قائمة المدونة محتويات المدونة

24‏/03‏/2015

الشرع والفقه والعلمانية

لقراءة المقال نسخة بي دي إفPDF (اضغط هنا) للتحميل (اضغط هنا ).
العلمانية:
تلخص العلمانية فكرة "متاع الحياة الدنيا" و"اتباع الهوى" و"الهروب من الدين".. والعلمانية خرجت من رحم الإرهاب الكنسي، وسطوته.. إلى الانطلاق في الحياة الدنيا، وخرجت عن فكرة المتاع والهوى مذاهب فكرية مادية وضعية شتى منها: الليبرالية، والرأسمالية، والاشتراكية، والقومية، والشيوعية، والبرجماتية، والمادية، والإباحية، والديمقراطية، والعولمة... إلخ.

وتضخم لدى العلمانية شهوات الإنسان، وملذات الحياة.. فراحت تُبدع في صياغة الحياة، وفي إنتاج فنون المتاع، وفي تأليه الإنسان - حسب جنسه وقومه - فتضخم الإنسان، ليتجاوز حدود العبودية لله خالقه ورازقه.. وتجاهل فكرة الدين من أساسها، وراح يؤسس لكل ما يشبع نهم الحياة.. ولا يشبع !
اعتبرت العلمانية أنها في صراع وجودي مع الدين - أياً كان - وضد الفكر الغيبي عموماً، وأي محاولة لـ "الدين" للتدخل في الشأن الفردي أو المجتمعي أو نظم الحكم، فهي محاولة اعتداء سافرة على العلمانية، وعلى حضارتها.. التي اطلقت المتاع الإنساني من كل قيوده، ودفعته بصورة شبه عادلة بعدما كان مقيداً في يد طبقة محدودة من الإمبراطور وطبقة الإكليروس والإقطاع.. ورسخت لفكرة الديمقراطية من هذا المنطلق، حتى لا يعتدي أحد على متاعها وحظها من الحياة - المحدودة الزمان والمكان - ومع ثورة العلم التي صاحبت ثورة العلمانية، وتراكم المعرفة.. تسلّحت العلمانية بكافة أدوات الحياة، وسوقت نفسها على أنها النموذج الحياتي الرائد، والذي يجب أن تطمح البشرية أن تصل إليه.. وأن البشرية أصبحت في حاجة إلى إنتاجها، وإلى علومها، وإلى حضارتها، وإلى فكرها، وإلى أنماط حياتها..
وكما هو معروف أن العلمانية هي أيضاً فكرة قومية.. تخص القوم وجنسهم، ويجب أن يتمتع بها الغرب على وجه الخصوص، واهتمت بتقديس الإنسان القومي، وبوفرة متاع الحياة الدنيا، ولا ترى - من الناحية الواقعية - أدنى غضاضة في سفك دماء الآخرين وسرقة ثرواتهم، ليعيشوا ويستمتعوا هم.. ولكنهم من الناحية النظرية والإعلامية يقدمون أنفسهم على أنهم حماة الإنسانية، وحاملي مشعل الحضارة.. وُيصدّق كثير من الناس أقوالهم هذه - لا سيما من يعيش في القهر والاستبداد - ويروح يحلم بكرامة في واقع ينتهك أبسط مقوماته الإنسانية، ويحلم بمتاع الدنيا في حياة تضن عليه بأقل حقوق الإنسان، وتسحق إنسانيته.. بينما على الجانب الآخر العلماني، تأليه الإنسان، وتقدسيه !! فيظن أن الطريق هو العلمانية والديمقراطية !
وجدير بالإشارة أن هناك أنواع أخرى من العلمانية أكثر مسالمة واعتدالاً، تتبناها الدول الصغيرة، المحدودة التأثير العالمي، والمنغلقة على نفسها ومشكلاتها.
وقد سبق الحديث تفصيلاً عن العلمانية في مقالات مختلفة، ولا داعي للتكرار هنا.. سوى التذكير بـ "العلمانية المتدينة" التي تم تطويرها وتعديلها من "دعاة الإصلاح الديمقراطي" - الذين لم ولن يستطعيوا الإصلاح بمفهومه الإسلامي - فهذه العلمانية المتدينة.. تجعل الدولة علمانية في السياسة والاقتصاد ونظم الحياة... إلخ، وفي نفس الوقت يكون رجال الحكم والبرلمان متدينون في خاصة أنفسهم وأهليهم، بل يُظهرون احترامهم للدين وللشعائر وللهوية دون أن يكون له علاقة بنظام الدولة، وهذه من أخطر أنواع الفتن على دين المسلم، لأنه لا يرى شخصاً معادياً للدين، يطالب بالعلمانية في كل شيء، والإباحية في كل سبيل، وإطلاق الشهوات والهوى كيف شاء.. إنما يرى شخصاً متديناً في ذاته، وربما في أهل بيته.. ويؤدي الشعائر بتبتل وخشوع! ولكنه في ذات الوقت يرى علمانية "الحكم ونظم الحياة" !!
ولعل السبب في هذه الفتنة هو محاولة "التغيير" من داخل إطار الدولة "العلمانية القومية" وهي محاولة مستحيلة تماماً إذا كنا نقصد بهذا التغيير.. "تغيير إسلامي" بعلو الشرع وسيادته، إذ العلمانية القومية تريد أن يكون لها السيادة والمرجعية.. ولا بأس بما يندرج تحتها، والشرع يريد "السيادة المطلقة، والحكم الخالص، والمرجعية الكاملة"، ولا بأس بما يندرج تحته بما يسمح به الشرع ويقره..
إذن، لا "تغيير" إنما "صراع" على السيادة العليا، والمرجعية الكلية.. لمن الحكم ؟
وكل من غفل عن هذه الحقيقة.. وأراد - كما يزعمون - "عودة الإسلام" و"تحكيم الشرع" و"إقامة الدين" لم يصلوا إلى شيء، ولن يصلوا إلى شيء.. سوى الهزيمة، واستفراغ الطاقات، وقطع الطريق على فهم حقيقة المعركة، وطبيعة الصراع.
ولعل النشئة النفسية لشعوب الأمة المسلمة.. جعلتها تفضل "التغيير البطئ" و"انتظار المعجزة" و"المصالحة والتوافق"، ولما يأتي دعاة الإصلاح - الإسلامي الديمقراطي - من داخل إطار الدولة العلمانية.. تطرب الأمة لكلامهم، فهو يتوافق مع نفسيات الشعوب التي تتجنب "الصدام" و"المفاصلة" و"الصراع الدموي".. ويحدث استنزاف لـ "الفكرة الأصلية" قبل أن يحدث استنزاف لـ "الطاقات والأجيال والثروات"، فتتحول فكرة سيادة الشرع، إلى أمور فقهية تفصيلية ليست هي محور القضية أو الاختلاف.. ويتنازع فيها الناس، ويتعصب البعض لشيء غير موجود أصلاً، ويتخرّج الفقهاء والدعاة والقضية الأصلية غائبة عنهم، فضلاً عن عوام الناس.
فما هو الشرع؟
*   *   *
الشرع:
"إن مدلول "الشريعة" في الإسلام لا ينحصر في تلقي الشرائع القانونية من الله وحده. والتحاكم إليها وحدها. والحكم بها دون سواها.. إن مدلول "الشريعة" في الإسلام لا ينحصر في التشريعات القانونية، ولا حتى في أصول الحكم ونظامه وأوضاعه. إن هذا المدلول الضيق لا يمثل مدلول "الشريعة" في الإسلام!
إن "شريعة الله" تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية.. وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضًا.
يتمثل في الاعتقاد والتصور ـ بكل مقومات هذا التصور ـ تصور حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، غيبه وشهوده، وحقيقة الحياة، غيبها وشهودها، وحقيقة الإنسان، والارتباطات بين هذه الحقائق كلها، وتعامل الإنسان معها.
ويتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأصول التي تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده.
ويتمثل في التشريعات القانونية، التي تنظم هذه الأوضاع. وهو ما يطلق عليه اسم "الشريعة" غالبًا بمعناها الضيق الذي لا يمثل حقيقة مدلوها في التصور الإسلامي.
ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك، في القيم والموازين التي تسود المجتمع، ويقوم بها الأشخاص والأشياء والأحداث في الحياة الاجتماعية.
ثم.. يتمثل في "المعرفة" بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة.. باعتبار أن النشاط الفني تعبير إنساني عن تصورات الإنسان وانفعالاته واستجاباته، وعن صورة الوجود والحياة في نفس إنسانية، وهذه كلها يحكمها ـ بل ينشئها ـ في النفس المسلمة  تصورها الإسلامي بشموله لكل جوانب الكون والنفس والحياة، وعلاقتها ببارئ الكون والنفس والحياة! وبتصورها خاصة لحقيقة هذا الإنسان، ومركزه في الكون، وغاية وجوده، ووظيفته، وقيم حياته.. وليس هذا مجرد تصور فكري. إنما هو تصور اعتقادي حي مؤثر فعال دافع مسيطر على كل انبعاث في الكيان الإنساني.
وفي هذا كله لا بد من التلقي عن الله سبحانه". [معالم في الطريق، سيد قطب رحمه الله ]
والشرع في صراع مع العلمانية والقومية.. فالشرع يُعادي العلمانية سواء أكانت لا تحترم الدين، أو تحترمه.. فهو يرفض الحياة على أساس "المتاع والهوى" بل يريد الإنسان والمجتمع والدولة والعالم على صراط الله المستقيم.. في صورة متوازنة تجمع بين الدنيا والآخرة، والجسد والروح، رقي الحياة الدنيا.. والعمل للحياة الأبدية، في صورة فريدة ربانية شاملة متوازنة إيجابية مثالية، ويريد الشرع أن لا يتبع الإنسان هواه؛ فيُضل.. إنما يتبع نور الله الذي أنزله إليه، وليتحقق العدل والسلام الشامل لكل إنسان، فلا يطغى الإنسان ليُشبع نهمه من متاع أو سلطان أو ما خالط عقله من أهواء وأوهام..
كما يحارب الشرع القومية، فهو يجمع الإنسان على الإسلام لا على "جنس" القوم.. ويُفرق بينهم على أساس الدين.. الذي يمكن للإنسان أن يتبعه باختياره، لا عن شيء خارج عن إرادته كأن يختار قومه أو جنسه، ولا يريد الشرع أن يستبيح الإنسان حقوق أقوام غيره، لأجل أنهم من غير جنسه.. بل يحفظ حقوق الجميع، ويكرّم الإنسان، دون تأليه له، ودون أن يخرج عن حدوده، ويفصل فصلاً تاماً بين العبودية التي عليها كل الخلق، وواجباتها.. وبين الألوهية الكاملة التي لله جل جلاله وحده بلا شريك وحقوقها..
والشرع يخوض المعركة في ميدان الضمير، وفي ميدان الحياة.. وإذ العلمانية متسلحة بالقوى المادية، وتدافع عنها، فإن الشرع كذلك يدعو المسلمين إلى "الجهاد" لتحطيم هذه القوى؛ حتى يكون للشرع السيادة المطلقة، والحكم الخالص.. ولا سبيل لسيادة الشرع سوى "الجهاد في سبيل الله"، كل سبيل غيره أثبت فشله الذريع، كل محاولات التغيير من داخل إطار الدولة العلمانية القومية، باءت جميعها بالفشل.. لتتكشف لنا - بعد خوض كل التجارب الفاشلة ورؤية نتائجها رأي العين، والفجع في تضحياتها وآلامها - معنى كلمة "سنة" النبي صلى الله عليه وسلم.. التي يمكن أن نلخصها في: مرحلة "دعوة وبيان" ومرحلة "جهاد وحكم" وأنه لا سبيل لـ "التغيير" داخل أي إطار جاهلي.. فالجاهلية - العلمانية - لن تسمح بأي تغيير يُهدد وجودها، قد تسمح ببعض التعديلات أو المصالحات أو التوافقات أو المشاركات أو الموءامات أو المداهنات.. بل ترحب بها { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم : 9] ولذا نجد كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حاسماً في المواجهة، وكيف كان يأتيه التوجيه القرآني.. بأصل القضية، فقامت الجاهيلة - كما تقوم في كل زمان ومكان - لتدافع عن وجودها بكل ما أوتيت من قوة، وبكل وسيلة ممكنة مستخدمة التشويه والحرب الإعلامية والفكرية والعسكرية والفتن والدساس، ولا بد من المواجهة.. ولا مفر من الصدام - ولكم خسرت الأمة المسلمة كلما فرت من المواجهة، أو حسبت أن هناك طرقاً أخرى أقل تكلفة من الصدام - لذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة كلها غزوات لم تتوقف..
ذلك أن الصراع مع كل مناهج غير منهاج الإسلام، هو "صراع وجودي" لا مفر فيه إلا من علو أحد المناهج، والإسلام لن يقبل أبداً - وبأي حال من الأحوال - أن ينضوي تحت مناهج جاهلية أياً كانت مسمياتها، ولا يُقر بشرعيتها، ولا يتوافق معها، بل يستعلن في جهاد البيان حقيقتها بكل وضوح، ويواجه في جهاد القتال قواتها بكل صرامة؛ حتى يسود الإسلام.
والمسلم عليه أن يجاهد ليسود الشرع، ويستأصل العلمانية.. وكل الأفكار والنظم الجاهلية، ويجب أن تستقر هذه الحقيقة في ذهنه، وأن يدعو إليها، ويُبينها للناس من كل طريق، فهذه هي حقيقة المعركة، وعليها ينعقد "الولاء والبراء"، ولها نعطي ثمرة القلب، وصفقة اليد.
والمسلم يؤمن ويَدين ويخضع لـ "شرع الله" بالجملة وعلى الغيب، فهذا معنى إسلامه.. وهو الاستسلام لله رب العالمين بلا شريك، وإن الشرع: منظومة متكاملة تستهدف كل الحياة، وتصبغ الحياة بصبغة الإسلام، وللشرع كليات ثابتة جاءت بها الشريعة، وأمور سكتت عنها وحددت الإطار العام لها؛ ليجتهد المسلمون في إقامتها - وفق ظروفهم الحضارية - على الوجه الذي يحقق الحق والعدل الرباني.. ومن هنا كان الفقه الإسلامي.
*   *   *
الفقه الإسلامي:
الفقه الإسلامي هو "جهد بشري" لاستنباط الأحكام من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما صح من قوله الشريف.
فما الفرق بين الشريعة والفقه ؟
"إن الشريعة الإسلامية شيء، والفقه الإسلامي شيء آخر، وإنهما ليسا متساويين لا في المصدر، ولا في الحجية، وإن موقفنا في استحياء مقومات المجتمع الإسلامي ونظمه منهما ليس واحداً.
وإن الصورة أو الصور التاريخية للمجتمع الإسلامي، ليست هي الصورة أو الصور النهائية لهذا المجتمع، بل إن هنالك صوراً متجددة أبداً، يمكن أن تحمل هذا الوصف "الإسلامي" وتنبثق من الفكرة الإسلامية الكلية، وتعيش في إطارها العام.
إن الشريعة الإسلامية ثابته لا تتغير.. لأنها المبادئ الكلية الأساسية لهذا الدين القيم الذي ارتضاه الله للناس كافة: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19]. { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85]. وقد كملت هذه الشريعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتهت إلى غايتها التي أراد الله لها الدوام أبدًا: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة: 3] وتقررت كذلك نظامًا للحكم، ودستورًا للعدل، لا مفر من اتباعه، ولا يُقبل من المسلم أن ينحرف عنه: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44]. { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر: 7].
ولكن الحياة تندفع دائماً إلى الأمام، وتتجدد حاجاتها ومطالبها وتتغير علاقات الناس فيها ووسائل العمل وطرق الإنتاج، وتبرز إلى الوجود أوضاع جديدة، ومشاعر جديدة، وأهداف جديدة؛ فكيف إذن يمكن لفكرة ثابتة أن تواجه حاجات وأحوالاً متجددة؟ كيف يمكن لهذه الحاجات والأحوال أن تتحرك وتنمو في ظل فكرة ثابتة؟
هذا ما فطننت إليه الشريعة الإسلامية قبل كل شيء، فجاءت في صورة مبادئ كلية وقواعد عامة يمكن أن ينبثق منها عشرات الصور الاجتماعية الحية وتعيش في داخل إطارها العام، وتتخذ منها مقوماتها الأساسية، ثم تختلف بعد ذلك في التفريعات والتطبيقات ما تشاء، دون أن تصادم الأهداف الثابتة والغايات الدائمة، التي تتعلق بالإنسان بوصوفه إنساناً لا بوصفه فرداً معيناً في حيز من الزمان والمكان، ولا جيلاً محدوداً في فترة من فترات التاريخ....
الشريعة الإسلامية إذن ثابتة لا تتغير لأنها ترسم إطاراً واسعاً شاملاً يتسع لكل تطور. أما الفقه الإسلامي فمتغير لأنه يتعلق بتطبيقات قانونية لتلك المبادئ العامة في القضايا والأوضاع المتجددة التي تنشأ من تطور الحياة، وتغير العلاقات وتجدد الحاجات.
الشريعة الإسلامية من صنع الله. ومصدرها القرآن والسنة. والفقه الإسلامي من صنع البشر استمدوه من فهمهم وتفسيرهم وتطبيقهم للشريعة، في ظروف خاصة، وتلبية لحاجات خاصة، واستيحاء لأوضاع جيلهم الذي عاشوا فيه، وفهمه للأمور وتقديره للغايات والأهداف، ومصالحه التي تمليها الوقائع والأشياء، وأيّا ما كان بصر هؤلاء الرجال الذين وضعوا الفقه الإسلامي، وأيّا ما كان إدراكهم لروح هذه الشريعة ومراميها، وأيّا ما كانت سعة آفاقهم ودقة تقديراتهم - وهو الواقع فعلاً - فإنه ينبغي أن نضع في الحسبان دائماً أن تشريعاتهم الفقهية كانت تلبية لحاجات زمانهم الواقعية. وحتى الفروض النظرية التي افترضوها وأجابوا عنها لم تكن إلا من وحي هذه الحاجات، أو من وحي منطق البيئة التي أحاطت بهم والعصر الذي عاشوا فيه، والعلاقات والارتباطات الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك البيئة وفي هذا العصر.
وهذه النظرية العامة لا تقتصر على فقهاء الإسلام الذين عرفوا بهذا اللقب، إنما تشمل كذلك حتى صحابة رسول الله - بعد موته صلى الله عليه وسلم - فأبو بكر وعمر وعلي وابن عباس وابن عمر وإخوانهم - رضي الله عنهم - وهم أكثر بصراً بشريعة الإسلام من غير شك، وأعمق إدراكاً لمبادئها واتجاهاتها بلا جدال. ولكن تطبيقاتهم لهذه الشريعة لا تخرج عن تلك القاعدة، وهي أنها جاءت تلبية مباشرة لحاجات البيئة ومقتضيات العصر، ولا يمكن أبداً أن تصبح جزءاً مقدساً من الشريعة - ومصدرها هو القرآن وسنة رسول الله وحدهما - وما عدا هذين المصدرين فهو فقه إسلامي تختلف درجة حجيته بقياس بعضه إلى بعض، وينير الطريق للأجيال التالية، ويساعدها على الفهم، ويرشدها في طريقة التطبيق والاستنتاج.
ويحسن قبل أن نمضي في تفصيل هذه القاعدة أن نفرق بين نهرين عظيمين في الفقه الإسلامي! نهر العبادات ونهر المعاملات - وإن يكن هنالك ارتباط وثيق في طبيعة العقيدة الإسلامية بينهما جميعاً - فالفقه الخاص بالعبادات أكثر ثباتاً واستقراراً، لأنه يتعلق بشعائر تعبدية لا تتأثر بتوالي العصور والأجيال، وأما الفقه الخاص بالمعاملات، فهو أكثر تطوراً، لأنه أشد تأثراً بالحاجات البشرية المتجددة التي لا تستقر على وضع معين، بحكم تشابك العلاقات، وتغير الأحوال، وبروز أوضاع وعلاقات اجتماعية جديدة لم تكن من قبل في الحساب....
ولما كانت الحالات الاجتماعية لا تتكرر أبداً في التاريخ، إنما تتشابه مجرد تشابه، فإن أي حكم تطبيقي في حالة مضت ليس من شرع الله ولا من عمل رسول الله - إنما يصلح للاسترشاد به والاستشهاد به في الحالات المشابهة التي تعرض للأجيال المتجددة، ولكنه لا يبلغ حد الإلزام المطلق، لأنه مجرد رأي بشري في شريعة الله، ليس جزءاً من الشريعة الثابتة الصادرة من الله.
ومتى سلّمنا بهذه القاعدة بالقياس إلى خلفاء رسول الله وصحابته فإنها تصبح بالقياس إلى فقهاء الإسلام أصحاب المذاهب وغيرهم بديهية واضحة لا تحتاج إلى جدال.
هذا فيما يتعلق بالشريعة والفقه، أما فيما يتعلق بالمجتمع وأطواره، فإن الصور التاريخية للمجتمع الإسلامي لا تحدد ولا تستوعب كل الصور الممكنة للمجتمع الإسلامي ولكل جيل أن يبدع نظمه الاجتماعية في حدود المبادئ الإسلامية، وأن يلبي حاجات زمانه باجتهادات فقهية قائمة على الأصول الكلية للشريعة على شرط اتباع مناهج صحيحة في الاجتهاد واتفاق بين جمهرة فقهاء الأمة الإسلامية في كل جيل، بحيث لا ندع الأمر فوضى لكل من شاء كيف شاء....
ومعجزة هذا الإسلام الكبرى، هي أنه يملك أن يحافظ على مبادئه وخصائصه، وأن يسمح في الوقت ذاته ببروز صور شتى من المجتمعات كلها قائم على تلك المبادئ والخصائص....
وفيما يختص بالتفريعات والتطبيقات التي يحتاج إليها المجتمع لمسايرة الحاجات الزمنية المتجددة لا يخرج الأمر عن أربعة احتمالات:
الأول: أن تكون الشريعة قد نصت على حكم معين نصاً صريحاً، فهو إذن واجب التطبيق دون تحوير أو تبديل، لأنه في هذه الحالة إما أن يكون متعلقاً بركن أساسي من أركان المجتمع الإسلامي التي أريد لها الدوام، لأنها أصيلة في كيان هذا المجتمع، مميزة له عما سواه من مجتمعات، كالنص على تحريم الربا، لأن الربا يتعارض تعارضاً أساسياً مع القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي يريد الإسلام أن يقيم مجتمعه عليها، ولا سبيل إلى التوفيق بينهما ولا إلى تعديل في تلك القاعدة الأساسية الأولى، وإما أن يكون متعلقاً بسمة أساسية من سمات هذه المجتمع أريد تثبيتها والمحافظة عليها للمحافظة على هدف دائم في كل زمان ومكان كالنص على الحدود الإسلامية تحقيقاً لمبادئ أخلاقية معينة يراد لها الثبات في المجتمع الإسلامي، وإما أن يكون متعلقاً بمبدإ تشريعي لا يتغير أصله بتغير الزمان والمكان كالنص على وجوب كتابة الدين المؤجل - غير التجاري - والإشهاد عليه مع الكتابة، إلا أن يكون تجارة حاضرة فيجوز إثباته بشهادة الشهود، لأن في النص من الموافقة لأحوال التعامل ما يضمن صلاحيته واستمراره.
ونحن إذا تتبعنا الأحكام الثابتة في الشريعة وجدناها كلها تتعلق بمثل هذه المعاني فثبوتها إذن لا يعني الجمود، لأنه يتعلق بأهداف ثابتة....
الثاني: أن تكون الشريعة قد جاءت فيه بنص أو نصوص قابلة للتأويل فيكون حينئذ قابلاً للاجتهاد ترجيحاً أو توفيقاً بين النصوص المختلفة إن كانت، أو بين النص الواحد والحالة المراد تطبيقه عليها، وذلك مع الاسترشاد بالتطبيقات العملية في صدر الإسلام إن وجدت، والاستعانة بأقوال الفقهاء في المسألة، ولكن دون التزام كامل بتلك التطبيقات أو بهذه الأقوال التي لم تكن إلا تلبية مباشرة لحاجات العصر الموقوتة.
الثالث: أن تكون الشريعة جاءت بمبدإ عام، تدخل هذه المسألة الخاصة فيه ضمناً، ولكنه لا ينص عليها تصريحاً، وعندئذ يكون الأمر موضوع اجتهاد في تطبيق المبدإ العام على الجزئية المعروضة مع الاسترشاد بالسوابق التاريخية والأحكام الفقهية مجرد استرشاد..
الرابع: أن تكون الشريعة قد سكتت عن هذا الأمر، فهو متروك إذن للاجتهاد المطلق، على ألا يصدم الحكم الذي وصل إليه مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية، ولا أصلاً من أصوله التشريعية ولنا أن نسترشد فيه بتصرف فقهاء الإسلام في مثل هذه الأحوال..
بهذا نحتفظ للفكر الإسلامي بمرونته، وللنظام الإسلامي بتجدده، ونخلص كذلك من التعقيدات الفقهية التي جاءت في العصور المتأخرة، والتي تشيع اليأس في رواد الشريعة الإسلامية عن طريق هذا الفقه المعقد، لأنهم يحسبونه أصلاً من أصول الشريعة لا تتاح لإنسان معرفة الإسلام إلا بدراسته، على حين أن الأحكام الفقهية لا تزيد على أن تكون محاولات بشرية لتفسير تلك الشريعة وتطبيقها تفسيراً وتطبيقاً صالحاً لفترة معينة من الزمان، ومستمداً من روح هذه الفترة وتصوراتها للحياة، وقد لا تصلح هذه المحاولات لأكثر من زمانها، والفهم الصحيح لروح الإسلام وطريقة الإسلام في علاج الحياة يحتم علينا أن نرجع دائماً إلى الشريعة البسيطة المجملة نستلهمها حاجات زماننا استلهاماً مباشراً، كما صنع الفقهاء المجتهدون في أيامهم، تلبية لحاجات أمتهم وزمانهم.
وأحب قبل أن أختم هذا المقال، أن أزيد المنهج إيضاحاً:
لقد استمر نمو الفقه الإسلامي وتطوره إلى نحو القرن الثامن بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وكان في نموه وتطوره متابعاً لنمو المجتمع الإسلامي وتطوره كذلك. وملبياً لحاجاته المتجددة حسب بروز تلك الحاجات؛ لأن الشريعة الإسلامية كانت هي التي تحكم المجتمع وتصرفه في معظم شئونه.
وأقول في معظم شئونه - لا في جميعها - لأن سياسة الحكم وسياسة المال قد انحرفت قليلاً أو كثيراً عن مبادئ الإسلام وأصول الشريعة، منذ أن بدأ الملك العضوض على يدى معاوية، وانقضت أيام الخلافة الرشيدة.
ومهما تكن هذه الانحرافات جزئية في نشأتها، فقد أخذت تعظم شيئاً فشيئاً، وأخذ ظل الشريعة السمحة يتقلص شيئاً فشيئاً كذلك عن نواح من نشاط المجتمعات الإسلامية، وشيئاً فشيئاً كان نمو الفقه الإسلامي يتقلص كذلك عن هذه النواحي، بينما يستمر هذا النمو ويزداد في النواحي الطليقة التي تركت الحكومات المنحرفة للناس وللفقهاء أن يتحدثوا فيها...
ومن هنا نشأ ذلك التضخم في فقه العبادات في العصور المظلمة وذلك الانكماش في فقه النظم الاجتماعية، لأن مجال العبادات كان هو المجال المأمون الذي لا تؤذي فيه الثرثرة؛ بل ربما تفيد لأنها تشغل أذهان الرعية بالجدل الفقي عن مناقشة الأوضاع الاجتماعية السائدة في تلك العصور !!
ومع هذا وصل الفقه الإسلامي في حقوله كافة إلى فتوحات عظيمة حتى القرن الثامن الهجري، وبخاصة في التشريع الجنائي، والتشريع المدني.
وكذلك في التشريع التجاري، وقد كان هذا الحقل الأخير هو الذي استمدت منه أوربا نقلاً عن المجتمع الإسلامي في الأندلس وأفادت منه فائدة كبرى في تشريعها التجاري الحالي، ولكن هذا الفقه قد وقف نموه أو كاد منذ القرن الثامن الهجري وذلك تبعاً لركود المجتمع الإسلامي ذاته بحيث لم يعد يجد فيه من التغيرات والحاجات ما يستدعي اجتهاداً فقهياً ذا بال.. حتى إذا قفزت الحياة قفزاتها الواسعة في القرون الثلاثة الأخيرة وتجدد المجتمع الإنساني طفرة، لم يكن الفقه الإسلامي على استعداد لمسايرة الحياة المتوثبة، وبذلك وجدت فجوة تاريخية ضخمة في تسلسل هذا الفقه ومسايرته للحياة الجديدة، وحاجاتها التي تضاعفت أضعافاً كثيرة.
فماذا نصنع نحن اليوم إذا أردنا تحكيم الشريعة الإسلامية في مجتمعنا الحاضر؟
إن أمامنا طريقين اثنين:
الأول: أن نتابع خطوات الفقه الإسلامي من حيث وقفت، لكي يستجد من البحوث ما يملأ هذه الفجوة الواسعة العميقة. ولكي تكون هذه التنمية طبيعية لا مصطنعة، فإنه يجب أن نتتبع الأحوال الاجتماعية، والحاجات اليومية التي برزت وتسلسلت في خلال القرون الثلاثة الأخيرة؛ لنتابعها بدراسات فقهية متطورة متسلسلة حتى نجيء بها إلى العصر الحاضر، وفي تسلسل طبيعي حي كالذي تم في القرون الثمانية الأولى. ولما كانت الأحوال الاجتماعية الماضية لا يمكن الإحاطة بها على وجه الدقة فإن عملنا إذاً سيكون قائماً على فروض، لا نأمن الزلل فيها. فضلاً عن أنها ستكون محاولة اصطناعية لأن الحاجة الواقعة التي تستلزم تشريعاً معيناً ليست هي التي تلجئنا إلى هذه المحاولة، إنما هي مجرد افتراضات لحاجات لا نحس بها اليوم، لأن عجلة الزمن قد تجاوزتها في سير الزمان الطويل.
وبغير تنمية الفقه الإسلامي على هذا النحو حتى نصل به إلى الوقت الحاضر، يصبح رجوعنا إلى هذا الفقه في الجانب الاجتماعي - لغير مجرد الاسترشاد - عملية تعسفية لا تمدنا بحلول  كاملة لمشكلاتنا الواقعية.
الثاني: أن نرجع مباشرة إلى الشريعة الإسلامية، إلى مبادئها العامة وتشريعاتها الكلية، نستلهمها حلولاً تطبيقية لمشكلاتنا المعاصرة، كما فعل من قلبنا من فقهاء الإسلام حينما دعتهم حاجات زمانهم إلى استلهام تلك الشريعة. مسترشدين مع هذا بطريقتهم في التطبيق ومستعينين بما وصلوا إليه من أحكام.. وهذا في نظري هو الطريق المعقول، إن لم يكن هو الطريق الوحيد.
وعلى هذا الطريق سنسير في تشخيص مقومات المجتمع الإسلامي، الذي نعتقد أنه مجتمع المستقبل، لا بالقياس إلى العالم الإسلامي وحده، بل بالقياس إلى العالم الإنساني". [ نحو مجتمع إسلامي، فصل كيف نستوحي الإسلام؟ - سيد قطب رحمه الله ]
وللفقه الإسلامي مذاهب ورجال وأئمة وعلماء، بذلوا جهداً علمياً وفكرياً عظيماً لمواكبة مستجدات عصرهم، وما تغيرت فيه من أحوال، وما تنوعت فيه من ظروف وملابسات..
والفقه الإسلامي علم يستطيع الإنسان أن يخوض بحاره دون الحاجة لأن تُقدّسه طبقة إكليروس - كما في النصرانية - ويستطيع أن يبلغ فيه ما شاء من مراتب على قدر وسعه وطاقته..
والفقيه إنما يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يجمع الأدلة، ويمحصها، ويتفكر فيها، ثم يراجع الحالة الواقعية من كافة أبعادها، وتصوراتها، ثم "يحاول" استخلاص واستنباط الحكم الفقهي، ثم يتابع تحقيق مقاصد الشرع العامة، ثم بعد هذا الجهد الجهيد.. يقدم قوله وفتاواه في حالة من "الوجل" و"الخوف" أن لا يكون وافق مراد الله من الحكم، أو لم يوفقه الله، أو لم يتقبل الله عمله، ويقدم قوله وهو يرجو أن يكون وافق حكم الله، وما يريده الله من الحق والعدل..
وهذه الحالة النفسية من "الوجل" في نفس الفقيه، تدفعه إلى تحري الحق في المسائل بلا هوى أو حكم مسبق أو تعصب، وتجعله يُعمل غاية جهده في النظر والتفكر في كل جزئية من المسألة، حتى لا يقع في جهل، أو خطأ، أو نسيان..
ومتى أخلص الفقيه - وكل إنسان - عمله إلى الله، وابتغى به وجهه وتجرد من كل حظ وهوى وسمعة ورياء وتعصب.. هداه الله إلى ما يحبه ويرضاه.. وتوفيق الله وهدايته ونوره وفضله ومعيته وحكمته مفتوحة "دوماً" لكل من يجاهد ليعرف سبيل الله ومرضاته وهداه.
ولكن - وللأسف - ظن خلق كثير أن نور الله وهدايته وعلمه وفضله وحكمته، قد توقف - والعياذ بالله - عند جيل من الأجيال، أو قوم من الأقوام، أو زمن من الأزمان، أو أفراد بعنيهم دون غيرهم.. فوقعوا - ولا شك - في "التعصب الفقهي" و"الصراع المذهبي بين المدارس الفقهية" حتى حل "الجمود" و"الجفاف" الفقهي.. وصار مفهوم الناس عن "الشرع" أن هو "المذهب الفقهي" أو هو "الشيخ الفلاني" !! وفي ذلك كارثة خطيرة على الشرع والفقه سواء..
فإن هذا الشرع جاء ليحكم العالم، ويجمع الإنسانية كلها تحت ظله وعدله ورحمته.. وجاء ليخاطب ويحكم الإنسان.. لا لصد الناس عن سبيل الله، بتصرفات تُنسب إلى الشرع وليست منه !
وأما الفقه: وما يستخرجه البشر بجهدهم، وعلمهم، فلا يظن أحد أن هو "الشرع" الذي نُجاهد من أجله أو ينعقد عليه الولاء والبراء، ولا يظن أحد أن شيخه - مهما كان - هو "محور الكون والحياة" في صورة من اختزال وتقزيم الشرع! ولما وقع ذلك.. أصبح الناس يجعلون مع كتاب الله كتباً أخرى تتقدم عليه، بل وأصبحوا يُقدسون أقوال الرجال، بل ويمنعون "سعة الشرع ورحمته" عن الناس؛ فيصدون عن سبيل الله بغير علم ! ويفرضون على الناس ما لم يفرضه الشرع عليهم، فتصف ألسنتهم الحلال والحرام بما لم يأذن به الله.. ويحسب البعض أن سعة الشرع ورحمته - في مسائل ما - هي حراماً، فيشيعون بين الناس حرمتها ! ويشعر الناس حرجاً في كتاب الله وشرعه، وفجوة هائلة بعيدة عنه !
وهنا تجد العلمانية فرصتها الذهبية في النيل من الشرع كله.. فتروح تضخم بعض الممارسات الفقهية التي فيها غلو أو شطط أو تشدد لتقول للناس: انظروا هذا هو الشرع الذي يريدون أن يحكم، انظروا إلى العلمانية كم فيها من الحقوق والحريات والمتاع.. وبينما الشرع يخاطب في الإنسان الإيمان والبذل والجهد والعطاء، و(يجتهد) الإنسان لضبط نفسه وفق مراد الشرع، واستسلامه لله رب العالمين، تخاطب العلمانية (شهوات) الإنسان، وهواه وما يميل له من التفلت، والانطلاق؛ ليفجر أمامه ! فتقع الفتنة، ويقع الصد عن سبيل الله.
*   *   *
إننا بحاجة ماسة ونحن ندعو الناس إلى شرع الله، إلى إعادة النظر في الفقه الإسلامي.. والدخول عليه بقلب وعقل وروح من يؤمن أن الله - جل جلاله - يمكن أن يفتح عليه ما لم يفتح على السابقين، وأن نوره وهدايته وحكمته وفضله لم يتوقف عند حد أو زمان، بل هو دائم لكل من أخلص وابتغى وجه الله الكريم..
وإن للسابقين فضلهم وعلمهم وأنهم إخوة وأئمة لنا في الدين لا نحمل لهم غلاً ولا حقداً ولا حسداً.. إنما نحمل لهم أواصر الحب والود والأخوة الممتدة في شعاب الزمان، وإن الفقه الإسلامي لا يهتم بتفصيلات الأحكام الفقهية، ويترك حقيقة الإيمان، ويهمل بناء الأخلاق، وتزكية النفوس.. كما لا يحاسب رجال هذا الفقه على "البعوضة" ويبلعون "الجمل" !
وإننا نبتغي أن لا "نتشدد" على الناس فيما "وسع" الشرع فيه، ولا "نتهاون" فيما "شدد" الشرع فيه.. ونتجه ونجتهد لبناء الإنسان والمجتمع والدولة بالحق والعدل الرباني، ولا نفرض على الناس مذهباً، بينما يمكنهم أن يسعهم غيره، فلا نعتقد "الحق المطلق" إلا في كتاب الله جل جلاله، وما "صح" عن نبيه صلى الله عليه وسلم.. فهو لا ينطق عن الهوى.
وإن معركتنا الأولى والأصلية هي بين الإسلام والعلمانية.. لمن الحكم والسيادة؟ وحتى يعلو الإسلام، وتسود الشريعة، فلا سبيل إلا "الجهاد في سبيل الله".

*   *   *