مجتمع، وتأثير عامل الزمان والمكان فيه، وسابق ثقافته، وسابق معتقداته، وأنماط حياته.. حتى لا نصطدم أثناء الدعوة بعقبات فكرية ونفسية لم تكن في الحسبان.. فإن معرفة النتواءت والفجوات النفسية، وتسوية هذه بهدوء، وترميم تلك بأدب.. من شأنه أن يُخرج "النفسية السوية" المستقيمة.
وإن تحديد أولويات الدعوة: إنما هو تابع للمستوى الفكري لدى الناس، فقد لا تعلم الناس شيئا عن معنى التوحيد، أو تدرك معنى منقوص منه، أو لا تعرف حتى آداب الطهارة، وأركان الصلاة ! وهذا - ولا شك - شيء متوقع أن نجده بين الناس، بل حتى بين أصحاب الشهادات العليا من الناس، وذلك من أثر التجهيل المتعمد الذي يقصده الطواغيت.. والمطلوب: هو أخذ الناس برفق وحزم إلى طريق الصواب.. دون تبكيتهم أو إهانتهم أو جرح كرامتهم..
وإن البداية - ولا شك - مع معنى ومفهوم "لا إله إلا الله" وإزالة لوثات الجاهلية عما أحاط مدلولاها في نفوس الناس.. سواء اللوثة الإرجائية أو اللوثة العلمانية (لا سيما العلمانية المتدينة، والقومية، والبرجماتية)، وإن معنى "لا إله إلا الله" ليس مجرد بيان "أحكام" الإيمان والكفر.. بقدر ما هو تعريف الناس إلى ربهم، وبيان معنى العبادة، والفرق بين التوحيد والشرك، والإيمان والكفر، والإسلام والجاهلية، وبقدر ما هو ربط القلوب بالله - سبحانه وتعالى - وتزين الإيمان في قلوبهم وأرواحهم.. وتربية الناس على مقتضى التوحيد.. وتعميق الإيمان حتى يغمر أعماق النفس الإنسانية، مع مراعاة طاقات الناس، ومدى استيعابها.
وإن الداعية إلى الله.. لا "يدافع" ولا "يبرر" مواقف الحاكم المسلم الذي يحكم بالشرع، بل وحتى لا "يبرر" الاختيارات الفقهية لهيئات الدولة.. إنما الداعية هو شخصية متجردة من كل الرؤى السياسية للحاكم المسلم، ومن الاختيارات الفقهية، فموضوع دعوته هو "الله ودينه وشرعه" بصورة غاية في التجرد، فقد يخطئ الحاكم في رؤيته السياسية، وقد يرجح الفقهاء أقوالاً ضعيفة أو غيرها، والداعية ليس دوره الدفاع عن الحاكم المسلم واختياراته الفقهية إنما هذه مهمة هيئة الحاكم الشرعية والإعلامية.. أما الداعية فهو يدافع عن الدين والشرع بصورة عامة وكلية - بعيدة عن ظرف الحاكم ومكانه - تربط الناس بالله وشرعه، بعيداً عن اجتهاد البشر، فاجتهاد البشر إنما هو اجتهادهم، أما الدين والشرع فهو ما يجب أن يلزمه الناس في كل زمان ومكان.. وهذه الصورة من الدعوة تحافظ على ربانية المجتمع وتوازنه بعيداً عن "تدين" الحاكم ومدى التزامه، فالداعية ليس من "رجال الحاكم"، إنما هو من "رجال الإسلام" المجرد عن أي ظروف سياسية.. وبمرور الوقت يتحول المجتمع إلى الحامي والحفاظ لشرع الله ودينه.
*   *   *
إن الناس ترقب "رسالة الداعية" فإذا وجدت نفسها في فجوة هائلة عنها، استهولت واستصعبت اعتقادها أو الإيمان بها.. أو آمنت بها على مضض ! أو آمنت بها في الظاهر بسلطان القوة، بينما تُخفي في نفسها غير ما تُبديه !!
وإن الناس لديها حاسة تعرف بها الداعية.. إذا كان صادقاً وحريصاً عليها، يبتغي بدعوته رضى الله والجنة أم لا.. لذا يجب أن يكون "الحرص" على الناس صفة حقيقية دائمة، ليس فيها تصنع ولا تَكلّف.
كل هذه الأمور لا بد أن تكون في حس الداعية، وهي يمضي في طريقه وهو يأخذ الناس برفق، ويطرق عقولهم بأدب، ويتحبب إليهم بصدق..
وهنا - وأحياناً كثيرة - يحتاج الداعية ليس إلى الكلام.. وإنما إلى "الإنصات" والاستماع للناس، والصبر عليهم، وعلى تفصيلاتهم التافهة، وموضوعاتهم الساذجة.. ولا يقول الداعية في نفسه أو للناس: أن وقته الثمين لا يسمح له بالاستماع إلى لغو الناس ! هذا خطأ فادح..
إن الناس - في عمومهم - لا سيما بعد حكم الطواغيت، يكونون في حالة من "الكبت" و"الضمور النفسي" لا يظهر للواقع نعم، بل قد تكون الصورة الواقعية مخالفة للكبت والضمور.. لتعود الناس إخفاء مشاعرها، لكن ذلك حقيقة واقعة.. فواقع سياسة الطواغيت تقلص النمو الطبيعي للنفس في مراحل مبكرة، وتكون أقرب إلى التشوه منها إلى الصورة السوية !
وفي هذه الحالة يجب أن يكون صدر الداعية يتسع لتفريغ "الكبت النفسي" لدى الناس.. بل قد تكون أعظم خدمة يقدمها الداعية - أحياناً - هو أن يجلس يسمع فقط، ويسمع حتى "يفرغ" المتكلم، فبعدها يشعر المتكلم بالراحة لمجرد أن وجد من استمع إليه..
وإن حالة الكبت والضمور تجعل عموم الناس أشبه بـ "المريض النفسي" وفي عيادات المعالجة النفسية يكون دور المعالج أو الطيب هو "الانصات الجيد" للمريض، ولا يفعل شيئاً أكثر من أنه يسمع باهتمام وتركيز، ويشير إلى بعض النصائح أو غيرها في النهاية..
هذه الصورة مع الدعوة.. تربط قلوب الناس بالداعية، ولا تنظر إلى الداعية على أنه صورة مستحيلة من "الطهر والعفاف والعبادة والتبتل والانقطاع" يعجز الناس عن الوصول إليها، فتنظر إلى الداعية نظرة "الطاهر المقدس" وإلى نفسها صورة "الدنس الحقير" ولا شك هذه صورة منحرفة من الدعوة.. ولا يجب أن تكون أبداً في ذهن الناس..
يجب أن يفهم الناس أن الداعية بشر مثلهم، وأنه قريب منهم، وأن الطريق إلى الله يُسر، وأن الجميع يستطيع أن يمضي فيه.. وأن هذا الطريق ليس العبرة فيه بكثرة الطاعات.. إنما هو بـ "حقيقة الإخلاص والتجرد وابتغاء وجه الله الكريم"..
هذا من شأنه أن يرفع قيمة ونظرة الناس إلى أنفسها، وأن الطريق لا يستلزم سوى صفاء القلب لله سبحانه وتعالى، والمضي في أنوار النبوة ما استطاع الناس لذلك سبيلا.
وعلى هذا الأساس والفهم من تحليل البيئة ونفسية المجتمع العامة، وأولويات الدعوة.. يتم وضع الخطط الإعلامية التسويقية للداعية.. بما لديه من إمكانيات وأدوات، ومن ثم فتح الطريق للخطط المستقبلية استعداداً للمستقبل، ولتطوير الوسائل والأدوات وفنون الإقناع والتأثير.
*   *   *
وحتى نعود خلافة على منهاج النبوة.. فنحن بحاجة إلى تأسيس مثل هذه العلوم.. علم الدعوة وغيره، والذي يجمع بين فنون الإعلام والإقناع والتأثير، وبين فنون الأدوات والأليات، وبين فنون تحليل البيئة والنفوس، وبين فنون رسم الخطط والاستراتيجيات.. والحقيقة هذه العلوم موجودة أو مبثوثة بين علوم أخرى، ومختلط بعضها بلوثة الجاهلية، ونحن بحاجة ماسة إلى تنقيح وتأسيس هذه العلوم، وانتقاء الشخصيات البارزة والموهوبة التي حباها الله.. بحب الناس، وبسهولة القرب والانتشار بين الناس.. لتربية جيل دعوي قادر على أن تزين الإيمان في القلوب، وإعادة الأمة المسلمة إلى الرشاد، وحمل رسالة الله إلى العالمين.
*   *   *
إننا بحاجة في المناطق المحررة من حكم الطواغيت:
(1) إلى بيان معنى الشرع بحدوده ومقاصده.
(2) رفع الشبهات، وإزالة لوثة الجاهلية برفق وأدب ولين.
(3) تقديم التصور الإسلامي في صورته الشاملة الربانية التي تمحق التصورات الباطلة.
(4) إزالة أثر سحر إعلام الجاهلية والطواغيت.. الذي لا يتوقف بثه لحظة، فنكون بحاجة إلى أن لا نتوقف نحن كذلك عن رفع تأثيره.
(5) معالجة أثر الاستبداد التي تركها الطواغيت في نفوس الناس.
(6) كتابة المنشورات والمطويات بلغة قريبة سهلة، يفهمها الناس، وفيها احترام لهم، وفيها "الحرص" على إفهامهم.
(7) بحاجة إلى قوافل دعوية.. تجوب القرى والمدن والمناطق النائية، وليس شرطاً أن يكون موضوعها خطبة أو درس ديني.. بل تكون مجرد زيارة إنسانية، تتخللها كلمات بسيطة قد يكون لها أثر أبلغ من عشرات المحاضرات.. وتكون بصورة متكررة ودائمة.
(8) بحاجة إلى الاندماج في الناس، للتأثير فيهم، وشعور الناس بقرب الداعية، بل قد يكون السعي في حاجة الناس.. أبلغ دعوة.
*   *   *
وإن الكنيسة - على باطلها - قد قطعت شوطاً طويلاً في فنون الدعوة والتأثير.. وأذكر أنني كنت في إحدى الدول الأوروبية، ووجدت شاباً مهذباً هادئاً يضع اسمه على صدره، مع اسم الكنيسة التابع لها.. لا يستوقف الناس، إنما "يسير" معهم، يقف عند محطة القطار الداخلي، والناس تذهب من المحطة إلى السوق في مسافة حوالي خمسمائة متر، يسير هذا الشاب مع الناس من محطة القطار إلى السوق، وكان يسألهم أسئلة خفيفة - وهو استوقفني مرة، وسألني هل تؤمن بالمسيح، قلت: نعم، لكنه عبد الله ورسوله، قال لي إذن أنت مسلم، ومضى يودعني ! - يهامس الناس وهو يسير معها، وربما دلها على ما تجهله.. وفي النهاية يعطيهم بطاقة "كارت" صغير.. فيه كلمات بسيطة والموقع الإلكتروني للكنيسة ! العجيب أن هذا الشاب نفسه أتى من دولة أخرى ليُبشر بكنيسته !
هذا نموذج صغير، مما قطعه أهل الباطل في طرق التأثير ومخاطبة الناس !
إذن.. الدعوة ليست مجرد خطبة جمعة أو منشور أو مطويات.. بل هي أعم من ذلك، هي حركة اجتماعية تهدف نقل المجتمع من التيه إلى الرشاد.. فتشمل كل شيء، ولا يستلزم للداعية أن يكون ملماً بكافة التفاصيل الفقهية.. بل ولا أن يكون مفتياً في شيء، يكفيه أن يحمل رسالة ويُبلغها للناس بكل تواضع.. لكن يُبلغها حق البلاغ، ويوفيها حق الوفاء، فلا يدع يختلج في صدور الناس شيئاً منها، ولا يترك الناس إلا وقد تشبعت بها فآمنت عن بيّنة ويقين.. ولا يترك الناس إلا وقد أفرغت ما بنفسها وعقلها وروحها كل ما تحمله من تصورات وجاهلية.. وما كان منها خيراً وحقاً أبقينا عليه، وأكدناه بدعوة الإسلام وحولنا نيته خالصة لله جل جلاله، وما وجدناه من جاهلية وباطل أزلنا وجوده من أعماق جذوره.. بما يناسب واقع الناس، وأفهامهم، ولغتهم.
وإن الرسالة الإسلامية لا شك هي أرقى من كل التصورات الأرضية الوضعية سواء أكانت فكرية أو فلسفية أو مادية... إلخ. فالداعية يحمل رسالة السماء.. وهي رسالة ربانية منصورة بوعد الله، فلا يخاف شيئاً، وعليه أن يستمع لكافة تصورات الناس، ويردها بالقرآن كما قال تعالى: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [الفرقان : 33] ردها بالحكمة والموعظة الحسنة: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل : 125]
*   *   *
موضوعات ذات صلة:
-        فرق السرعات.
-        مقاصد الشرع.
-        الأمة.. ما هي؟
-        أمراض القلوب.
-        دعوة الرسل.
-        أمراض الاستبداد "تحت الإعداد".
-        آلية قرأءة قضايا الأمة المصيرية "تحت الإعداد".

*   *   *