قائمة المدونة محتويات المدونة

07‏/04‏/2015

سبيل نجاة

هناك قارئ يقرأ لكي يتسلى، وهناك قارئ يقرأ هواية أو ليزداد ثقافة، وهناك قارئ يقرأ ليسخر من الضغط الواقعي، ويتلذذ بنقده، وهناك قارئ يبحث عن حل سريع لمشكلاته من خلال قراءته، وهناك قارئ يقرأ للواجهة الاجتماعية أو ليرسم صورة مزيفة عن أو لنفسه، وهناك قارئ يبحث عن من ينكأ جراحه ويجلد ذاته، ليشعر بعدها براحة الضمير! وهناك فئة تقرأ بصدق لتصل إلى حياة أفضل من خلال الثقافة التي تتناولها.. ولكنها ـ  في النهايةـ تحتفظ بالثقافة على أرفف المكتبات وتستسلم للواقع وضغطه.

إلى كل هؤلاء جميعًا.. لا أكتب إليهم هذه الكلمات.
هذه الكلمات.. لمن شعر أن هناك خلل ما في حياته. لمن يستطيع أن يُعبأ إرادته من أجل حياة طيبة. لمن أدرك أن روح الإنسان وعقله، هي الشيئ الذي يميز الإنسان. لمن آمن أن إنسانية الإنسان وقيمته أعلى من أي قيمة مادية أخرى. لمن تخلص من نفاق نفسه وكذبه عليها.. وأراد أن يحيى حياة صادقة. لمن تحلى بالشجاعة فقتل نفسه المستعبدة.. وعرف أن ميلاد الإنسان حقيقة لابد منها. لمن يبحث عن سبيل نجاة.
ينقسم أغلب حال الناس في الأرض بين المستكبِرين والمستضَعفين:
المستكبرين: هم الحكام والملوك ومؤسساتهم ورجالهم، واليد الأمنية التي تحميهم، وأصحاب الأموال.. التي تتكدس في قبضتهم دماء وعرق المستضعفين.
المستضعَفين: هم الذين تحكمهم الرؤساء والملوك، وترهبهم القبضة الأمنية، وتسرقهم أصحاب الأموال.. ثم يخافون المواجهة، ويستسلهون الاستسلام.
ثم تنشأ وتنمو علاقة نفعية ومصالح فردية بين الحكام والأمن وأصحاب الأموال من جانب.. وعلاقة نفعية ـ بصورة أخرى ـ بين المستكبرين والمستضعفين. ثم تمضي بهم الحياة جميعًا.. إلى الهلاك.
صورة متكررة في تاريخ البشرية جمعاء.. اختلفت الأسماء والمسميات والأشكال، ولكن بقي المضمون كما هو واحد.. وكانت الرسالات السماوية تتوالى لتواجه هذا الباطل والظلم الواقع في الأرض، ولتهدي الناس إلى طريق الحق وإلى صراط مستقيم.
كانت الرسالات السماوية وأنبياءها وروسلها جميعها تواجه هذا الواقع..
تواجه استكبار وعناد وإعراض، وتحقير وتسفيه ومحاربة وعداوة من المستكبرين.. وذلك لأن الرسالات تأمر ـ باسم الله سبحانه الذي له الخلق والأمر، في السماء إله وفي الأرض إله ـ أن تقيم الحق والعدل الرباني في أرض الله، وهذا ما كان يتعارض بشكل مباشر مع مصالح المستكبرين الذي زعموا لأنفسهم ـ سواء أعلنوا ذلك أم لم يعلنوا ـ أنهم ألهة في الأرض أو أنهم أصحاب حق في التسلط على المستضعفين أو أن تتجمع في أيدي قليلة منهم ثروات الأرض، وأن هذا حق طبيعي مكتسب لهم بحكم أنهم من أهل الحكم أو من الأمن أو من أصحاب الأموال.
ثم كانت تواجه على الجانب الآخر خذلان، وضعف، وكذب، ونفاق، وجبن، وتكاسل، وتباطؤ، وخنوع، وذلة، واستسلام، وجهل، وشك، وغفلة، ويأس من المستضعفين.. وذلك لأن الرسالات تأمر ـ باسم الله سبحانه الذي كرّم الإنسان وجعله خليفة الله في الأرض ـ أن يكون الإنسان حرًا مكرمًا.. لا يستضعفه أحد ولا يستعبده أحد ولا يستذله أحد، فهو عبد لله سبحانه وحده بلا شريك، هو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وهو الذي إليه مرجعه ومصيره، فكان على المستضعفين أن يدركوا إنسانيتهم وخلافتهم وأمانتهم في الأرض، وما يتطلب ذلك من التحرر من الظلم وأهله، والاستعداد لميلاد جديد تكون العبودية فيه لله وحده بلا شريك، وخوض المواجهة الحتمية التي ستقع في سبيل هذا الحق، وهذا ما كان يتعارض مع التركيبة النفسية التي ألفها وتعودها المستضعفين والتي أبرز سماتها النفاق والجبن، وظنوا ـ ويا للعجب ـ أن هذه فطرتهم الطبيعية، وما عداها شذوذًا وخروجًا على المألوف!.
هناك تشابه واضح ـ وإن كان هناك تناقض بينهم في المسميات ـ بين المستكبرين والمستضعفين في موقفهم من الرسالة السماوية، وهو الأعراض عنها من أجل مصلحة أو ضعف أو أيًا كان السبب، فالنتيجة النهائية هي عدم الاستجابة لها.. ولهذا حَكم الله سبحانه ـ رغم التناقض بين كلمتي الاستكبار والاستضعاف ـ بأن يكون مصير الأثنين واحد، وجزاء واحد، فجعل الأغلال في أعناقهم جميعًا، فيقول تعالى:
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ. وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ 31:33]
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر 47، 48]
 {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [إبراهيم21]
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة 166، 167]
بالاستكشاف النفسي والواقعي لحال المستكبرين والمستضعفين، تتبين حقيقة الإعراض من جانب كل منهم، وكان هذا الإعراض صورة واضحة بارزة في الرسالات السماوية السابقة، وكانت صورة الأنبياء والرسل مع من استجابوا استجابة واقعية حقيقة مشرقة، هادية لطريق الله الحق..
والذين استجابوا للرسالات السماوية وكانوا مع الأنبياء والرسل، بالطبع لم يكونوا من المستكبرين الذي أصروا على الاستكبار، ولا من المستضعفين الذي أصروا على الاستضعاف.. بل كانوا إما ممن خلع وانسلخ من رداء الاستكبار، وتهاوى استكباره وعناده أمام عظمة الله سبحانه؛ فاستجاب لأمر الله سبحانه فكان هذا هو ميلاد النفس المسلمة التي وعدها الله نصره وجنته. وإما كانوا من المستضعفين الذين قتلوا نفوسهم المستعبدة، وانسلخوا من ذواتهم الضعيفة، وتحرروا من أغلالهم، وعادتهم، والآصار التي صارت عليهم؛ فاستجبوا لأمر الله سبحانه فكان هذا هو ميلاد النفس المسلمة التي وعدها الله نصره وجنته.
حتى بلوغي إلى هذه الكلمات، قد يشعر البعض أن هذه الكلمات كأنها تتحدث عن واقع غير واقعنا الذي نعيشه الآن.. وأن الذي ذكرته كان واقعًا تاريخيًا، لا يمكن أن نسقطه على واقعنا الآن، لأن صورة الإعراض غير واضحة.. وهذا ما أريد أن أزيد من إيضاحه، حتى تتبين السبُل، وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.
في الرسالات السابقة قبل الإسلام.. كان الرسول أو النبي يأتي إلى قومه خاصة، يدعوهم إلى عبادة الله في جحيم واقع الاستبكار من جانب، والاستضعاف من جانب آخر، فيأتيه الإعراض على الصورة السابق شرحها من المستكبرين والمستضعفين، يؤمن معه قله.. ويستعلن كل فريق عن موقفه في غاية الوضوح والإصرار.. ثم يمهلهم الله ما شاء أن يمهلهم ثم يهلك المستكبرين والمستضعفين.. وينجي عباده المؤمنين، ثم تمضي الرسالة مرة أخرى إلى حيث يريد أن يجعلها الله سبحانه.
لما جاء الإسلام واجه نفس الواقع، الاستكبار والاستضعاف.. وآمن مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم - قله في البداية، وعاش هذا الواقع ما يزيد على ثلاثة عشر عامًا وكان موقف المستكبرين والمستضعفين في هذه الفترة بالتحديد ـ قبل الهجرة إلى المدينة ـ شبيه من حيث الوضوح والإصرار بواقع الرسالات السابقة..
ولما كان الإسلام خاتم الرسالات السماوية جميعها، وكانت بعثة الإسلام على يد الرسول الكريم إلى الناس جميعًا في الأرض كلها.. كان لها تميز خاص في رسولها وفي روادها الأوائل.. وفي مجتمعها الذي امتدحه الله سبحانه دون أي أمة فقال:  {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران110]
ثم كانت الهجرة إلى المدينة، وتكوين دولة مسلمة أقامت أعظم حضارة ربانية في تاريخ البشرية كلها.. كان لهذه الدولة، وتلك الحضارة تميز خاص.. يحمل قيمته ومعانيه في ذاته.. قيم وموزاين، وأخلاق وسلوك، وعمل وسعي.. وخلافة ربانية في الأرض لم تعرفها البشرية من قبل، وإذا كانت قد عرفت جانب منها، فلم تستطع تحقيقه مثلما حققته هذه الدولة المسلمة وخلافتها الراشدة فيما بعد..
ومنذ قيام الدولة المسلمة على يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدنية دخلت فئة "المنافقين" إلى جسد الدولة المسلمة ـ وكم هو داء عضال متشعب ومتنوع ـ ولطالما حذر القرآن الكريم من هؤلاء المنافقين، وتحدث عنهم وعن نفسياتهم طويلاً.. وذلك لأن هؤلاء المنافقين ليسوا على صورة واضحة من موقفهم.. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يلتبس على الناظرين على أي موقف هم، وإلى أي طريق يسلكون.. إنهم يعطوا صورة مخالفة للمضمون وللحقيقة التي هم عليها. ولا يُعرف مباشرة ما هو موقفهم الحقيقي من هذه الرسالة السماوية، بعكس الموقف قبل ذلك في الرسالات الأخرى والتي كانت تحوي موقفين اثنين: موقف المستكبرين والمستضعفين، وموقف الرسول والذين آمنوا معه.. بينما في رسالة الإسلام الأخيرة، وبحكم قيام دولة وحضارة وقوة وشوكة للإسلام ظهرت صورة ثالثة غير موقف المستكبرين والمستضعفين، وموقف الرسول والذين آمنوا معه.. هي صورة "المنافقين" وهي شعب ودركات وأحوال.. لعب في بلورتها والتأثير فيها انتهاء عصر الخلافة الراشدة، وبدأ مرحلة الملك العضوض.. ثم انهيار الخلافة الإسلامية وبدأ مرحلة الاحتلال والملك الجبري الذي نحن في أشد صوره الآن، وأعمق صور التسلط والظلم.. ولا يسمح المقام إلى ذكر تفصيلات هذا التحول التاريخي.. وحسبنا أن نتأمل حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال: "لتنقضن عرى هذا الدين عروة عروة، كلما نقضت عروة استمسك الناس بالتي بعدها، فأولن نقضًا الحكم، وأخرهن نقضًا الصلاة" [رواه أحمد]
ومثلما دخلت فئة من المنافقين في دولة الإسلام، بحكم شوكته وعلوه في الأرض في التمكين الأول للإسلام.. ظهرت طبيعة جديدة ومختلفة من النفاق في مرحلة "الملك الجبري والطواغيت" - بحسب التصنيف النبوي لمرحل الإسلام في الأرض - وبحسب مسميات الآن فهي مرحلة الاستبداد والتسلط والعملاء والاحتلال بكل أشكاله وأنواعه وأحواله ودرجاته وأدوات سيطرته..
وهي من حيث فهمها وتناولها أشد صعوبة من حال المنافقين في الدولة المسلمة الأولى في المدينة.. فأولئك كانوا يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر.. وهذا النفاق هو أشد درجات النفاق وهو النفاق المخرج من الملة.. ومثلما الإيمان شعب ودرجات، فكذلك النفاق شعب ودركات..
تغلغلت هذه الصورة وتبلورت وتفاقمت بشكل بالغ لدرجة يصعب معها تحديد موقف أو استبصار طريق..
الآن يوجد مستكبرين، ومستضعفين.. وآخر الرسالات السماوية لأهل الأرض جميعًا. مصحوبة بحرب علنية وأخرى خفية ـ أشد ضراوة ـ على الرسالة ومن أراد حملها أو على من أراد ميلاد إنسان يؤدي أمانتها.
الآن يوجد وسائل إعلام وتوجيه عالمية تفرض ـ بوعي من الناس أو بدون وعي ـ أنماط فكر، وأنماط شعور، وأنماط سلوك.. بل وأنماط حياة.
الآن يوجد صراع عالمي على المادة.. وتجري من أجلها أنهار من الدماء.
الآن يوجد ملايين من البشر مستعدة أن تبيع نفسها من أجل دراهم معدودة.
الآن تقوم الحرب على روح الإنسان وقلبه وعقله، بمؤسسات متخصصة وبخطط تحدد كل خطوة تريدها.
الآن يوجد فساد وجهل وتغييب وسيطرة واستعباد للإنسان.
الآن يوجد إنسان لا يعرف في حياته غاية سوى الطعام والجنس.
الآن يرتد الإنسان إلى صورة أحط من الحيوان.. الآن يسقط الإنسان في هاوية تستجمع كل أخطاء البشرية في ماضيها وحاضرها.
الآن، المواقف ملتبسة، والطرق مظلمة.. إلا لمن جعل الله له نورًا.
المواقف ملتبسة والطرق مظلمة، لأن هناك فئة محترفة من رجال الدين ـ خيانة أو جهلًا ـ تقول لهم ما زلتم خير أمة أخرجت للناس، مجرد "روتوش" وتعديلات بسيطة وتكون حياتكم على هدّي الخلافة الراشدة. والناس تحب أن تسمع ذلك، ويُخيل إليها ـ مثلما خُيل لليهود والنصارى من قبل ـ أنهم أبناء الله وأحباؤه!.
المواقف ملتبسة والطرق مظلمة، لأن مرضي النفاق والجبن أصبحا مكوناً أساسياً من تركيب الإنسان.. وصياغة طبيعية في حياته وسلوكه!.
المواقف ملتبسة والطرق مظلمة، لأن المستكبرين والمستضعفين أصبحا لُحمة واحدة ونسيجاً ممتداً يغذي بعضه بعضا، المستكبرين يتوحشوا استكبارًا وعلوًا وفسادًا.. والمستضعفين يزدادوا استضعافًا ثم يلهثوا خلف المستكبرين ليلعقوا الفتات الساقط منهم، ولتتصل بأطراف ذيولهم ـ ولو من بعيد ـ عساها أن تدرك مصلحة أو منفعة.
المواقف ملتبسة والطرق مظلمة، لأن الرسالة السماوية الخاتمة، أصبحت عقيدة باردة في العقول، أو مسمى ينتقل إلى الأجيال عبر شهادات الميلاد، أو ـ في أحسن الأحوال ـ عبادة وشعائر تؤدى بلا رصيد من شعور أو أخلاق أو سلوك. وهي أسمى الرسالات السماوية في محاربة الظلم وأهله.. وتحقيق الحق والعدل الرباني، واستنهاض النفس الإنسانية وتحريرها من الذل والعبودية لغير الله أيًا كانت صور العبادة هذه.
المستكبرين: يحاربون الرسالة السماوية الآن، كما لم يحاربها أحدًا من قبل.. ورغم ذلك يزعمون لأنفسهم أمام الناس أنهم من أهل هذه الرسالة، وكثير من الناس يصدقهم، وربما هم يصدقون ذلك في أنفسهم!!.
المستضعفين: يتخلون عن الرسالة السماوية الآن، كما لم يتخلى عنها أحدًا من قبل.. ورغم ذلك يزعمون لأنفسهم أنهم أهل هذه الرسالة، والغالبية العظمى من الناس تصدق ذلك!!.
وهذا "الزعم" الباطل هو رأس البلاء وعموده.. هذا الزعم هو أحد صور النفاق التي تشكلت وتبلورت واستجمعت كل أمراض السنين الفائتة، وأغلب الانحرافات النفسية الحادثة، لأن الجميع يكذب.. يكذب على نفسه أو على من حوله، ثم يصدّق هذا الكذب. لا يكذب ويعترف في قرارة نفسه أنها كذاب أو منافق، بل يصدق كذبه، بل ويرفض أي أحد يواجهه بهذا الكذب..!
وأخطر أحوال الكذب أو النفاق، هو الكذب في الشعور أو في الفكر أو في السلوك. ولقد نادى الله سبحانه عباده المؤمنين ـ فما بالنا بمن هو دونهم ـ محذرًا إياهم من "المقت الأكبر" الذي وصفه الله تعالى بمخالفة الأقوال للأفعال، فقال ـ جلّ في علاه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1، 2]
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد من الزعم الباطل وتبلور النفاق على هذه الصورة، بل يتعدها إلى صورة أفظع.. وهي صورة الأقنعة المتعددة للنفس الواحدة.. والتي تلبس قناع لكل حالة تمر بها.. حتى يغيب عن الذهن، وعن الضمير، وعن العقل.. الزيف من الحقيقة، الحق من الباطل، الأصل من الخداع..
ويصبح الإنسان بعدها لا يدري ذاته.. ما هو؟! أهو الأصل أم القناع؟! يفقد ملامحه.. يسخر من كل شيئ.. يتقبل كل شيئ!..
وليس هذا فحسب.. بل يصدّق الإنسان نفسه ويقتنع في هذه الأقنعة، ويحسبها حقيقة طبيعية فيه.. وهكذا يدور في هذه الدائرة المغلقة من الكذب والنفاق، كلما كذب.. صدّقت نفسه هذا الكذب، ومضى باطمئنان.. بلا ألم في قلب، أو وخز من ضمير، أو صيحة من عقل.. أو رغبة صادقة في التغيير؛ بعدها تتفتت النفس الإنسانية، وتتناثر أشلاءها على جنبات الحياة.
إضافة إلى هذا النفاق، يأتي "الجبن" ليستكمل بقية الانحراف.. يَجبن المستكبرين عن قتل نفوسهم المستكبرة، من أجل ميلاد نفس مستسلمة لله سبحانه، ويَجبن المستضعفين عن قتل نفوسهم المستعبدة من أجل ميلاد نفس حرة مكرمة لله سبحانه. والذي يَجبن عن مواجهة نفسه، حتمًا سيَجبن عن مواجهة واقعه وحياته.
{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام55] وكلما تبيّنت سُبل المجرمين ـ من المستكبرين والمستضعفين ـ  كلما رُفع الالتباس، وكلما استنارت الطرق.. ولم يبق سوى أن يختار الإنسان..
من وراء هذه الصور والمواقف، يتجّلى ويشرق سبيل نجاة.. وهو غير سبيل المستكبرين، وغير طريق المستضعفين، إنما هو سبيل المؤمنين.. سبيل المتقين.
سبيل النجاة هو ذاك السبيل الذي تكون فيه النفس الإنسانية بلا استكبار، وما يصيبه في النفس من أمراض مُهلكة، ولا هو السبيل الذي تكون في النفس مستضعفة مستعبدة مستذلة وما يسببه من تدمير البنية النفسية للإنسان.
سبيل النجاة هو ذاك السبيل الذي يملك فيه الإنسان من الصدق والشجاعة ما يمحق به نفاقه وجبنه.
سبيل النجاة هو ذاك السبيل الذي يعاكس سبل المستكبرين، ويعاكس كذلك سبل المستضعفين.
سبيل النجاة هو ذاك السبيل الذي يكتشفه الإنسان وهو يمضي بإرادة صادقة قوية، وقلب طاهر، ونفس سوية.. يبحث كيف يؤدي أمانة تلك الرسالة التي أرسلها الله تعالى للناس جميعًا.. فالله سبحانه يقول:  {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت 69]
وقد يُستضعف الإنسان ـ أو يمر بمرحلة استضعاف ـ وهو يمضي في سبيل النجاة.. وفي هذا الاستضعاف يقول الله سبحانه: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص5] وهذا الاستضعاف ليس هو الاستسلام والذلة والاستعباد لأهل الاستكبار.. بل هو على العكس من ذلك تمامًا..
إن هذا الاستضعاف إنما هو مرحلة من مراحل الحياة في سبيل النجاة.. أو في سبيل مقاومة الظالمين، تطول أو تقصر أو حتى تمضي الحياة كلها فيه، فهذا أمر مردّه إلى الله، الذي له في كل قضاء حكمة، وفي كل حكم رحمة.. سبحانه!.
أي هو طريق "الجهاد الدائم" في سبيل حياة صادقة ربانية.. تستسلم فيه النفس لله رب العالمين، وينشط فيه العقل بحرية ـ بلا أغلال ولا آصار ـ لاستكشاف سُبل الحياة الطيبة، ويمتلأ القلب فيه بحب الله سبحانه، وبحب الحياة والوجود.. وبحب الإنسان الذي يريد أن ينقذه من النار، أو كما قال الله تعالى، على لسان رسوله الكريم:  { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام162]
وفي مقاومة سُبل المستكبرين يُحدد حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطريق في وضوح شديد، وكشف ـ بوحي من الله ـ ما سيكون من الغيب، يقول الرسول الكريم: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم. ولكن من رضي وتابع" [ أخرجه مسلم]
فتحدد سبيل النجاة ـ في هذا الموقف ـ في "الكره" الذي يرفض هذا الواقع، ويقيم مكانه حياة ربانية. ويتحدد كذلك في "استنكار" هذا الواقع، الذي لا يشارك فيه، ولا يغذيه، أو يكون جزءًا فيه.. وما وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان، وأما طريق الهلاك فهو في من "رضي وتابع".
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف 146]
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [آل عمران146]
كُتبت في:  21 - 7 - 2008

* * *